النُّصْرَةُ بالضعفاء سَهْمٌ لا يُنْسَى وَوَعْدٌ لَا يَخِيبُ

0 1124

 الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
فالنصرة : هي طلب النصر والعون. والأسباب التي يحصل بها النصر نوعان:
النوع الأول : أسباب مادية ملموسة, وهذا النوع هو المشار إليه في قوله تعالى :{وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة } أي: وأعدوا لأعدائكم كل ما تقدرون عليه من القوة العقلية والبدنية وأنواع الأسلحة والآلات ونحو ذلك مما يعين على قتالهم.

ويلاحظ أن هذا النوع هو الذي يغلب على قلوب أكثر الخلق, ويعلقون به وحده حصول النصر والرزق, وفي هذا من قصر النظر وضعف الإيمان وقلة الثقة بوعد الله وكفايته ما الله به عليم.
فالنصر ليس بكثرة عدد ولا عدد ، وإنما هو بيد الله الواحد القهار، الذي يخذل من يريد خذلانهم مهما بلغوا من الكثرة والقوة، ، وفي هذا تنبيه لنا ألا نعتمد على الأسباب مهما بلغت ، فما هي الا طمأنينة للقلوب وتثبيتا لها على الخير والحق ، أما النصر الحقيقي الذي لا معارض له فهو من عند الله ، كما قال جل شأنه: {وما النصر إلا من عند الله العزيز الحكيم}.

ولهذا أدب الله عز وجل صحابة نبيه -وهم خيار الخلق- حين أعجب بعضهم بكثرتهم في غزوة حنين حتى قال قائلهم: لن نغلب اليوم عن قلة ، فوكلوا إلى هذه الكلمة، فكانت الهزيمة في الابتداء ، وفر معظم المسلمين من الميدان, واشتدت عليهم الأزمة حتى ضاقت عليهم الأرض- على رحبها وسعتها- ثم ولوا منهزمين، إلا رسول الله فإنه ثبت ولم يفر، وصمد ولم يتخاذل، بل كان يدعو ربه بدعائه الخاشع قائلا: اللهم أنت عضدي وأنت نصيري بك أحول وبك أصول وبك أقاتل ،
فلما زال العجب عن الصحابة وعرفوا ضعفهم، أنزل الله السكينة عليهم ، وأنزل جنودا من عنده يثبتونهم ويبشرونهم حتى تحقق النصر.

وأما النوع الثاني: فهو الأسباب المعنوية, وهي قوة التوكل على الله, وكمال الثقة به, وقوة التوجه إليه والطلب منه. وهذه الأمور تقوى جدا من الضعفاء العاجزين الذين ألجأتهم الضرورة إلى أن يعلموا حق العلم أن كفايتهم ورزقهم ونصرهم من عند الله, وأنهم في غاية العجز, فتنكسر بذلك قلوبهم, وتتوجه إلى الله ثقة فيه وطمعا في فضله وبره, ورجاء لما في يديه الكريمتين.
فينزل الله لهم من نصره ورزقه ما لا يدركه القادرون, بل وييسر للقادرين بسببهم من أسباب النصر والرزق ما لم يخطر لهم ببال, ولا دار لهم يوما في خيال.

والسر في ذلك أن لله جنود السماوات والأرض ، جميعها في ملكه، وتحت تدبيره وقهره، وهي لفرط كثرتها لا يعلم حقيقتها و عددها و قدرتها الا هو سبحانه ، فهو وحده الذي يكشف عما يريد الكشف عنه من أمرها، في الوقت الذي يريد و بالطريقة والهيئة التي يريدها ، لذا فهي غيب ،كما قال تعالى : { وما يعلم جنود ربك إلا هو وما هي إلا ذكرى للبشر} (المدثر: 31).

وقد يعجب الإنسان حين يعلم أن من هذه الجنود :الضعفاء والمرضي وذوي الاحتياجات الخاصة، ولولا ورود النصوص الصحيحة في ذلك لكان الأمر محور جدل وأخذ و رد ، أسوق من هذه النصوص اثنين:

الأول : ما رواه الامام البخاري في كتاب الجهاد والسير من صحيحه- باب: من استعان بالضعفاء والصالحين في الحرب - عن مصعب بن سعد، قال: رأى سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، أن له فضلا على من دونه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "هل تنصرون وترزقون إلا بضعفائكم".
أراد صلى الله عليه وسلم بذلك حض سعد على التواضع ونفي الزهو على غيره وترك احتقار المسلم في كل حالة .

والسؤال الذي قد يتبادر الى الذهن: ماهي المنزلة التي أراد سعد أن يتميز بها عن إخوانه؟
نجد الجواب شافيا و تتضح لنا الصورة كاملة حين نضم الروايات بعضها إلى بعض ، ففي رواية الامام عبد الرزاق: قال سعد يا رسول الله: أرأيت رجلا يكون حامية القوم ويدفع عن أصحابه أيكون نصيبه كنصيب غيره؟ فذكر الحديث، وعلى هذا فالمراد بالفضل -كما يقول الحافظ ابن حجر -إرادة الزيادة من الغنيمة ، فأعلمه صلى الله عليه وسلم أن سهام المقاتلة سواء، فإن كان القوي يترجح بفضل شجاعته فإن الضعيف يترجح بفضل دعائه وإخلاصه.
و الاستفهام في الحديث للتقرير، أي ليس النصر وإدرار الرزق إلا ببركتهم ، فأبرزه في صورة الاستفهام ليدل على مزيد التقرير والتوبيخ.

الثاني- ما رواه الامام أحمد و الترمذي عن أبي الدرداء، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "أبغوني ضعفاءكم، فإنكم إنما ترزقون وتنصرون بضعفائكم ".
ومعنى أبغوني أي اطلبوا رضاي في ضعفائكم، وتقربوا إلي بالتقرب إليهم وتفقد حالهم وحفظ حقوقهم والإحسان إليهم قولا وفعلا واستنصارا بهم، فهم الأحق بمجالستي، وبالقرب مني.

ومعنى إنما تنصرون وترزقون بضعفائكم: أي إنما تمكنون من الانتفاع بما أخرجنا لكم و تعانون على عدوكم ويدفع عنكم البلاء والأذى بسبب وجود ضعفائكم بين أظهركم ، أو بسبب رعايتكم لهم أو ببركة دعائهم ، وذلك لأنهم أشد إخلاصا في الدعاء وأكثر خضوعا في العبادة لجلاء قلوبهم عن التعلق بزخرف الدنيا ، ومن هنا استدل بعض العلماء على استحباب إخراج الشيوخ والصبيان في صلاة الاستسقاء، فالضعيف إذا رأى عجزه وعدم قوته تبرأ عن الحول والقوة بإخلاص، ورق قلبه واستكان لربه وتضرع إليه فيستجيب الله دعاءه ويحقق له رجاءه، وكم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله ، بخلاف القوي فإنه يظن أنه إنما يغلب الرجال بقوته، فيكله الله الى نفسه على قدر عجبه، ويكون ذلك سببا للخذلان .

والمقصود بالضعفاء : من يكون ضعفه في بدنه (المرض الجسماني ) أو في نفسه (المرض الذهني والنفسي ) أو في حاله (الفقر وقلة ذات اليد ) ، والنصوص تشمل الأنواع الثلاثة ، فإن قيل بأن المقصود بالضعفاء هم من يستضعفهم الناس لفقرهم ورثاثتهم ، لأنهم هم الذين يستطيعون الدعاء والصلاة ، كما في رواية النسائي: قال صلى الله عليه وسلم: " إنما ينصر الله هذه الأمة بضعيفها: بدعوتهم، وصلاتهم، وإخلاصهم".

فالجواب أن الدعاء والصلاة والاخلاص قد تتحقق في النوعين الآخرين، ليس من المريض نفسه و إنما ممن يقوم على رعايته ، فكم من مريض يتضرع أهله إلى الله وتنكسر له قلوبهم أكثر من صاحب المرض ذاته.

الجمع بين التوكل واليقين وبين الأخذ بالأسباب :

قد يظن القارئ الكريم أن هناك تعارضا بين النصوص السابقة وبين النصوص التي تمدح المؤمن القوي وتأمره بالأخذ بالقوة والاستعداد للأعداء ، وعند التأمل نجد أنه لا تعارض، إذ المراد أنه متى تمكن المسلم من الأخذ بأسباب القوة المادية وتيسرت له فعليه أن يسارع ولا يفرط ولا يقصر.

وقد ورد الجمع بين الأمرين في قول الله عز وجل لنبيه: { واعبد ربك حتى يأتيك اليقين } (الحجر :99).

والمعنى: استمر في جميع الأوقات على التقرب إلى الله بأنواع العبادات البدنية والمالية والقلبية، حتى يأتيك الموت، وأنت على ذلك ، وقد امتثل أمر ربه - بأبي هو وأمي- صلى الله عليه وسلم - ، فلم يزل دائبا في العبادة بجميع أنواعها حتى أتاه اليقين،
كما جمع النبي الكريم بين الأمرين في قوله "المؤمن القوي خير، وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف. وفي كل خير. احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز..."

فقوله: احرص على ما ينفعك أمر بكل سبب ديني ودنيوي، بل أمر بالجد والاجتهاد فيه والحرص عليه، نية وهمة، فعلا وتدبيرا.
وقوله: واستعن بالله أمر بالاعتماد التام على الله في جلب المصالح ودفع المضار، مع الثقة التامة في تحقيق ذلك.
أما إذا لم يتمكن المسلم من الجمع بين الأمرين-كأن حبسه المرض في نفسه أو غيره - فعليه خفض الجناح ورقة القلب والانكسار بمشاهدة جلال الجبار.

والخلاصة أن قلب العبد وجوارحه في حالة استنفار تام في ذات الله، الجوارح تستفرغ الوسع في الأسباب حتى يحس صاحبها من نفسه أنه لا مزيد ، والقلب يستجلب رضا الله وعونه وثقته ورجاءه والطمع فيه ، فإن حدث وقعدت به الأسباب فليتحرك بقلبه الى الله ، فإن الله منجز له ما وعد، و ليس هذا فحسب بل ربما تفجرت ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه .

فلنحرص على تذكير الضعفاء وذويهم بهذه المنة، وأن يقبلوا من الله صدقته ، وألا يستصغروا جهودهم ، فدعاؤهم لا يقل تأثيرا في الأعداء عن تأثير الأسباب المادية من أسلحة وعتاد.
اللهم أصلح لنا شأننا كله، ولا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين، ولا إلى أحد من خلقك. آمين
 

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة