- اسم الكاتب:د. عبد الكريم بكار
- التصنيف:ثقافة و فكر
كلما تقدم البحث العلمي وتراكمت الخبرات المنهجية تبين لنا أن قدرات العقل تعي أقل مما كان يظن. ولا أقصد بالقدرات ما يمتلكه العقل من إمكانات هائلة على صعيد معالجة المعلومات، وعلى صعيد التنظيم وإعادة تشكيل الصيغ، وإنما أقصد قدراته على صعيد إصدار الأحكام في الشؤون الإنسانية وفي تحديد الأهداف الكبرى والغايات النهائية.
إننا نكتشف يوما بعد يوم أهمية المعرفة في هذه الأمور وضآلة الدور الذي يمكن أن يقوم به الدماغ. وقد تبين أن الفراغ المعرفي والمعلوماتي هو البلاء الأكبر الذي يمكن أن ينـزل بساحة العقل ، ومن هنا تتبين الحكمة البالغة في الحث على القراءة والاطلاع وطلب العلم. إن عمل العقل وهو يفكر يشبه من يسلك طريقا صحراويا طويلا من غير أي خبرة سابقة بذلك الطريق. إنه يعرف أن عليه ليس أن يصل إلى هدفه فحسب، وإنما عليه أيضا أن يحفظ تضاريس الطريق حتى يتمكن من العودة إلى وطنه، ولا يهلك في متاهات الصحراء, ولهذا فإنه طيلة الرحلة يحاول تلمس العلاقات والدالات التي يتمكن بسببها سلوك الطريق في رحلة الإياب.
ولهذا فإنه مشغول بحفظ الجبال التي يمر من جانبها الطريق، ويحفظ مسافات انعطافاته ذات اليمين وذات الشمال... هكذا العقل حين يبدأ بتكوين المرتكزات التي سيقوم عليها عمله. إنه يجمع الفكرة مع الفكرة والملاحظة مع الملاحظة والمقولة مع المقولة.. حتى يتمكن من بناء منطقيته الخاصة وأنساقه الشخصية، وهو يتشبث بما ينتهي إليه من ذلك كما يتشبث سالك الطريق الصحراوي بالعلامات التي استطاع الحصول عليها.
إذا أراد سالك ذلك الطريق القيام برحلة أخرى فإنه سيجد أن من السهل عليه سلوك عين الطريق، حيث زادت خبرته به، وصارت إمكانية العودة منه أكبر، كما نشأت بينه وبين ذلك الطريق ألفة نفسية تقترب من الحنين. ولهذا فإنه إذا نصح بسلوك طريق أقرب من ذلك الطريق أو مزود بخدمات أفضل... فإنه سوف يستوحش من ذلك، ويتبع الحكمة الشهيرة: "الذي تعرفه خير من الذي ستتعرف عليه".
طبعا سيكون موقفه من الطريق الجديد المقترح مختلفا تماما فيما لو أنه قبل الشروع في أي سفر اطلع على خارطة جيدة توضح له كل الطرق التي يمكن أن يسلكها وميزات وعيوب كل واحد منها. إنه في هذه الحالة يغير من طريق إلى طريق بسهولة؛ لأن الطريق الذي سلكه كان قد سلكه وهو يعرف أنه ليس هو الطريق الوحيد، وليس هو الطريق الحائز على كل الميزات والمبرأ من كل العيوب. هكذا العقل حين يفكر ويشتغل في حالة شح معرفي ونقص في المعطيات الجيدة. إنه يعد كل ما توصل إليه من مقولات ومرتكزات وأنساق شيئا ثمينا ونادرا، لا يمكن الاستغناء عنه أو مسه بأي تعديل.
لقد أصبح العقل أسيرا لمقولاته، مكبلا بأغلال صنعها بيديه، وباتت تتحكم بعمله. وسيكون الأمر مختلفا لو كان أمام العقل عند بدايات عمله مخزون معرفي جيد. إنه حينئذ سيدرك أنه يتبع خيارات، وليس يخضع لحتميات ولهذا فإنه يكون عقلا مرنا متجددا مستوعبا للجديد دون أن يفقد صلته بالقديم.
هذا كله يعني أن علينا أن نستمر في أمرين جوهريين:
الأول: هو التزود من العلم، فنحن لا نعرف إلا القليل، بل أقل القليل، وما نجهله أكثر بكثير مما نعرفه. وبما أن المعارف تتضاعف كل عقد أو عقدين، فهذا يعني أن جهلنا جديد.
الثاني: هو التحرر العقلي الدائم. إن علينا أن نختبر مقولاتنا وطرق تفكيرنا، ونحاول مراجعتها وتعديلها بما يتواكب مع مسيرة النضج التي نمضي فيها. بعض الناس يعتقد أننا نعيش في أسوأ زمان مر على أمة الإسلام بسبب ما يراه من انتشار المعاصي، وسيطرة الأعداء على الأمة... ومن هنا فإنه انطلاقا من هذا المعتقد يرى بعيني صقر كل السلبيات الماثلة في حياة المسلمين وكل المشكلات التي يعانون منها. وإذا ذكر أمامه شيء من الإيجابيات هون من شأنه أو وجد له نوعا من التأويل يجعله في مصاف السلبيات!
قسم آخر من الناس لديه اعتقاد أن الأمة بخير، ولهذا فإن عقله الباطن يساعده على اكتشاف ما لا يحصى من الإيجابيات، والتهوين من شأن السلبيات، فريق آخر من الناس انطلق في تحليله لأسباب ما نحن فيه من منطلق (القصور الذاتي) فهو يعيد كل أشكال التخلف في حياة الأمة إلى التحلل الداخلي، وعدم قيام المسلمين بفروضهم الشرعية والحضارية ، وهو لا يقيم لتخريب الأعداء وتآمرهم أي وزن!
هناك قسم آخر يقف في الضفة المقابلة فهو لا يرى إلا تآمر الأعداء وتدخلهم السافر في شؤوننا، وهو يعتقد أن الأمة لو تركت وشأنها لما عانت من أي مشكلة وهكذا... ومن الواضح أن الرؤية الصحيحة تقع بين ما يراه هذان الفريقان من المسلمين. لو تساءلنا كيف يكون في إمكاننا التخفيف من القولبة الذهنية في حياتنا الشخصية.
وفي حياة الناس من حولنا فقد نجد أن علينا أن نفعل الآتي :
- الأشخاص المقولبون ذهنيا يميلون إلى الصرامة والعناد. وهم يعدون من الأصناف التي تتصف بالصراحة المتناهية والميل إلى فرض أفكار غير متفق عليها. وقدرتهم - على ترويض أنفسهم للتعامل مع الآخرين بعدل - محدودة، كما أن قدرتهم على تجزئة الفكرة واتخاذ مواقف متدرجة من الأفكار المطروحة أيضا محدودة. ويجب أن نتعامل على هذا الأساس، ومن المهم أن ندرك أن القولبة الذهنية ليست شرا خالصا؛ إذ إن المقولبين ذهنيا يحدون من اندفاع المتهورين في مسائل التجديد والتطوير، ويمنحون العمل الذي يكونون فيه درجة من الصلابة والمتانة، كما أنهم يلمون شتاته، ويبثون القوة في النفوس المترددة. إنهم عنصر أمان وعنصر توازن في الوقت نفسه.
- التعامل مع المقولبين ذهنيا يحتاج إلى الكثير من الحكمة واللطف والحذر؛ إذ من السهل أن تزيد في درجة عنادهم وتقوقعهم على أنفسهم، وذلك إذا اتهمتهم بالعناد أو ضيق الأفق. وقد يكون من الملائم اتباع طريقة (بلورة المزايا والعيوب) في مجادلتهم. نقول: ما مزايا قولك؟ ما براهينه، وما مستنداته المنطقية؟ ما العيوب التي تغشاه، وما نقاط ضعفه؟ ويطلب منه أن يطلب ذلك أيضا من مخالفيه.
إن هذه الطريقة تفتح بابا للجدل، وتخفف من لغة التحدي، كما أنها تجعل المقولب ذهنيا يعتقد أن للحوار إيجابيات، ويعترف أيضا بإمكانية وجود درجة من الصحة والقوة للأقوال المخالفة.
- من المهم في تعاملنا مع المقولب ذهنيا أن نتعلم حسن الاستماع، وأن نطلب منه ذلك، وألا نلح في الوصول إلى نتائج فورية. إن جزءا من صلابته تشكل بطريقة غير واعية، وسوف ينتهي أيضا بالطريقة نفسها.
- المقولب ذهنيا لا يملك الحساسية الكافية للتفريق بين ما يشكل رؤية شخصية اجتهادية ظنية، وبين ما يعد من قبيل الثابت والقطعي، وما ينظر إليه على أنه حقيقة مستقرة، انقطع حولها الجدل. وأعتقد أن ضعف هذه الحساسية يشكل جزءا من البنية المعرفية لكل البيئات التي ينتشر فيها الجهل والفقر المعلوماتي، ولهذا فإن من المهم أن نثري تقنيات التفريق بين الظني والقطعي، والشخصي والعام في عالم الأفكار والآراء.
- المقولبون ذهنيا يعطون للعقل دورا بارزا من أجل التعويض عن الثغرات المعرفية في منظومات الاستدلال لديهم. وهنا يكون من المهم التوضيح بأن العقل من غير معرفة جيدة كثيرا ما يكون عاجزا عجزا شبه تام عن رسم الأولويات وعن إصدار أحكام حول العديد من الأمور الجوهرية مثل: اللائق وغير اللائق، والمهم وغير المهم، والآمن والخطر، والمستعجل والمؤجل... ونقوم إلى جانب هذا بتوضيح دور المعلومات في بناء الأفكار والآراء والمواقف والاتجاهات.
- القولبة الذهنية نتاج تعليم مشوه وبيئة يغلب عليها الجهل، وإن التقدم على هذين الصعيدين، سوف يساعد على التخفيف من غلواء هذه المشكلة، ومن الله تعالى الحول والطول.