مرحلة المساومات وطلب المعجزات

0 1589

لما فشل كفار مكة بانتهاجهم أسلوب الإيذاء والاضطهاد لمحاربة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ودعوته، انتقلوا إلى أسلوب آخر، ألا وهو أسلوب الإغراء والترغيب، والمفاوضات والمساومات، وطلب الآيات والمعجزات . فوسائل وأساليب أهل الباطل تتعدد وتتنوع في حربهم ضد الإسلام، وهذه سنة الله الجارية في الصراع بين الإيمان والكفر، والحق والباطل، ولكن مع الصبر على المشاق والابتلاء يأتي التمكين، ومع الثبات على الحق أمام الإغراءات والمساومات ينتشر الدين، فقد ظل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يدعو إلى توحيد الله سرا وجهرا، ويحذر من الشرك وعبادة الأوثان، والناس يدخلون في دين الله أفواجا، ولا شك أن هذا الموقف النبوي الراسخ أمام الإيذاء والإغراء والمساومة، كان درسا تربويا للصحابة ـ رضوان الله عليهم ـ ولنا من بعدهم .

الترغيب والإغراء :

تقدم كفار مكة إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم ـ بعرض يغرونه فيه بالمال والرئاسة والسيادة، فأرسلوا عتبة بن ربيعة ليعرض على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما قد رأوه حلا لإيقاف النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لدعوته .
ذكر ابن هشام في سيرته عن جابر بن عبد الله ـ رضي الله عنه ـ قال: " أرسلت قريش عتبة بن ربيعة - وهو رجل رزين هادىء - فذهب إلى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول : يا ابن أخي، إنك منا حيث قد علمت من المكان في النسب، وقد أتيت قومك بأمر عظيم فرقت به جماعتهم، فاسمع مني أعرض عليك أمورا لعلك تقبل بعضها، إن كنت إنما تريد بهذا الأمر مالا جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالا، وإن كنت تريد شرفا سودناك علينا، فلا نقطع أمرا دونك، وإن كنت تريد ملكا ملكناك علينا، وإن كان هذا الذي يأتيك رئيا ( أي: مسا من الجن ) تراه لا تستطيع رده عن نفسك، طلبنا لك الطب، وبذلنا فيه أموالنا حتى تبرأ .
فلما فرغ قوله تلا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ صدر سورة فصلت : { حم * تنزيل من الرحمن الرحيم * كتاب فصلت آياته قرآنا عربيا لقوم يعلمون * بشيرا ونذيرا فأعرض أكثرهم فهم لا يسمعون * وقالوا قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه وفي آذاننا وقر ومن بيننا وبينك حجاب فاعمل إننا عاملون * قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد فاستقيموا إليه واستغفروه وويل للمشركين * الذين لا يؤتون الزكاة وهم بالآخرة هم كافرون }(فصلت: 1 : 7 )، حتى وصل إلى قوله تعالى: { فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود }(فصلت: 13) .
وفي رواية ابن كثير: " أمسك عتبة على فيه، وناشده الرحم أن يكف عنه، ولم يخرج إلى أهله واحتبس عنهم، فقال أبو جهل: والله يا معشر قريش! ما نرى عتبة إلا صبا إلى محمد، وأعجبه كلامه، وما ذاك إلا من حاجة أصابته، انطلقوا بنا إليه، فأتوه، فقال أبو جهل: والله يا عتبة! ما جئنا إلا أنك صبوت إلى محمد وأعجبك أمره، فإن كان بك حاجة، جمعنا لك من أموالنا ما يغنيك عن محمد فغضب،وأقسم بالله لا يكلم محمدا أبدا، وقال: لقد علمتم أني أكثر من قريش مالا، ولكني أتيته - وقص عليهم القصة - فأجابني بشيء والله! ما هو بسحر ولا بشعر ولا كهانة - وقرأ: { بسم الله الرحمن الرحيم حم * تنزيل من الرحمن الرحيم } حتى بلغ: { فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود }(فصلت الآية: 13)، فأمسكت بفيه، وناشدته الرحم أن يكف، وقد علمتم أن محمدا إذا قال شيئا لم يكذب، فخفت أن ينزل عليكم العذاب " .

المفاوضات والمساومات :

لما رأى المشركون موقف النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ واستعلاءه على كل المغريات والمطامع الدنيوية، سلكوا طريقا آخر وهو محاولة التقارب والمساومة بأن يلتقي الإسلام والكفر في منتصف الطريق، وذلك بأن يترك الرسول - صلى الله عليه وسلم - بعض ما هو عليه من الحق، ويترك المشركون بعض ما هم عليه من الباطل، فقالوا: يا محمد، هلم فلنعبد ما تعبد، وتعبد ما نعبد .
عن عبد الله بن عباس - رضي الله عنه - قال: ( إن قريشا وعدوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يعطوه مالا فيكون أغنى رجل بمكة، ويزوجوه ما أراد من النساء، ويطئوا عقبه (أي: يسوده) فقالوا له: هذا لك عندنا يا محمد! وكف عن شتم آلهتنا، فلا تذكرها بسوء، فإن لم تفعل فإنا نعرض عليك خصلة واحدة، فهي لك ولنا فيها صلاح، قال: وما هي؟، قالوا: تعبد آلهتنا سنة: اللات والعزى، ونعبد إلهك سنة! فقال - صلى الله عليه وسلم -: حتى أنظر ما يأتي من عند ربي، فجاء الوحي من اللوح المحفوظ : { قل يا أيها الكافرون * لا أعبد ما تعبدون * ولا أنتم عابدون ما أعبد * ولا أنا عابد ما عبدتم * ولا أنتم عابدون ما أعبد * لكم دينكم ولي دين }(الكافرون: 1 : 6)، وأنزل الله - عز وجل - : { قل أفغير الله تأمروني أعبد أيها الجاهلون * ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين * بل الله فاعبد وكن من الشاكرين }(الزمر: 64 : 66) ) رواه الطبراني .

طلب الآيات والمعجزات :

فشلت المحاولة ـ أو المرحلة ـ الثانية لمحاولة كفار قريش إيقاف دعوة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بالتفاوض والتقارب، فانتقلوا إلى مرحلة ثالثة وهي محاولة التعجيز وطلب المعجزات، فأخذوا يطلبون من النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يأتيهم بآية أو معجزة تشهد بصدقه، وأظهروا له استعدادهم أن يتبعوه ويؤمنوا به، إذا اقتنعوا أنه رسول الله حقا، وفي ذلك يقول الله تعالى: { وقالوا لولا أنزل عليه آيات من ربه قل إنما الآيات عند الله وإنما أنا نذير مبين * أولم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم إن في ذلك لرحمة وذكرى لقوم يؤمنون }(العنكبوت الآية: 50 : 51)، وقال تعالى: { وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا * أو تكون لك جنة من نخيل وعنب فتفجر الأنهار خلالها تفجيرا * أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفا أو تأتي بالله والملائكة قبيلا * أو يكون لك بيت من زخرف أو ترقى في السماء ولن نؤمن لرقيك حتى تنزل علينا كتابا نقرؤه قل سبحان ربي هل كنت إلا بشرا رسولا }الإسراء الآية: 90 : 93) .
وقد بين الله ـ عز وجل ـ أنهم يطلبون الآيات والمعجزات استكبارا وتعنتا، وتكذيبا وتعجيزا للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ، وليس طلبا أو بحثا عن الحق والإيمان، فقال تعالى: { وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءتهم آية ليؤمنن بها قل إنما الآيات عند الله وما يشعركم أنها إذا جاءت لا يؤمنون * ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة ونذرهم في طغيانهم يعمهون * ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة وكلمهم الموتى وحشرنا عليهم كل شيء قبلا ما كانوا ليؤمنوا إلا أن يشاء الله ولكن أكثرهم يجهلون }(الأنعام الآية: 109 : 111) .
وعن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: ( سأل أهل مكة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - آية فأراهم انشقاق القمر فنزلت: { اقتربت الساعة وانشق القمر * وإن يروا آية يعرضوا ويقولوا سحر مستمر }(القمرالآية 1 : 2) رواه البخاري .
وعن جبير بن مطعم - رضي الله عنه - قال: ( انشق القمر على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فصار فرقتين: فرقة على هذا الجبل، وفرقة على هذا الجبل فقالوا: سحرنا محمد، وقالوا: إن كان سحرنا، فإنه لا يستطيع أن يسحر الناس كلهم ) رواه أحمد .

لم يكن هدف كفار قريش في طلبهم من النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بعض الآيات والمعجزات التأكد من صدقه، وإنما مجرد التعنت والتعجيز، فالقضية ليست نقصا في الدلالة، فأدلة صدق النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ من سيرته وحياته، وآياته ومعجزاته، على أنه رسول من عند الله أوضح من الشمس، لكن المعاند الذي لا يريد الإيمان بصدق لا يهتدي للحق، وكيف يرجى الخير والإيمان ممن قالوا: { اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم }(الأنفال الآية: 32)، ولم يقولوا: اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فاهدنا إليه .

                قد تنكر العين ضوء الشمس من رمد      وينكر الفم طعم الماء من سقم

ومن رحمة الله وحكمته بمكة وأهلها أنهم لم يجابوا إلى ما سألوا، لأن سنة الله ـ عز وجل ـ أنه إذا طلب قوم ظهور بعض الآيات والمعجزات فأجيبوا لذلك، ثم لم يؤمنوا بعدها عذبهم الله عذاب الاستئصال، كما فعل بعاد وثمود وقوم فرعون وغيرهم من الأمم، فعن عبد الله بن عباس ـ رضي الله عنه ـ أن قريشا قالت للنبي - صلى الله عليه وسلم -: ( ادع لنا ربك أن يجعل لنا الصفا ذهبا ونؤمن بك، قال: وتفعلون؟، قالوا: نعم، قال فدعاه، فأتاه جبريل فقال: إن ربك ـ عز وجل ـ يقرأ عليك السلام ويقول: إن شئت أصبح لهم الصفا ذهبا، فمن كفر بعد ذلك منهم عذبته عذابا لا أعذبه أحدا من العالمين، وإن شئت فتحت لهم أبواب التوبة والرحمة، فقال: بل باب التوبة والرحمة ) رواه أحمد، وفي رواية : فأنزل الله تعالى : { وما منعنا أن نرسل بالآيات إلا أن كذب بها الأولون وآتينا ثمود الناقة مبصرة فظلموا بها وما نرسل بالآيات إلا تخويفا }(الإسراء:59) ) رواه أحمد .

وعلى الرغم مما بذله كفار مكة في محاربة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لصد الناس عن الإسلام ودعوته، فإن ذلك لم يضعف النبي - صلى الله عليه وسلم ـ وصحابته الكرام، بل ظلوا متمسكين بدينهم، مستمرين في دعوتهم، صابرين على قومهم، أمام الإيذاء والاضطهاد، والمساومات والإغراءات، وهذا درس هام من دروس السيرة النبوية .
 

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة