- اسم الكاتب:إسلام ويب
- التصنيف:مقدمات عامة
شاء الله سبحانه وتعالى أن يكون الإسلام هو كلمة الله الباقية للناس كافة وإلى قيام الساعة، فقال جل جلاله: {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا}(المائدة:3)، فاصطفى الله سبحانه وتعالى هذا الدين، والذي هو أفضل الأديان وأشرفها وأكملها وآخرها، وجعل الشريعة التي جاء بها مهيمنة على الشرائع السابقة وحاكمة عليها.
وحتى تتحقق هذه الخاتمية استلزم ذلك أن تتصف بصفات وتتميز بخصائص تعطي لها الصلاحية لكل زمان ومكان.
فمن ذلك: اتصاف الشريعة بالواقعية، ونعني بالواقعية: أن الشريعة بتعاليمها ليست مجرد قيم عليا تحلق في سماء التنظير المجرد الحالم، ولكنها تنبثق من واقع الناس وتراعي واقعهم، وتتلاءم مع فطر الناس وتكوينهم، وميولهم ورغباتهم، وتباين قدراتهم وملكاتهم، وما يلحقهم من نقائص وحالات ضعف، فضلا عن مراعاتها لظروف الواقع وملابساته.
وشريعة الإسلام لا تغفل طبيعة الانسان وتفاوت الناس في مدى استعدادهم لبلوغ المستوى الرفيع الذي ترسمه لهم، فلذلك بينت للناس الحد الأدنى من الكمال الخلقي والعقدي والعبادي المطلوب، وحددت الأطر العامة من القضايا التشريعية التي لا يجوز الانفكاك عنها، وأن ذلك يقتضي ممارسة جملة من المأمورات (الفرائض)، والابتعاد عن أخرى (المحرمات)، وجعلت فيما بينهما مساحة هائلة من الأمور المباحة الطيبة التي لا تبعة عليها.
وواقعية الشريعة تتجلى في إلزام الناس بما يطيقون فعله أو الانتهاء عنه، فلا تكليف بما لا يطاق، قال الله سبحانه وتعالى: {وما جعل عليكم في الدين من حرج} (الحج:78)، وقال سبحانه وتعالى: { لا يكلف الله نفسا إلا وسعها} (البقرة:286)، فلا إصر ولا أغلال، بل هو دين سمح يسير على العباد.
وواقعية الشريعة أيضا في موازنتها بين بين المثالية الحالمة التي نادى بها بعض الفلاسفة، - حيث تتناسى ما في النفس من نوازع النفس ونقائصها وعيوبها، وتتطلب من الجميع التعامل مع بعضهم كالملائكة، ولا مجال فيها للخطأ أو الكبوة، وغيرها من مقتضيات المثالية الفارغة التي تعيش في الخيال وفوق عنان السماء- فالإسلام بين هذه المثالية، وبين الرضوخ التام للواقع والإذعان له، مهما كان مجافيا للقيم والأخلاق، ومميعا للنظم والمناهج والشرائع، وبذلك يسلك طريقه المتزن بين هاتين الهوتين.
ومن ملامح واقعية الشريعة: عدم التكليف بما لا يطاق، كما جاء في الآية سابقة الذكر، وما يفهم من قوله عز وجل:{ فاتقوا الله ما استطعتم} (التغابن:16)، فلا واجب مع وجود العجز، ولا محرم حال الضرورة، كما وضع الله سبحانه وتعالى عن هذه الأمة المشقة والآصار التي كانت على الأمم السابقة، فلا مؤاخذة على النسيان والخطأ، ولا مجازاة على تصرفات المكلف حال الإكراه، كما قال المصطفى -صلى الله عليه وسلم- : (إن الله قد تجاوز عن أمتي الخطأ، والنسيان، وما استكرهوا عليه) رواه ابن ماجه ، والمشقة تجلب التيسير، إما بإسقاطه عن المكلف، كسقوط كل واجب مع وجود العجز، أو إسقاط بعضه كالاكتفاء بالاستجمار الشرعي عن الاستنجاء، والتخفيف الحاصل للمريض والمسافر، ونحو ذلك من الرخص المعروفة في أبواب الفقه.
ومن ملامح واقعية الشريعة، أنها أقرت وعلى وجه العموم كل المبادئ التي تحقق العدالة وتؤسسها، كما هو الحال مع أحكام القصاص التي تعطي المظلوم كامل الحق في الانتصاف ممن ظلمه، قال سبحانه وتعالى: { ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب لعلكم تتقون} (البقرة:197)، وفي آية أخرى: { فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم} (البقرة:194)، لكننا نرى أن الشريعة مع إقرارها لمبدأ العدل والتشديد في أمره، قامت في الوقت ذاته بفتح المجال للسمو الخلقي والتسامي عن حظوظ النفس وأخذ حقوقها، فأرشدت إلى فضيلة العفو وجمالية الصفح، ونجد هذه الثنائية المتوازنة: "المعاملة بالعدل-المعاملة بالفضل" في مثل قوله سبحانه وتعالى: { وجزاء سيئة سيئة مثلها فمن عفا وأصلح فأجره على الله إنه لا يحب الظالمين} (الشورى:40).
وإذا كان الله جل جلاله ينصر الدولة العادلة ولو كانت كافرة، ويخذل الدولة الظالمة ولو كانت مسلمة، فذلك لأن إقرار العدل سبب في استقرار أمور الناس، لكن فتح باب العفو والرحمة والإحسان يزيل الضغائن والأحقاد بين الأفراد، ويزيد من لحمة النسيج الاجتماعي فيما بينهم.
وكلما تأمل المرء فيما شرعه الله سبحانه وتعالى لعباده في كل قضية جزئية، ثم طاف ببصره أرجاء الديانات الباطلة، اتضحت له ملامح هذه الواقعية وارتباطها بأسس العقيدة ومنظومتها.