لَكِنِّي أَفْقِدُ جُلَيْبِيبًا

0 1868

من الأمور التي أكدت عليها السنة النبوية أن ميزان الرجال لا يكون بالحسب والنسب، أو المال والمنصب، أو الصور والمناظر، ولكن بتقوى الله والعمل الصالح، فعن جابر بن عبد الله ـ رضي الله عنه ـ قال: ( خطبنا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وسط أيام التشريق في حجة الوداع، فقال: أيها الناس، ألا إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، ألا لا فضل لعربي على أعجمي، ولا لأعجمي على عربي، ولا لأسود على أحمر، ولا لأحمر على أسود إلا بالتقوى، إن أكرمكم عند الله أتقاكم، ألا هل بلغت؟، قالوا : بلى يا رسول الله، قال : فليبلغ الشاهد الغائب ) رواه أحمد، وعن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: ( إن الله لا ينظر إلى أجسادكم ولا إلى صوركم، ولكن ينظر إلى قلوبكم ) رواه مسلم .

ومن المواقف النبوية الدالة على أن الميزان الصحيح الذي يوزن به الرجال هو الدين والتقوى : موقفه ـ صلى الله عليه وسلم ـ مع صحابي فقير اسمه جليبيب ـ رضي الله عنه ـ، ليس من أعلام وكبار الصحابة، ومع ذلك قال عنه ـ النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ : ( هذا مني وأنا منه ) .
قال عنه ابن الأثير: " جليبيب بضم الجيم، على وزن قنيديل، وهو أنصاري، له ذكر في حديث أبي برزة الأسلمي في إنكاح رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ابنة رجل من الأنصار، وكان قصيرا دميما " .
وقال عنه ابن حجر: " غير منسوب .. أي لا يعرف نسبه "، ولكن ذكره أبو الفرج بن الجوزي في كتابه ( صفة الصفوة ) عن ابن سعد قال: " وسمعت من يذكر أن جليبيبا كان رجلا من بني ثعلبة حليفا في الأنصار " .

أما قصته وموقف النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ معه فيرويها أبو برزة الأسلمى ـ رضي الله عنه ـ فيقول : ( كانت الأنصار إذا كان لأحدهم أيم لم يزوجها حتى يعلم هل للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فيها حاجة أم لا، فقال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لرجل من الأنصار: زوجني ابنتك، فقال: نعم وكرامة يا رسول الله، ونعم عينى، فقال: إنى لست أريدها لنفسي، قال: فلمن يا رسول الله؟ قال: لجليبيب، قال: فقال: يا رسول الله أشاور أمها، فأتى أمها فقال: رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب ابنتك، فقالت: نعم، ونعمة عيني، فقال: إنه ليس يخطبها لنفسه، إنما يخطبها لجليبيب، فقالت: أجليبيب ابنه؟، أجليبيب ابنه؟! لا لعمر الله لا تزوجه، فلما أراد أن يقوم ليأتي رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ليخبره بما قالت أمها، قالت الجارية: من خطبني إليكم؟ فأخبرتها أمها، فقالت: أتردون على رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أمره، ادفعوني فإنه لم يضيعني، فانطلق أبوها إلى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فأخبره، قال: شأنك بها، فزوجها جليبيبا، قال: فخرج رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في غزوة له، قال: فلما أفاء الله عليه، قال لأصحابه: هل تفقدون من أحد؟ قالوا: نفقد فلانا، ونفقد فلانا، قال: انظروا هل تفقدون من أحد؟، قالوا: لا، قال: لكني أفقد جليبيبا، قال: فاطلبوه في القتلى، قال: فطلبوه، فوجدوه إلى جنب سبعة قد قتلهم، ثم قتلوه، فقالوا: يا رسول الله، ها هو ذا إلى جنب سبعة قد قتلهم، ثم قتلوه، فأتاه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقام عليه، فقال: قتل سبعة وقتلوه، هذا مني وأنا منه، هذا مني وأنا منه، مرتين، أو ثلاثا، ثم وضعه رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ على ساعديه، وحفر له، ما له سرير إلا ساعدي رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ، ثم وضعه في قبره، ولم يذكر أنه غسله ) رواه أحمد .
قال النووي: قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: ( هذا مني وأنا منه ): معناه المبالغة في اتحاد طريقتهما، واتفاقهما في طاعة الله تعالى " .

وفي الموقف النبوي مع جليبيب ـ رضي الله عنه ـ فوائد كثيرة، منها :

حب رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لأصحابه ـ رضوان الله عليهم ـ، وعنايته واهتمامه بأحوالهم، والسعي في قضاء حوائجهم، فكان لهم نعم الصاحب لأصحابه، يسعد لسعادتهم، ويحزن لحزنهم، ويسعى لتفريج كرباتهم، وقد ظهر ذلك في اهتمامه ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ بأمر جليبيب ـ رضي الله عنه ـ ووساطته في زواجه .
ـ المكانة العظيمة التي تبوأها جليبيب ـ رضي الله عنه ـ وحب رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ الشديد له، مما جعله يتفقده ويسأل عنه، ثم يجعل ساعديه له سريرا بعد استشهاده، ويقول مرتين عنه: ( هذا مني وأنا منه )، وقبل ذلك ما ناله من شرف الشهادة في سبيل الله .
ـ منزلة الإنسان في ميزان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وسنته تكون على قدر تقواه، وبمقدار ما يقدم من تضحيات لأجل دينه، ولا عليه بعد ذلك أن يكون فقيرا، أو دميم الخلقة، أو ضعيف النسب، وقد قال عن جليبيب ـ رضي الله عنه ـ: ( هذا مني وأنا منه ) رواه أحمد

          لعمرك ما الإنسان إلا بدينه         فلا تترك التقوى اتكالا على النسب

          فقد رفع الإسلام سلمان فارس     وقد وضع الشرك الشريف أبا لهب

ـ عاقبة طاعة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ خير في الدنيا والآخرة، فقد قال ابن كثير في حديثه عن قصة جليبيب ـ رضي الله عنه ـ: " وذكر الحافظ أبو عمر بن عبد البر في " الاستيعاب ": أن الجارية لما قالت في خدرها: أتردون على رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أمره؟ تلت هذه الآية: { وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالا مبينا }(الأحزاب:36) " . 
وقد قبلت الفتاة بالزواج من جليبيب ـ رضي الله عنه ـ رغم فقره ودمامة خلقته، طاعة لرسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ، فكان من آثار استجابتها وطاعتها للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن دعا لها بقوله: ( اللهم صب عليها الخير صبا، ولا تجعل عيشها كدا كدا ) رواه البيهقي، فأدركتها بركة دعوة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ، فما كان في الأنصار أيم ( من لا زوج لها ) أنفق منها، قال أنس بن مالك ـ رضي الله عنه ـ: " فما رأيت بالمدينة ثيبا أنفق منها ( أي كثيرة النفقة والخير والأموال )، وما كادت تنتهي عدتها حتى تسابق إليها الرجال يخطبونها " .

ما فعله النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ مع جليبيب ـ رضي الله عنه ـ وقوله عنه بعد استشهاده: ( هذا مني وأنا منه )، نتعلم منه الميزان الصحيح الذي يوزن به الرجال وهو تقوى الله ـ عز وجل ـ، وأن مكانة الناس في قلوبنا تكون على حسب إيمانهم وتقواهم وصلاح أعمالهم، ولو كانوا فقراء ..
 

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة