أصناف ملعونة عند الملائكة

0 3980

علمنا رسول الله –صلى الله عليه وسلم- أن البغض في الله تعالى من أوثق عرى الإيمان، ولا شك أن كمال إيمان الملائكة بربها يجعلهم من أشد خلق الله بغضا للعصاة وكرها لهم، وتتجلى هذه الكراهية في أعظم صورها عند قيامهم بلعن الكفرة وأنواع من العصاة، لأن اللعن في حقيقته: الإبعاد عن رحمة الله تعالى.

ولا شك أن لعن الملائكة لأحد من الناس، أو لنوع من أنواعهم، ليس كلعن بني آدم لبعضهم؛ لأن الملائكة ملأ سماوي أعلى، بلغوا الكمال التام في العبادة واليقين الراسخ ما ليس للبشر الذين جبلوا على النقص، ولمكانتهم هذه: كان دعاؤهم باللعن لمن استحق اللعن أدعى للقبول عند الله تعالى، وقد قال رسول الله –صلى الله عليه وسلم-: (إن العبد إذا لعن شيئا صعدت اللعنة إلى السماء فتغلق أبواب السماء دونها، ثم تهبط إلى الأرض فتغلق أبوابها دونها، ثم تأخذ يمينا وشمالا، فإذا لم تجد مساغا رجعت إلى الذي لعن، فإن كان لذلك أهلا، وإلا رجعت إلى قائلها) رواه أبو داود، فمقتضى الحديث أن اللاعن إن كان أهلا للعن عادت إليه، وإلا أصابت الملعون، وبطبيعة الحال فالملائكة ليست ممن يستحقون اللعن لعصمتهم، وهذا الأمر يفرض على من أراد النجاة وآثر السلامة في دينه، أن يتجنب الأمور الداعية إلى لعن الملائكة.
ونضع بين يدي القاريء عددا ممن تلعنهم الملائكة وتدعوا عليهم أن يطردهم الله تعالى من رحمته، وأن يخرجهم من عفوه:

الصنف الأول: لعن الملائكة لكاتم العلم الشرعي:

دلت النصوص الشرعية على استحقاق كاتم العلم الشرعي للعن الملائكة، قال الله تعالى: {إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون} (البقرة:159)، وهذه الآية تتضمن وعيدا شديدا في حق من قام بإخفاء ما أمر الله به أهل العلم وأخذ الميثاق عليه، بضرورة بث العلم في الناس، وعدم كتمانه أو إخفائه، كما جاء في سورة آل عمران: {وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه} (آل عمران: 187).

وفي قوله تعالى: {ويلعنهم اللاعنون} دليل على دعاء الملائكة على كاتمي العلم الشرعي؛ لأن لفظ: {اللاعنون} في عمومه يشمل الملائكة، لدلالة النصوص الأخرى التي سنوردها لاحقا بأنهم ممن يلعنون أجناسا من بني آدم، فيدخلون في هذا العموم دخولا أوليا، ومما يدل على ذلك قول قتادة في تفسير هذه الآية : "هم الملائكة"، وقول الربيع بن أنس: "اللاعنون، من ملائكة الله والمؤمنين" وكلاهما أوردهما ابن جرير في تفسير هذه الآية.

وسبحان الذي جعل الجزاء من جنس العمل، فالعالم الذي يعلم الناس الخير تستغفر له الخلائق حتى الحيتان في البحر، وتدعوا له بالرحمة، وفي المقابل: فإن من يكتم علما ويخفيه عن الناس، مخالفا في ذلك كل التوجيهات الربانية التي تنهى عن كتمانه، وتأمر بنشره، باعتباره الهدف الرسالي الأعلى الذي يخرج الناس من الظلمات إلى النور، فلذلك يستحق اللعنة من الجميع بما فيهم الملائكة، وهذا المعنى متسق مع قول النبي - صلى الله عليه وسلم: (من سئل عن علم علمه، ثم كتمه، ألجم يوم القيامة بلجام من نار) رواه أصحاب السنن عدا النسائي.

وللشيخ السعدي كلام لطيف في هذا المعنى، يقول عن كاتمي العلم: " تقع عليهم اللعنة من جميع الخليقة؛ لسعيهم في غش الخلق وفساد أديانهم، وإبعادهم من رحمة الله، فجوزوا من جنس عملهم، كما أن معلم الناس الخير، يصلي الله عليه وملائكته، حتى الحوت في جوف الماء؛ لسعيه في مصلحة الخلق، وإصلاح أديانهم، وقربهم من رحمة الله، فجوزي من جنس عمله، فالكاتم لما أنزل الله، مضاد لأمر الله، مشاق لله، يبين الله الآيات للناس ويوضحها، وهذا يطمسها، فهذا عليه هذا الوعيد الشديد".

وأول من يدخل في هذه الآية دخولا أوليا ويستحق بموجبها لعن الملائكة: أحبار اليهود ورهبان النصارى ممن كتموا أمر محمد -صلى الله عليه وسلم-، وأنكروا البينات والدلائل المبثوثة في كتبهم، والتي تبشر برسول الهدى وتؤكد بعثته، قال أبو العالية: " نزلت في أهل الكتاب، كتموا صفة محمد -صلى الله عليه وسلم- ..يلعنهم كل شيء على صنيعهم ذلك"، وعلى الرغم من ذلك، فإن عموم الآية يشمل كل من اتصف بهذه الصفة التي استوجبت اللعن، وهي: كتمان العلم، وترك بيان ما أوجب الله بيانه؛ لأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، كما تقرر عند علماء الأصول.

الصنف الثاني: لعن الملائكة لمن سب أصحاب النبي –صلى الله عليه وسلم-:

الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين، هم حواريوا النبي صلى الله عليه و سلم وأتباعه، مدحهم الله في كتابه، وبالغ في ثنائهم، ووصفهم بأنهم أشداء على الكفار رحماء بينهم، وبين صفتهم كما جاءت في التوراة والإنجيل، والرضا الإلهي عنهم هو حكم أبدي لا يمكن أن يتغير أو يتبدل، لأن الله جل جلاله لا يبدل القول لديه كما أخبر عن نفسه، وهذا الرضا مذكور في قوله سبحانه: {والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه وأعد لهم جنات تجري تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا ، ذلك الفوز العظيم}. (التوبة: 100).

وهم النقلة لهذا الدين والمؤتمنون على نقله، قال النبي –صلى الله عليه وسلم-: (أصحابي أمنة لأمتي، فإذا ذهب أصحابي أتى أمتي ما يوعدون) رواه مسلم، وفوق ذلك: هم خير هذه الأمة قاطبة، بنص الحديث النبوي: (خير أمتي قرني ، ثم الذين يلونهم ، ثم الذين يلونهم) كما جاء في الصحيحين.

وقد صح في الخبر أن المجتريء على الصحابة بالشتم أو السب أو الاستنقاص، فهو مستحق للعن الله له، ولعن الملائكة له، جاء عن ابن عباس رضي الله عنهما، أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (من سب أصحابي، فعليه لعنة الله والملائكة، والناس أجمعين) رواه الطبراني في المعجم الكبير، وفي رواية عن أنس رضي الله عنه، فيها زيادة: (لا يقبل الله له صرفا، ولا عدلا يوم القيامة) رواها أبوبكر بن الخلال في كتابة "السنة"، وقد قيل في معنى الصرف والعدل: "لا تقبل فريضته، ولا نافلته".

ويبدو للناظر عند التأمل في هذا الحديث، وفي مجموع الأدلة التي جاءت تمدح هذا الجيل الرباني الفريد، أن أسباب استحقاق من طعن في عدالة الصحابة أو في دينهم تعود إلى أحد سببين:

أولهما: أن الله جل جلاله، قد بالغ في ثنائهم ومدحهم، كذلك الرسول –صلى الله عليه وسلم-، فقد تكاثرت عنه النصوص في تعداد فضائلهم جملة وتفصيلا، فمن أعرض عن ذلك كله ثم بادر إلى سبهم واستنقاصهم، فلا شك أنه مكذب لله ولرسوله عليه الصلاة والسلام، ومنكر لمقتضى تلك النصوص الصريحة الصحيحة البينة التي لا غموض فيها ولا لبس، ومخالف لحكم معلوم من الدين بالضرورة، كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية: " إن مضمون هذه المقالة أن نقلة الكتاب والسنة كفار أو فساق، وأن هذه الأمة التي هي: {خير أمة أخرجت للناس} (آل عمران: 110)، وخيرها هو القرن الأول، ومضمونها –يعني مضمون سب الصحابة- أن هذه الأمة شر الأمم، وأن سابقي هذه الأمة هم شرارها. وكفر هذا مما يعلم بالاضطرار من دين الإسلام "، وهذا يفسر ما نقل عن جمع من العلماء بكفر من سب الصحابة رضوان الله عليهم.

ثانيهما: أننا ما علمنا شيئا من الدين إلا من خلال الصحابة رضوان الله عليهم، فهم نقلة الدين وحاملوه إلى من بعدهم، فيكون الطعن في الصحابة طعن في الدين الذي نقلوه لنا، قال الإمام أبو زرعة في هذا المعنى: " إذا رأيت الرجل يطعن في أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فاعلم أنه زنديق؛ وذلك أن القرآن عندنا حق والسنة عندنا حق، وإنما نقل لنا القرآن والسنن أصحاب محمد -صلى الله عليه وسلم- وهؤلاء يريدون أن يجرحوا شهودنا ليبطلوا الكتاب والسنة، والجرح بهم أولى".

الصنف الثالث: لعن الملائكة لمن أحدث حدثا، أو آوى محدثا:

عن أنس رضي الله عنه، أن النبي -صلى الله عليه وسلم-، قال: (من أحدث حدثا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين) رواه البخاري، وجاء في سنن أبي داود عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، أن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- قال: (من أحدث حدثا، أو آوى محدثا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين)، فاللعن هنا يترتب على مسألتين:

الأولى: إحداث الحدث، وله عدة معان يحتملها اللفظ لغة ، منها: الابتداع في دين الله ما لم يأذن به الشارع، ومنها: الإحداث في أمور الدنيا، من الجرائم ونحوها، وقد جاء في رواية ذكرها الإمام ابن بطة في (الإبانة)، عن زيد بن أسلم رضي الله عنه، وفيها: قالوا: يا رسول الله، وما الحدث؟ فقال –صلى الله عليه وسلم-: (بدعة تغير سنة، أو مثلة تغير قودا، أو نهبة تغير حقا) ومعنى قوله: (مثلة تغير قودا ) الخروج في العقوبات عن حدود الشريعة، وهي هنا: القصاص، ومعنى قوله: (نهبة تغير حقا) وهو أخذ المال على وجه المغالبة، فكل هذه المعاني، تذكر في مسألة إحداث الحدث.

الثاني: إيواء المحدث، ويشمل ذلك المبتدع في دين الله تعالى، أو إيواء الجاني ونصرته والدفاع عنه، ومنعه من خصمه، ومن دخل في المسألتين السابقتين فهو ملعون من الملائكة على لسان الشريعة.

الصنف الرابع: لعن الملائكة لمن يشير بحديدة إلى أخيه:

الأخوة الإسلامية رابطة متينة يحرص الإسلام على بقائها متماسكة قوية، فهي مطلب أعلى يتوج بعدد من الآداب السامية التي تحافظ عليه، وتعزز منه، وتزيده صلابة ومتانة، فلا غرابة أن نرى النهي عن أي عمل أو قول أو سلوك قد يهدد أو يكون سببا في توهين هذه الرابطة.

من هنا ندرك، أن ما يقوم به البعض من إخافة أخيه وترويعه، بغض النظر عن مستوى ذلك الترويع أو مبعثه (الجد-الهزل) هو سلوك مشين، يستوجب الذم والملامة، لا، بل يستوجب لعن الملائكة لمن اقترفه، فلا يكون ذلك التخويف مجرد ذنب أو لمم، بل هو كبيرة من الكبائر التي تستوجب التوبة النصوح، ولا أدل على ذلك من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال أبو القاسم -صلى الله عليه وسلم-: (من أشار إلى أخيه بحديدة، فإن الملائكة تلعنه، حتى يدعه، وإن كان أخاه لأبيه وأمه) رواه مسلم.

إن الحديث يشير إلى ما يقوم به بعض الناس من تناول بعض الأسلحة أو الأدوات التي تقتل أو تؤذي، فيتعامل معها باستخفاف بما قد يهدد سلامية الآخرين وأمنهم، خصوصا وأن كثيرا من الجنايات التي تقع في الواقع إنما للخطأ فيها النصيب الأكبر، وصاحب الخطأ هنا غير معذور، بل هو مذموم بكل وجه، وقد ورد في السنة ما يفيد تحريم هذا الترويع للمسلمين، فقد قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (لا يحل لمسلم أن يروع مسلما) رواه أبو داود في سننه.

وقد فهم العلماء تعدي هذا السلوك لمنزلة الصغائر، ودخوله في دائرة الكبائر، حتى ولو كان بقصد المزاح، قال النووي رحمه الله : " فيه تأكيد حرمة المسلم، والنهي الشديد عن ترويعه وتخويفه، والتعرض له بما قد يؤذيه، وقوله -صلى الله عليه وسلم-: (وإن كان أخاه لأبيه وأمه) مبالغة في إيضاح عموم النهي في كل أحد، سواء من يتهم فيه، ومن لا يتهم، وسواء كان هذا هزلا ولعبا أم لا؛ لأن ترويع المسلم حرام بكل حال".

وبمثله قال الحافظ زين الدين العراقي: "فيه النهي عن الإشارة إلى المسلم بالسلاح، وهو نهي تحريم، فإن في الرواية الأخرى: (من أشار إلى أخيه بحديدة فإن الملائكة تلعنه)، ولعن الملائكة لا يكون إلا بحق، ولا يستحق اللعن إلا فاعل المحرم، ولا فرق في ذلك بين أن يكون على سبيل الجد أو الهزل".

ومما سبق ندرك أن العلة في النهي عن إشهار السلاح وما دونه مما قد يؤذي، لأجل مسألة الترويع والإخافة، وقد زادت نصوص أخرى علة أخرى، أفادت باب الاحتياط والحماية في مثل هذه الأدوات المؤذية، فلا يأمن أحد أن تخرج هذه الحديدة عن سيطرته فتؤذي أخاه دون قصد، وفي هذا المعنى جاء حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (لا يشير أحدكم إلى أخيه بالسلاح؛ فإنه لا يدري أحدكم لعل الشيطان ينزع في يده فيقع في حفرة من النار) رواه مسلم، والمعنى كما يقول الحافظ ابن حجر: "يغري بينهم، حتى يضرب أحدهما الآخر بسلاحه، فيحقق الشيطان ضربته له".

ولأن الأمر خطير، ومستوجب لعن الملائكة، حرص النبي –صلى الله عليه وسلم- على تعليم أصحابه الآداب المقتضية للسلامة والحرص عند تناول الأشياء المؤذية، فقد حدث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما فقال: "مر رجل بسهام في المسجد، فقال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (أمسك بنصالها) متفق عليه، والنصل هو رأس السهم، وروى جابر أيضا أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مر بقوم في مجلس يسلون سيفا يتعاطونه بينهم غير مغمود –أي: ليس في جرابه وحافظته-، فقال: (ألم أزجركم عن هذا؟ فإذا سل أحدكم السيف فليغمده، ثم ليعطه أخاه) رواه أحمد، وسل السيف: إخراجه من غمده.

وينبغي للمتساهلين في دماء الناس وأعراضهم وممتلكاتهم أن يهزهم هذا الحديث هزا، فإذا كان من يشير بيده بحديدة –وقد لا تكون مخصصة أو مستعملة بالأساس للإيذاء-، مجرد الإشارة، مستحقا للعن، فكيف بمن يشير بسلاحه إلى أخيه وهو جاد، أم كيف بمن يصيب إخوانه عن قصد وتعمد؟

الصنف الخامس: لعن الملائكة لمن نقض عهد مسلم

من صفات المسلم الأصيلة: الأمانة، بل هي من مقتضيات الإيمان الكبرى؛ ومن دلائلها الواضحة، ولو لم تكن ذلك، ما كان النبي –صلى الله عليه وسلم- يكثر من التذكير بها، والتحذير من الإخلال بها، ذلك ما علمناه من شهادة أنس بن مالك رضي الله عنه حين قال: ما خطبنا نبي الله -صلى الله عليه وسلم- إلا قال: (لا إيمان لمن لا أمانة له، ولا دين لمن لا عهد له) رواه أحمد.

والغدر في الأمان الذي يعطى لأهل الكفر موجب للعنة الشاملة من الخالق ومن الخلق، بما فيهم الملائكة الكرام، ورد في ذلك عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: قال رسول الله –صلى الله عليه وسلم-: (ذمة المسلمين واحدة، فمن أخفر مسلما فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل منه صرف، ولا عدل) رواه البخاري ومسلم، ومعنى قوله: (أخفر مسلما) أي: نقض أمانه وعهده.

والحديث أول ما يتوجه إلى نقض الأمان الذي يعطيه أحد المسلمين لأي من المشركين، سواء كان صاحبه من أهل الذمة من اليهود والنصارى أم كان من غيرهم، وبغض النظر عمن قام بإعطاء هذا الأمان؛ لأن ذمة المسلمين وعهدهم وأمانتهم واحدة، لا فرق بين مراتبهم ومنازلهم وأجناسهم في ذلك، وإجارة فرد من المسلمين لأحد كأنها صك أمان ناله من الأمة الإسلامية كلها، لا يحق لأحد أن يمس ذلك المؤتمن بسوء، ومن تعرض لكافر أمنه مسلم فقد ارتكب أعظم الموبقات، فاستحق لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، ومما ورد بذلك في معناه حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (ألا من قتل نفسا معاهدا له ذمة الله وذمة رسوله، فقد أخفر بذمة الله؛ فلا يرح رائحة الجنة، وإن ريحها ليوجد من مسيرة سبعين خريفا) رواه الترمذي، ومعلوم أن المطرود من الجنة لا يصيب ريحها الطيب، فهو من باب التغليظ على صاحبها والتشديد عليه.

والغدر: نقض العهد، وترك الوفاء به، ويعتبر مسلكا نفاقيا خطيرا جاء التحذير منه، فعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (أربع من كن فيه كان منافقا خالصا، ومن كانت فيه خصلة منهن، كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: -وذكر منها- إذا عاهد غدر) متفق عليه، وجاءت السنة صراحة لتبين فداحة هذا الخلق الذميم، وأنه يعد من الكبائر، حتى صار صاحبها خصيما لله جل جلاله، فعن أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (قال الله عز وجل :ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة: رجل أعطى بي، ثم غدر) رواه البخاري.

الصنف السادس: لعن الملائكة للعبد الذي يوالي غير سيده

لا نعمة تعدل نعمة الحرية، والمملوك مسلوب لهذه الحرية التي تمنعه من الحقوق التي يتمتع بها الأحرار، فكان ولاء العبد لمن أعتقه؛ اعترافا له بالجميل الذي امتن به مالكه عليه حين أخرجه من عالم العبودية والاسترقاق، إلى عوالم الحرية والعزة والسيادة.

ومن الطبيعي أن يحفظ العبد لسيده هذه النعمة العظيمة التي أسداها إليه بعتقه، فكيف بمن أضرب صفحا عن المنعم عليه، ثم ذهب ينتسب إلى غيره ويواليه؟ هل هناك كفر للنعمة أعظم من هذه الحال؟ لأجل ذلك استحق العبد الناكر لمعروف سيده الذي أعتقه اللعنة جاء في حديث علي رضي الله عنه أن النبي –صلى الله عليه وسلم: (من والى قوما بغير إذن مواليه، فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله منه صرفا ولا عدلا) متفق عليه.

الصنف السابع: لعن الملائكة لمن انتسب إلى غير أبيه

كذلك هي مذكورة في حديث علي رضي الله عنه السابق، وفيه: (ومن ادعى إلى غير أبيه، فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله منه يوم القيامة صرفا، ولا عدلا)، فالحديث –كما يقول الإمام النووي- صريح في تغليظ تحريم انتماء الإنسان إلى غير أبيه لما فيه من كفر النعمة، وتضييع حقوق الإرث والولاء، مع ما فيه من قطيعة الرحم والعقوق.
وبهذا المعنى جاء حديث سعد بن مالك رضي الله عنه، أن النبي –صلى الله عليه وسلم- قال: (من ادعى إلى غير أبيه، وهو يعلم، فالجنة عليه حرام) رواه البخاري.

الصنف الثامن: لعن الملائكة للمرأة الممتنعة عن فراش زوجها

قوام الزواج ومبناه على الألفة والمحبة، والتواصل والتراحم، والمعاشرة الحسنة بالمعروف، وإعطاء كل ذي حق من الزوجين حقه للآخر، كما قال الله تعالى: {ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف} (البقرة: 228)، وفي هذا الإطار يكون امتناع الزوجة عن موافقة زوجها في طلب الفراش أمرا مستنكرا شرعا، مستقبحا عرفا؛ إذ أنه المقصود الأول للحياة الزوجية، والسبب الأوحد في دوام الذرية، ولعظم هذه العلاقة من جهة، وعظم حق الزوج وضعفه أمام فتنة النساء، كانت المرأة الممتنعة عن حق زوجها مستوجبة للعنة الملائكة لها.

عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (إذا دعا الرجل امرأته إلى فراشه فلم تأته فبات غضبان عليها؛ لعنتها الملائكة حتى تصبح) متفق عليه، وفي رواية أخرى: (إذا باتت المرأة هاجرة لفراش زوجها لعنتها الملائكة حتى تصبح، أو تراجع) وهي في سنن أبي داود، والشك منه.

ومن مقتضيات العشرة بالمعروف: المبيت في فراش الزوجية، والقيام بحق الزوج، حيث لا يجوز لها ترك ذلك إلا لمانع أو عذر شرعي، فإن فعلت ذلك، كانت مستحقة للعن الملائكة لها حتى تصبح، أو تتراجع عن فعلها ذلك، بل تستحق ما هو أعظم من ذلك: سخط الرحمن عليها، حتى يرضى عنها زوجها، وجاء ذلك صريحا في صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (والذي نفسي بيده، ما من رجل يدعو امرأته إلى فراشه، فتأبى عليه، إلا كان الذي في السماء ساخطا عليها حتى يرضى عنها) فإذا كانت الأحاديث السابقة تعلق اللعن بوقت الصباح، أو بعودتها عن ذنبها، فإن هذا الحديث علق السخط الإلهي برضا الزوج، وقد يكون ذلك قبل طلوع الفجر، وقد يكون بعده، وربما يكون أكثر من ذلك، فسخط الزوج يوجب سخط الرب، وليس هناك امرأة عاقلة ترضى ببقائها في دائرة السخط الإلهي حتى يرضى عنها زوجها.

الصنف الثامن: لعن الملائكة لمن يحولون دون تنفيذ شرع الله تعالى

لا شك أن الله تعالى قد أنزل الكتاب ليكون حاكما على الناس بالقسط: { إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله} (الناساء:105)، ومما جاء في أحكام الحدود وجوب اللعنة على من تعدى على مسلم فسفك دمه دون وجه حق، وهذا الحكم مذكور في قوله تعالى: {ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذابا عظيما} (النساء:93).

إذا استحضرنا التوطئة السابقة، أمكننا فهم الحالة التي ورد فيها لعن الملائكة، جاءت –في أصل سياقها- في حديث يبين حكما شرعيا خاصا يتعلق بالحدود، وهي حالة القتل التي تحدث حين يتخاصم الناس فيقتتلون، فيموت أحدهم دون أن يدرى من الذي باشر قتله فيطالب بالدية، فيحكم بالدية على المجموعة، أما إذا عرف القاتل فيحكم عليه بالقتل قصاصا، إلا أن يرضى أولياء الدم بالدية، أو يصدرون عفوهم عنه، واستحقاق القاتل المتعمد للقتل دون الاستثنائين السابقين –أي العفو أو الدية- أمر نافذ لا يجوز التحايل عليه أو منعه بأي وجه، فمن سعى إلى عرقلة تنفيذ الحكم على القاتل، فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين.

فعن ابن عباس رضي الله عنهما، أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال بعد أن ذكر حالة جهالة القاتل: (..ومن قتل عمدا فقود يديه، فمن حال بينه وبينه –بين القتل والقصاص- فعليه لعنة الله، والملائكة والناس أجمعين) رواه أبو داود، ومعنى: (فقود يديه) أي يقتص منه بما جنت يده عمدا.

إذن فهي تسعة أصناف من الناس، استحق كل واحد منها لعنة الملائكة، بسبب ما اقترفه من المعاصي المستوجبة لتلك اللعنة، ونحن ندرك هنا أن هذا اللعن الصادر من الملائكة إنما هو بأمر الله لها، وبيان الرب لاستحقاق أصحابها لها، فالملائكة لا يفعلون إلا ما يؤمرون، نسأل الله تعالى أن يجرينا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة.

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة