- اسم الكاتب:إسلام ويب
- التصنيف:من الهجرة إلى بدر
بعد أن اضطهدت قريش المسلمين في مكة، وأصبحت الهجرة أمرا ضروريا لا مفر منه، تم اختيار يثرب ـ المدينة المنورة ـ مكانا لإقامة الدولة الإسلامية، وقاعدة تنطلق منها قوافل الدعوة إلى الله في أنحاء الجزيرة، وقد اشتهرت المدينة المنورة قبل هجرة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ إليها بأنها بلد يكثر فيه المرض وتنتشر به الحمى، فعن عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت: ( قدمنا المدينة وهي أوبأ أرض الله، وكان بطحان ( وادي ) يجري نجلا أي ماء آجنا ( متغيرا ) ) رواه البخاري .
قال ابن حجر: " وهي أوبأ: بالهمز بوزن أفعل من الوباء، والوباء مقصور بهمز وبغير همز: هو المرض العام، ولا يعارض قدومهم عليها وهي بهذه الصفة نهيه ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن القدوم على الطاعون، لأن ذلك كان قبل النهي، أو أن النهي يختص بالطاعون ونحوه من الموت الذريع لا المرض، ولو عم، قالت: فكان بطحان: يعني وادي المدينة، وقولها: يجري نجلا: تعني ماء آجنا هو من تفسير الراوي عنها، وغرضها بذلك بيان السبب في كثرة الوباء بالمدينة، لأن الماء الذي هذه صفته يحدث عنده المرض " .
وقد صادف وصول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ للمدينة أن كانت موبوءة ( بحمى ) الملاريا، فلم تمض أيام حتى مرض بها أبو بكر وبلال ـ رضي الله عنهما ـ وغيرهما من أصحاب النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ .. فأخذت تستيقظ فيهم العاطفة والحنين إلى مكة المكرمة، وطنهم الذي تركوه، وهاجروا منه مضطرين بسبب شدة العذاب والأذى من كفار قريش، فعن عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت: " لما قدم رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ المدينة وعك (مرض) أبو بكر وبلال، فكان أبو بكر إذا أخذته الحمى يقول:
كل امرىء مصبح في أهله والموت أدنى من شراك نعله
وكان بلال ـ رضي الله عنه ـ يقول :
ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة بواد وحولي إذخر وجليل
وهل أردن يوما مياه مجنة وهل يبدون لي شامة وطفيل
اللهم العن شيبة بن ربيعة، وعتبة بن ربيعة، وأمية بن خلف، كما أخرجونا من أرضنا إلى أرض الوباء .
وروى ابن هشام وابن كثير وغيرهما ـ في السيرة النبوية ـ عن عبد الله بن عمرو بن العاص ـ رضي الله عنه ـ: " أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لما قدم المدينة هو وأصحابه أصابتهم حمى المدينة حتى جهدوا مرضا، وصرف الله ذلك عن نبيه ـ صلى الله عليه وسلم ـ، حتى كانوا وما يصلون إلا وهم قعود، قال: فخرج رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهم يصلون كذلك فقال لهم: ( اعلموا أن صلاة القاعد على النصف من صلاة القائم )، فتجشم المسلمون القيام على ما بهم من الضعف والسقم، التماس الفضل " .
وكان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يصبر أصحابه ـ رضوان الله عليهم ـ، ويشد من عزمهم، ويبين لهم الأجر والثواب لمن يصبر على ما يجده في المدينة من شدتها وأمراضها، فعن عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: ( لا يصبر على لأواء المدينة وشدتها أحد من أمتي إلا كنت له شفيعا وشهيدا يوم القيامة، ولا يدعها أحد رغبة عنها إلا أبدل الله فيها من هو خير منه ) رواه مسلم .
وعن سعد بن أبي وقاص ـ رضي الله عنه ـ قال : قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: ( إني أحرم ما بين لابتي المدينة كما حرم إبراهيم حرمه، لا يقطع عضاهها ( شجر فيه شوك )، ولا يقتل صيدها، ولا يخرج منها أحد رغبة عنها إلا أبدلها الله خيرا منه، والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون ) رواه أحمد .
دعاء النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ للمدينة :
عن أنس ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: ( اللهم اجعل بالمدينة ضعفي ما جعلت بمكة من البركة ) رواه البخاري .
وعن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال: ( كان الناس إذا رأوا أول الثمر جاءوا به إلى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ، فإذا أخذه رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: اللهم بارك لنا في ثمرنا، وبارك لنا في مدينتنا، وبارك لنا في صاعنا، وبارك لنا في مدنا، اللهم إن إبراهيم عبدك وخليلك ونبيك، وإني عبدك ونبيك، وإنه دعاك لمكة، وإني أدعوك للمدينة بمثل ما دعاك لمكة ومثله معه . قال: ثم يدعو أصغر وليد له فيعطيه ذلك الثمر ) رواه مسلم .
وعن عائشة ـ رضي الله عنها ـ عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ : ( اللهم حبب إلينا المدينة كحبنا مكة أو أشد حبا، وصححها، وبارك في صاعها ومدها، وانقل حماها فاجعلها بالجحفة ) رواه البخاري .
والجحفة قرية على بعد اثنين وثمانين ميلا من مكة، ولم تكن الجحفة حينئذ من بلاد الإسلام، وهي التي كانت مهل أهل الشام ومصر ومن على شاكلتهم، والإحرام الآن من " رابغ "، قرية قريبة منها على الطريق بين مكة والمدينة .
قال الخطابي وغيره: " كان ساكنوا الجحفة في ذلك الوقت يهودا وهم أعداء الإسلام والمسلمين، ولذا توجه دعاءه - صلى الله عليه وسلم ـ عليهم، ففيه جواز الدعاء على الكفار بالأمراض والهلاك، وللمسلمين بالصحة وطيب بلادهم والبركة فيها، وكشف الضر والشدائد عنهم، وفيه إظهار معجزة عجيبة فإنها من يومئذ وبيئة لا يشرب أحد من مائها إلا حم ولا يمر بها طائر إلا حم وسقط .. وقال عياض: فيه معجزة له - صلى الله عليه وسلم -، فإن الجحفة من يومئذ وبيئة وخمة لا يشرب أحد من مائها إلا حم، أي من الغرباء الداخلين عليها " .
واستجاب الله دعاء نبيه ـ صلى الله عليه وسلم ـ للمدينة، وجعلها بلدا طيبا، وسماها طيبة، فعن جابر بن سمرة ـ رضي الله عنه ـ قال: ( كانوا يقولون يثرب والمدينة، فقال النبي ـ صلى الله عليه و سلم ـ إن الله ـ تبارك وتعالى ـ سماها طيبة ) رواه أحمد .
قال ابن حجر في فتح الباري: " كانوا يسمون المدينة يثرب، فسماها النبي - صلى الله عليه وسلم - طابة وأخرجه أبو عوانة، والطاب والطيب لغتان بمعنى، واشتقاقهما من الشيء الطيب، وقيل: لطهارة تربتها، وقيل: لطيبها لساكنها، وقيل: من طيب العيش بها، وقال بعض أهل العلم: وفي طيب ترابها وهوائها دليل شاهد على صحة هذه التسمية، لأن من أقام بها يجد من تربتها وحيطانها رائحة طيبة لا تكاد توجد في غيرها، وقرأت بخط أبي علي الصدفي في هامش نسخته من صحيح البخاري بخطه: قال الحافظ : أمر المدينة في طيب ترابها وهوائها يجده من أقام بها، ويجد لطيبها أقوى رائحة، ويتضاعف طيبها فيها عن غيرها من البلاد، وكذلك العود وسائر أنواع الطيب " .
وهكذا خلت طيبة الطيبة - ملتقى المهاجرين والأنصار، وموطن الذين تبوؤوا الدار والإيمان ـ من الوباء، وحسن حالها، وعظم شرفها، حتى فضلت على سائر بقاع الأرض ـ عدا مكة المكرمة ـ، واستقر أمر المسلمين بها، وصارت حاضرة الإسلام الأولى بعد الهجرة إليها، وفيها عقدت ألوية الجهاد في سبيل الله، ومنها شع النور، فأشرقت الأرض بأنوار الهداية والتوحيد ..