تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها (2)

0 1510

أمام شجرة الإيمان، وقفنا في مرحلة سابقة لنقطف ثمرة: "الدفاع الإلهي عن أهل الإيمان" من هذه الشجرة الباسقة، وسلطنا الضوء على هذا الدفاع وأدلته، ونماذج وقوعه وشواهد حصوله، وأنه حقيقة لا ريب فيها، وإن تأخرت أسبابه؛ لحكمة إلهية قد تخفى حقيقتها علينا.

واليوم، نتجه صوب ثمرة أخرى من ثمار الإيمان اليانعة، ثمرة تهفو إليها النفوس، وتصبوا لها القلوب، وتتطلع إليها الأنظار؛ لأن الحائز عليها حبيب الرحمن، والظافر لها قريب من الكريم المنان، تلك هي ثمرة: الولاية الإلهية لأهل الإيمان.

أسعد الناس بهذه الولاية هو من أحسن في إيمانه، وأحسن في عمله، وأحكم تقواه، والله سبحانه وتعالى مدح في كتابه أولياءه، مدحا يقتضي عظيم منزلتهم، ورفعة درجتهم، وجميل ثوابهم، وكريم مآبهم، وحسن عاقبتهم، ثم ربط هذه الولاية بصفة الإيمان، فلا ينالها إلا المؤمنون، ولا يحظى بها إلا المتقون، ونجد ذلك ماثلا في سورة يونس في قوله تعالى: {ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون * الذين آمنوا وكانوا يتقون * لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة لا تبديل لكلمات الله ذلك هو الفوز العظيم} (يونس:62 – 64).

فانظر كيف استطاعت هذه الآيات القرآنية العظيمة أن تحدث الاستثارة الذهنية عند المستمع إليها، تجاه الطريق الذي يوصل إلى هذا المقام الإيماني البديع، فليس أعظم عند أهل التوحيد من نيل الولاية الإلهية، فهم الذين: {لا خوف عليهم ولا هم يحزنون}، فلا حزن على ما أسلفوا في حياتهم، ولا حسرة على ما فاتهم من حظوظ الدنيا، وفي المقابل: لا خوف فيما يستقبلونه مما أمامهم من المخاوف والأهوال، بدءا بلحظة فراق الروح للجسد، ومرورا بالحياة البرزخية، حتى وصولهم إلى دار القرار، فإن موئلهم إلى جنات النعيم، في مقعد صدق عند مليك مقتدر.

ثم نبصر بين ثنايا الآيات خيطا رفيعا يصل بين هذه الولاية وبين صفات من يستحقها، لنصل إلى جوهر القضية ولبها: {الذين آمنوا وكانوا يتقون}، فالإيمان هنا متطلب أساسي لتحقق هذه الولاية، وفيها استيثاق بحقيقة الإيمان ويقين بمفرداتها، ومن خلالها يدرك المرء أنه لم يوجد على هذه الحياة هملا، ولم يترك سدى، ولم يخلق عبثا، بل وجوده مرتبط برسالة جليلة وغاية عظيمة، فمن الطبيعي أن تجول هذه الحقائق الإيمانية في نفس المؤمن لتنهض صاحبها وتحمله على العمل الصالح، واتباع الأوامر، واجتناب النواهي، وقبول الحق والانقياد له، وتحقيق التقوى، ولذلك الترابط في النص السابق بين الإيمان والتقوى.

وكلما ترقى الإنسان في منازل الإيمان والإحسان، وتزود بزاد التقوى، كلما كان إلى ربه أقرب، حتى يكون القرب مقتضيا لولاية خاصة ومحبة ظاهرة من الله سبحانه وتعالى، إلى حد يتولى فيها ذو الجلال والإكرام الدفاع عن صاحبها وإعلان الحرب على أصحاب العداوة لأهل الولاية، نجد ذلك في حديث أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (إن الله قال: من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضت عليه، وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته: كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، وإن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه) رواه البخاري.

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: "هؤلاء الذين أحبوا الله محبة كاملة، تقربوا بما يحبه من النوافل بعد تقربهم بما يحبه من الفرائض، فأحبهم الله محبة كاملة حتى بلغوا ما بلغوه، وصار أحدهم يدرك بالله، ويتحرك بالله، بحيث أن الله يجيب مسألته، ويعيذه مما استعاذ منه".

وإذا كان خير ما يؤمله الإنسان في حياته هو أن تتحقق له البشارات، وأن يرزق بالبركات، فإن لأهل الإيمان بشارات في الدنيا والآخرة، أما بشراهم في الدنيا: فبما يرون من حسن العناية الإلهية والعطايا الربانية، ولزوم التوفيق في أمورهم الحياتية، وما يكلؤهم به من الخير في الليل والنهار، ومن ذلك ولا شك: ما يرونه من حسن ثناء الناس عليه في حياته، ولسان الصدق الذي يبقى بعد مماته، فيلحقه الذكر الجميل، وتلهج الألسن بالدعاء له، فعن أبي ذر الغفاري رضي الله عنه قال: قيل لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-: أرأيت الرجل يعمل العمل من الخير، ويحمده الناس عليه؟ فقال عليه الصلاة والسلام: (تلك عاجل بشرى المؤمن) رواه مسلم في صحيحه.

ومن ذلك أيضا: ما يراه المسلم من الرؤيا الحسنة التي تثبته على الحق، وتورثه السكينة والطمأنينة، وتعينه على نوائب الحياة وصعوباتها، وقد ورد في ذلك قول النبي –صلى الله عليه وسلم-: (أيها الناس، إنه لم يبق من مبشرات النبوة إلا الرؤيا الصالحة، يراها المسلم، أو ترى له) رواه مسلم، بل ورد الأمر صراحة في التفسير النبوي لقوله تعالى: {لهم البشرى في الحياة الدنيا} فقد قال –صلى الله عليه وسلم-: (هي الرؤيا الصالحة، يراها المسلم، أو ترى له) رواه مسلم.

وأما البشرى في الحياة الآخرة، فهي في الحقيقة سلسلة متتالية من البشريات، أولها: عند قبض الروح، قال تعالى: { إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون} (فصلت:30)، كذلك التثبيت في القبر عند السؤال، والنافذة التي يفتحها الرحمن لأهل الإيمان في قبورهم، فهم متقلبون بين أعطاف البشريات الإلهية، حتى يأتي وعد الله يوم القيامة لينالوا أعظم البشريات على الإطلاق: دخول الجنة، والنجاة من النار، والرضا الأبدي من الرحيم الغفار: { وعد الله المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ومساكن طيبة في جنات عدن ورضوان من الله أكبر ذلك هو الفوز العظيم } (التوبة:72).

إذا كان للأولياء هذه المنزلة العظيمة، فهل شرط الولاية الخلو من الذنوب؟ وهذا يقودنا إلى سؤال أكبر: هل الولاية تتفاضل؟ فالجواب أن الولاية لا تشترطها، لأن الولاية درجات كدرجات الإيمان، فبحسب إيمان العبد وتقواه تكون ولايته لله تعالى، فمن كان أكمل إيمانا وتقوى، كان إلى الله أقرب، فأولياء الله نوعان: المقربون السابقون، الذين تقربوا إليه بالنوافل بعد الفرائض، والمقتصدون في الطاعات، المؤدون للفرائض والمجتنبون للمحارم، وأما من كان ظالما لنفسه من أهل الإيمان: فمعه من ولاية الله بقدر إيمانه وتقواه، كما قرر ذلك العلماء، فحمدا لك اللهم على ما أنعمت به على أهل الإيمان وفضلتهم على كثير من خلقه تفضيلا.
 

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة