مَنْ يُهِنِ اللهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ..سنة لا تتخلف أبدا

0 1702

 المقصود بالسنة هنا: القانون العام الذي يحكم أفعال البشر وسلوكهم ، ويتسم هذا القانون بالثبات والاطراد، ويدل على اطراده أن الله تعالى قص علينا قصص الأمم السابقة وما حل بها لنتعظ ونعتبر، قال تعالى : { ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله فهل ينظرون إلا سنة الأولين فلن تجد لسنة الله تبديلا ولن تجد لسنة الله تحويلا} (سورة فاطر الآية 43 ).

قال العلامة السعدي (المتوفى: 1376هـ) في تفسيرها : فمكرهم إنما يعود عليهم، وقد أبان الله لعباده ، أنهم – أي أهل الباطل - كذبة في ذلك مزورون، فاستبان خزيهم، وظهرت فضيحتهم، وتبين قصدهم السيئ، فعاد مكرهم في نحورهم، ورد الله كيدهم في صدورهم. فلم يبق لهم إلا انتظار ما يحل بهم من العذاب، الذي هو سنة الله في الأولين، التي لا تبدل ولا تغير، أن كل من سار في الظلم والعناد والاستكبار على العباد، أن يحل به نقمته، وتسلب عنه نعمته، فليترقب هؤلاء، ما فعل بأولئك. انتهى كلامه رحمه الله.

ويتصف هذا القانون أيضا بالعموم أي يسري حكمه على الجميع دون محاباة ولا تمييز ، قال تعالى : {ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءا يجز به } (سورة النساء من الآية 124), والمعنى: ليس الأمر بالأماني التي هي أحاديث النفس المجردة عن العمل ، ولكن من يعمل سوءا يلق جزاءه ؛ لأن الجزاء - بحسب سنة الله تعالى- أثر طبيعي للعمل لا يتخلف عنه . وبناء عليه فمجرد الانتساب إلى أي دين كان، لا يفيد شيئا إن لم يأت الإنسان ببرهان على صحة دعواه، فالأعمال تصدق الدعوى أو تكذبها .

ومن السنن الإلهية في الناس قوله تعالى {ومن يهن الله فما له من مكرم} [الحج: 18] ومعناها: من أراد الله إهانته فلن يكرمه أحد، لا بنصرته ولا بالشفاعة له، فلا كرامة إلا بإكرام الله، ولا عزة إلا بعزة الله، لأن الأمور كلها بيده ، وهذا النص جزء من آية كريمة تسمى آية سجود المخلوقات ، وقد أكثر ابن القيم رحمه الله من الاستشهاد بهذا النص على عقوبة وآثار الذنوب والمعاصي في أكثر من موضع من كتابه الداء والدواء ، المسمى أيضا الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي ،وقد جاءت هذه المواضع متناثرة ، وها أنا ذا أجمعها لإخواني القراء مع بعض الزيادات والتوضيحات ، ولكن قبل أن أسوقها أذكرك أخي القارئ بأن من كبائر الذنوب : الكذب والافتراء والبهتان و الكبر و الظلم و الفساد وقتل النفس بغير حق . وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن التفريق بين البهيمة ووليدها ، ورأى أطفالا يلعبون بعصفور صغير و أمه تحاول أن تأخذه منهم فقال النبي للصبية: "من فجع هذه بولدها؟ ردوا عليها ولدها" !!.

والآن إلى كلام ابن القيم رحمه الله :

- من آثار الذنوب والمعاصي: أنه ينسلخ من القلب استقباحها، فتصير له عادة، فلا يستقبح من نفسه رؤية الناس له، ولا كلامهم فيه. وهذا عند أرباب الفسوق هو غاية التهتك وتمام اللذة، حتى يفتخر أحدهم بالمعصية، ويحدث بها من لم يعلم أنه عملها،.وهذا الضرب من الناس لا يعافون، وتسد عليهم طريق التوبة، وتغلق عنهم أبوابها في الغالب.

- ومنها: أن كل معصية من المعاصي فهي ميراث عن أمة من الأمم التي أهلكها الله عز وجل. فالعلو في الأرض بالفساد، ميراث عن قوم فرعون. والتكبر والتجبر ميراث عن قوم هود. فالعاصي لابس ثياب بعض هذه الأمم، وهم أعداء الله.

- ومنها: أن المعصية سبب لهوان العبد على ربه وسقوطه من عينه. قال الحسن البصري: هانوا عليه فعصوه، ولو عزوا عليه لعصمهم، وإذا هان العبد على الله لم يكرمه أحد، كما قال الله تعالى: {ومن يهن الله فما له من مكرم} ، وفي الحديث: " وجعل الذل والصغار على من خالف أمري". وإن عظمهم الناس في الظاهر لحاجتهم إليهم أو خوفا من شرهم، فهم في قلوبهم أحقر شيء وأهونه.

- ومنها : أن يرفع الله عز وجل مهابته ـ أي العاصي ـ من قلوب الخلق، ويهون عليهم، ويستخفون به، كما هان عليه أمره واستخف به، فعلى قدر محبة العبد لله يحبه الناس، وعلى قدر خوفه من الله يخافه الخلق، وعلى قدر تعظيمه لله وحرماته يعظمه الناس، وكيف ينتهك عبد حرمات الله، ويطمع أن لا ينتهك الناس حرماته أم كيف يهون عليه حق الله ولا يهونه الله على الناس؟ أم كيف يستخف بمعاصي الله ولا يستخف به الخلق؟ وقد أشار سبحانه إلى هذا في كتابه عند ذكر عقوبات الذنوب، وأنه أركس أربابها بما كسبوا، وغطى على قلوبهم، وطبع عليها بذنوبهم، وأنه نسيهم كما نسوه، وأهانهم كما أهانوا دينه، وضيعهم كما ضيعوا أمره، ولهذا قال تعالى في آية سجود المخلوقات له: {ومن يهن الله فما له من مكرم} [سورة الحج: 18].

- ومنها: أن غيره من الناس والدواب يعود عليه شؤم ذنبه، فيحترق هو وغيره بشؤم الذنوب والظلم. فلا يكفيه عقاب ذنبه، حتى يلعنه من لا ذنب له. وكان أبو هريرة يقول: إن الحبارى لتموت في وكرها من ظلم الظالم. والحبارى نوع من الطيور ،قال ذلك حين سمع رجلا يقول: إن الظالم لا يضر إلا نفسه. وقالها مرة أخرى حين سمع آخر يقول: كل شاة معلقة برجلها.

- ومنها: أن المعصية تورث الذل ولابد؛ لذا كان من دعاء بعض السلف: اللهم أعزني بطاعتك ولا تذلني بمعصيتك. قال الحسن البصري: إنهم وإن طقطقت بهم البغال، وهملجت بهم البراذين، إن ذل المعصية لا يفارق قلوبهم، أبى الله إلا أن يذل من عصاه. ومعنى الهملجة: أي حسن سير الدابة في سرعة وبخترة. والبراذين من الخيل: ما كان من غير نتاج العرب.

- ومن عقوباتها: أنها تعمي بصيرة القلب، وتطمس نوره، وتسد طرق العلم، وتحجب مواد الهداية. وقد قال مالك للشافعي لما اجتمع به: إني أرى الله قد ألقى على قلبك نورا، فلا تطفئه بظلمة المعصية. ولا يزال هذا النور يضعف ويضمحل، وظلام المعصية يقوى، حتى يصير القلب في مثل الليل البهيم. فكم من مهلك يسقط فيه، وهو لا يبصره ، كأعمى خرج بالليل في طريق ذات مهالك ومعاطب. فيا عزة السلامة، ويا سرعة العطب! ثم تقوى تلك الظلمات، وتفيض من القلب إلى الجوارح، فيغشى الوجه منها سواد بحسب قوتها وتزايدها !!.

- ومن عقوباتها: أنها تجعل صاحبها من السفلة بعد أن كان مهيأ لأن يكون من العلية. فإن الله خلق خلقه قسمين: علية وسفلة، وجعل أهل طاعته أكرم خلقه عليه، وأهل معصيته أهون خلقه عليه ، وجعل العزة لهؤلاء ، والذلة والصغار لهؤلاء. فكلما عمل العبد معصية نزل إلى أسفل درجة، ولا يزال في نزول حتى يكون من الأسفلين. وكلما عمل طاعة ارتفع بها درجة، ولا يزال في ارتفاع حتى يكون من الأعلين. وها هنا أمر وهو أن العبد قد ينزل نزولا بعيدا أبعد مما بين المشرق والمغرب ومما بين السماء والأرض، فلا يفي صعوده ألف درجة بهذا النزول الواحد، كما في الصحيح : "إن العبد ليتكلم بالكلمة الواحدة، لا يلقي لها بالا، يهوي بها في النار أبعد مما بين المشرق والمغرب".

فأي صعود يوازي هذه النزلة ؟.انتهى كلام ابن القيم ملخصا ومرتبا ، اللهم ياعزيز لا تذلنا بين خلقك ولا بين يديك ، آمين.

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة