رضينا برسول الله قسْماً وحظّاً

0 1636

في شهر شوال من السنة الثامنة من الهجرة كانت غزوة حنين آخر غزوات النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لمشركي العرب، والتي دارت رحاها في حنين، وهو واد أجوف ذو شعاب ومضايق قريب من الطائف، بينه وبين مكة بضعة عشر ميلا من جهة عرفات، وهذه الغزوة فيها من الدروس التربوية الكثير، وقد أشار الله تعالى إليها في القرآن الكريم، فقال تعالى: { لقد نصركم الله في مواطن كثيرة ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئا وضاقت عليكم الأرض بما رحبت ثم وليتم مدبرين * ثم أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وأنزل جنودا لم تروها وعذب الذين كفروا وذلك جزاء الكافرين }( التوبة: 25 : 26 ) .
والمتأمل في هذه الغزوة يرى حكمته وفقهه ـ صلى الله عليه وسلم ـ في معاملة النفوس، وعلاج ما بها من خلل أو خطأ، ومن ذلك موقفه ـ صلى الله عليه وسلم ـ مع الأنصار .

بعد أن تحقق النصر للمسلمين في هذه الغزوة، أمر رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بجمع الغنائم، وكانت نحو أربعة وعشرين ألف بعير، وأكثر من أربعين ألف شاة، وأربعة آلاف أوقية من الفضة، وأمر أن تساق إلى الجعرانة، ثم وزع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ هذا الخير على المسلمين، وأعطى قبائل العرب عطايا ملأت رحب الفضاء من النعم والشاء والغنم، ومن الذهب والفضة والمال، تأليفا لقلوبهم لحداثة عهدهم بالإسلام، فأعطى لزعماء قريش وغطفان وتميم عطاء عظيما، إذ كانت عطية الواحد منهم مائة من الإبل، ومن هؤلاء: أبو سفيان بن حرب، وسهيل بن عمرو، وحكيم بن حزام، وصفوان بن أمية، وعيينة بن حصن الفزاري، والأقرع بن حابس، وترك الأنصار لعلمه بقوة إيمانهم .
وكان هدف النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ من هذا العطاء المجزي للبعض ـ مع تأليفهم وتثبيتهم ـ تحويل قلوبهم من حب الدنيا إلى حب الإسلام، بعد أن يخالط الإيمان بشاشة قلوبهم، ويتذوقون حلاوته، وقد حدث ذلك بالفعل، فعن أنس بن مالك ـ رضي الله عنه ـ قال : ( إن كان الرجل ليسلم ما يريد إلا الدنيا، فما يسلم حتى يكون الإسلام أحب إليه من الدنيا وما عليها ) رواه مسلم .

غير أن بعض أهل الزيغ والنفاق انتقد رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في صنيعه هذا ونسبه إلى الجور والظلم، فخاطب رسول ـ الله صلى الله عليه وسلم ـ بلهجة تنبئ عما انطوت عليه نفسه من الحقد والنفاق، فعن جابر ـ رضي الله عنه ـ قال: ( أتى رجل بالجعرانة منصرفه من حنين وفي ثوب بلال فضة، ورسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقبض منه ويعطي الناس، فقال: يا محمد اعدل، فقال: ويلك، ومن يعدل إذا لم أعدل؟، لقد خبت وخسرت إن لم أكن أعدل، فقال عمر بن الخطاب: دعني يا رسول الله فأقتل هذا المنافق، فقال: معاذ الله أن يتحدث الناس أني أقتل أصحابي، إن هذا وأصحابه يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يمرقون منه كما يمرق السهم من الرمية ) رواه مسلم .
يقول ابن القيم : " ومعلوم أن الأنفال لله ولرسوله يقسمها رسوله حيث أمره لا يتعدى الأمر، فلو وضع الغنائم بأسرها في هؤلاء لمصلحة الإسلام العامة، لما خرج عن الحكمة والمصلحة والعدل، ولما عميت أبصار ذي الخويصرة التميمي وأضرابه عن هذه المصلحة والحكمة .. قال له قائلهم: اعدل فإنك لم تعدل، وقال مشبهه: إن هذه لقسمة ما أريد بها وجه الله .. ولعمر الله إن هؤلاء من أجهل الخلق برسوله، ومعرفته بربه، وطاعته له، وتمام عدله، وإعطائه لله، ومنعه لله " .

وقد تأثر بعض الأنصار من هذا العطاء بحكم الطبيعة البشرية، فعالج النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ هذا الموقف بحكمة ورفق، مبينا فضل الأنصار وحبه ـ صلى الله عليه وسلم ـ لهم .
عن أبى سعيد الخدري ـ رضي الله عنه ـ قال : ( لما أعطى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ما أعطى من تلك العطايا في قريش وقبائل العرب، ولم يكن في الأنصار منها شيء، وجد (غضب) هذا الحي من الأنصار في أنفسهم حتى كثرت فيهم القالة، حتى قال قائلهم : لقي رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قومه، فدخل عليه سعد بن عبادة ، فقال : يا رسول الله، إن هذا الحي قد وجدوا عليك في أنفسهم لما صنعت في هذا الفيء الذي أصبت، قسمت في قومك وأعطيت عطايا عظاما في قبائل العرب، ولم يكن في هذا الحي من الأنصار شيء، قال: فأين أنت من ذلك يا سعد ؟، قال: يا رسول الله، ما أنا إلا امرؤ من قومي، وما أنا من ذلك، قال : فاجمع لي قومك في هذه الحظيرة، قال : فخرج سعد فجمع الناس في تلك الحظيرة، قال : فجاء رجال من المهاجرين فتركهم، فدخلوا وجاء آخرون فردهم، فلما اجتمعوا أتاه سعد ، فقال : قد اجتمع لك هذا الحي من الأنصار، قال : فأتاهم رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فحمد الله وأثنى عليه بالذي هو له أهل، ثم قال : يا معشر الأنصار ما قالة بلغتني عنكم وجدة وجدتموها في أنفسكم، ألم تكونوا ضلالا فهداكم الله، وعالة ( فقراء) فأغناكم الله، وأعداء فألف الله بين قلوبكم؟ قالوا: بل الله ورسوله أمن وأفضل، قال: ألا تجيبونني يا معشر الأنصار؟، قالوا: وبماذا نجيبك يا رسول الله، ولله ولرسوله المن والفضل، قال: أما والله لو شئتم لقلتم، فلصدقتم، وصدقتم، أتيتنا مكذبا فصدقناك، ومخذولا فنصرناك، وطريدا فآويناك، وعائلا فآسيناك، أوجدتم في أنفسكم يا معشر الأنصار في لعاعة من الدنيا تألفت بها قوما ليسلموا، ووكلتكم إلى إسلامكم، ألا ترضون يا معشر الأنصار أن يذهب الناس بالشاة والبعير وترجعون برسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في رحالكم؟، فوالذي نفس محمد بيده لولا الهجرة لكنت امرأ من الأنصار، ولو سلك الناس شعبا، وسلكت الأنصار شعبا لسلكت شعب الأنصار، اللهم ارحم الأنصار، وأبناء الأنصار، وأبناء أبناء الأنصار، قال: فبكى القوم حتى أخضلوا لحاهم، وقالوا: رضينا برسول الله قسما وحظا، ثم انصرف رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وتفرقوا ) رواه أحمد .

فضل الأنصار :

بلغ حب النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ للأنصار مبلغا عظيما حتى تمنى أن لو كان واحدا منهم، وقد بوب البخاري في صحيحه : " باب حب الأنصار من الإيمان " .
والأحاديث التي أثنى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فيها على الأنصار مشيرا إلى فضلهم ومنزلتهم كثيرة، منها :
عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ( لو أن الأنصار سلكوا واديا أو شعبا لسلكت في وادي الأنصار، ولولا الهجرة لكنت امرأ من الأنصار ) فقال أبو هريرة ـ رضي الله عنه ـ : " ما ظلم بأبي وأمي! آووه ونصروه " رواه البخاري .
وجعل النبي - صلى الله عليه وسلم - حبهم علامة على الإيمان، وبغضهم أمارة على النفاق، فعن أنس ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : ( آية الإيمان حب الأنصار وآية النفاق بغض الأنصار ) رواه البخاري .
وعن البراء بن عازب ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله ـ صلى الله علبيه وسلم ـ: ( الأنصار لا يحبهم إلا مؤمن، ولا يبغضهم إلا منافق، فمن أحبهم أحبه الله، ومن أبغضهم أبغضه الله ) رواه البخاري .
وقبل وفاته ـ صلى الله عليه وسلم ـ بأيام أوصى بهم قائلا: ( أوصيكم بالأنصار، فإنهم كرشي وعيبتي (بطانتي وخاصتي)، وقد قضوا الذي عليهم، وبقي الذي لهم، فاقبلوا من محسنهم، وتجاوزوا عن مسيئهم ) رواه البخاري .
ويكفي في فضلهم وحب النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لهم دعاؤه بالمغفرة لهم، ولأبنائهم، وأبناء أبنائهم،ونسائهم، فعن زيد بن أرقم - رضي الله عنه - أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: ( اللهم اغفر للأنصار، ولأبناء الأنصار، ولأبناء أبناء الأنصار، ولنساء الأنصار ) رواه البخاري .

لقد اتبع الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ مع الأنصار منهجا تربويا حكيما لعلاج تأثرهم بتوزيعه للغنائم في حنين، وخاطب فيه عقولهم وعواطفهم، فكانت النتيجة أن انقادوا طائعين مختارين راضين بقسمة الله تعالى ورسوله قائلين: ( رضينا برسول الله قسما وحظا ) . 

 

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة