التوكل على اللَّه

0 1379
  • اسم الكاتب:أَحْمَدَ بن نَوَّافٍ المِجْلَادِ القَطَرِيِّ الضَّرِيْرِ

  • التصنيف:محاسن الأخلاق

عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لو أنكم توكلتم على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير، تغدوا خماصا وتروح بطانا" رواه الإمام أحمد في المسند، والترمذي والنسائي وابن ماجه في السنن، وابن حبان في صحيحه، ورواه الحاكم في مستدركه وصححه، وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح لا نعرفه إلا من هذا الوجه.
ومعنى: تغدو خماصا. تذهب أول النهار خالية بطونها من شدة الجوع. وتروح بطانا. تعود آخر النهار ممتلئة بطونها لأنها قد شبعت.
قال الإمام الحافظ ابن رجب الحنبلي رحمه الله في كتاب جامع العلوم والحكم: هذا الحديث أصل في التوكل ؛ إذ هو من الأمور التي يستجلب بها الرزق. قال الله تعالى: {ومن يتق ٱلله يجۡعل لهۥ مخۡرجٗا 2 ويرۡزقۡه منۡ حيۡث لا يحۡتسبۚ ومن يتوكلۡ على ٱلله فهو حسۡبهۥٓۚ إن ٱلله بلغ أمۡرهۦۚ قدۡ جعل ٱلله لكل شيۡءٖ قدۡرٗا}(٣ الطلاق).

روى الإمام الطبري رحمه الله في تفسيره (جامع البيان عن تأويل آي القرآن) عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: إن أكبر آية في القرآن تفويضا: {ومن يتوكلۡ على ٱلله فهو حسۡبه}. ومن هنا يستشف معنى التوكل وتعرف حقيقته.

فمعناه صدق الاعتماد على الله تعالى بتفويض الأمر إليه؛ فهو مدبر الأمر، وله الخلق، وهو العليم: {ألا يعۡلم منۡ خلق وهو ٱللطيف ٱلۡخبير}(الملك:14).
وقال القرطبي رحمه الله في تفسيره: التوكل الاعتماد على الله مع إظهار العجز. انتهى.

فالعبد مهما أوتي من قوة فإنه مفتقر ومحتاج إلى الغني الحميد الذي خلقه: {يٓأيها ٱلناس أنتم ٱلۡفقرآء إلى ٱللهۖ وٱلله هو ٱلۡغني ٱلۡحميد}(فاطر:15}. وما أحسن قول الإمام سهل بن عبد الله التستري رحمه الله؛ حيث وضح معنى التوكل بقوله: "التوكل أن يكون العبد بين يدي الله عز وجل كالميت بين يدي الغاسل يقلبه كيف يريد". رواه الإمام البيهقي رحمه الله في شعب الإيمان.

فهذه غاية التسليم المطلق لله سبحانه، وهذا من الإيمان به، والعبد بهذا يجلب لنفسه محبة الله سبحانه: {فإذا عزمۡت فتوكلۡ على ٱللهۚ إن ٱلله يحب ٱلۡمتوكلين} ١٥٩ آل عمران. وهو من صفات المؤمنين: {وعلى ٱلله فلۡيتوكل ٱلۡمؤۡمنون} (١٢٢ آل عمران).

ولبيان مكانة هذه العبادة العظيمة فإن الله تعالى ذكرها في مواضع كثيرة من كتابه المجيد، فهي حال الأنبياء عليهم السلام، فهذا نوح عليه السلام، قال الله تعالى عنه: {وٱتۡل عليۡهمۡ نبأ نوح إذۡ قال لقوۡمهۦ يقوۡم إن كان كبر عليۡكم مقامي وتذۡكيري ب‍ٔايت ٱلله فعلى ٱلله توكلۡت فأجۡمعوٓا أمۡركمۡ وشركآءكمۡ ثم لا يكنۡ أمۡركمۡ عليۡكمۡ غمةٗ ثم ٱقۡضوٓا إلي ولا تنظرون} ٧١ يونس.

قال بعض العلماء: وإنما خص نوح عليه السلام هذا المقام بالتوكل مع أنه متوكل في جميع أحواله ليبين لقومه أن الله كافيه أمرهم، فهم لو اجتمعوا هم وشركاؤهم على أذاه فلن يمكنهم ذلك؛ فالله حاميه. وهذا موسى عليه السلام يأمر قومه بالتوكل، وقد نالوا ما نالوا من الأذى من فرعون وجنوده: {وقال موسى يقوۡم إن كنتمۡ ءامنتم بٱلله فعليۡه توكلوٓا إن كنتم مسۡلمين . فقالوا على ٱلله توكلۡنا ربنا لا تجۡعلۡنا فتۡنةٗ للۡقوۡم ٱلظلمين . ونجنا برحۡمتك من ٱلۡقوۡم ٱلۡكفرين} (سورة يونس). وهذا نبينا صلى الله عليه وسلم سيد المتوكلين، قال الله تعالى عنه وعن أصحابه رضي الله عنهم: {ٱ لذين قال لهم ٱلناس إن ٱلناس قدۡ جمعوا لكمۡ فٱخۡشوۡهمۡ فزادهمۡ إيمنٗا وقالوا حسۡبنا ٱلله ونعۡم ٱلۡوكيل ١٧٣ فٱنقلبوا بنعۡمةٖ من ٱلله وفضۡلٖ لمۡ يمۡسسۡهمۡ سوٓءٞ وٱتبعوا رضۡون ٱللهۗ وٱلله ذو فضۡل عظيم}  (آل عمران:١٧٤). روى الإمام البخاري رحمه الله في صحيحه عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: حسبنا الله ونعم الوكيل. قالها إبراهيم عليه السلام حين ألقي في النار، وقالها محمد صلى الله عليه وسلم حين قالوا: {إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل}.

ولا يتعارض التوكل مع الأخذ بالأسباب، وفي الحديث إشارة لهذا؛ فالطير الجائعة تبحث عن ما يسد رمقها فتجد ما قدره الله لها، فالعالم لا يكون عالما إلا إذا جلس مع العلماء ونظر في الكتب، والمحظور الاعتماد على الأسباب، أما الأخذ بها مع الاعتقاد بأن الله تعالى بيده الرزق فهذا هو المطلوب، وهو الذي حث الشرع عليه، أما مجرد اللفظ بالتوكل دون الأخذ بالأسباب فممنوع، وهو التواكل، وهو لا يجزئ، كما أن التلفظ بالإيمان دون العمل لا يجزئ. ذكر الإمام البيهقي رحمه الله في شعب الإيمان أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه مر بأهل اليمن فقال: ما أنتم؟ فقالوا: نحن المتوكلون. فقال: بل أنتم المتكلون. ألا أخبركم بالمتوكلين؟ رجل ألقى حبة في الأرض ثم توكل على ربه. وقال ابن عباس رضي الله عنهما: كان أهل اليمن يحجون ولا يتزودون، ويقولون: نحن المتوكلون. فإذا قدموا مكة سألوا الناس، فأنزل الله: {وتزودوا فإن خيۡر ٱلزاد ٱلتقۡوىۖ}(البقرة:١٩٧). رواه البخاري.
وقال الإمام سعيد بن جبير رحمه الله: التوكل جماع الإيمان. وقال الإمام التستري رحمه الله: الطعن في الحركة (يعني السعي) طعن في السنة، والطعن في التوكل طعن في الإيمان؛ فالتوكل إيمان النبي صلى الله عليه وسلم، والحركة سنته، فمن عمل على حاله فلا يتركن سنته.

وليعلم أن الله تعالى قادر على نصرنا على أعدائنا من دون مقدمات، وقد بين الله تعالى هذا الأمر فقال تعالى: {ذلكۖ ولوۡ يشآء ٱلله لٱنتصر منۡهمۡ ولكن ليبۡلوا بعۡضكم ببعۡضٖ}(محمد:3).
فالنصر له أسباب وكذلك الهزيمة، فمن أسباب النصر بعد الالتزام بشرع الله القتال لإعلاء كلمته، فيا من تجاهدون في سبيل الله في كل مكان توكلوا على من عنده النصر: {وما ٱلنصۡر إلا منۡ عند ٱللهۚ}(الأنفال:10).

ومن أراد الرزق فليتوكل على الرزاق، وقد قرأ النبي صلى الله عليه وسلم على أبي ذر رضي الله عنه هذه الآية: {ومن يتق ٱلله يجۡعل لهۥ مخۡرجٗا ويرۡزقۡه منۡ حيۡث لا يحۡتسب} ثم قال:"يا أبا ذر، لو أن الناس أخذوا بها لكفتهم" رواه الإمام أحمد في مسنده، والنسائي في السنن الكبرى، وابن ماجه في سننه، ورواه الحاكم في المستدرك وصححه، وقال الإمام شهاب الدين البوصيري رحمه الله في مصباح الزجاجة في زوائد ابن ماجه: هذا إسناد رجاله ثقات، إلا أنه منقطع ؛ أبو السليل لم يدرك أبا ذر، قاله في التهذيب. إلى آخر كلامه رحمه الله. وهذا الحديث وإن كان ضعيفا لهذه العلة إلا أنه يصح الاستشهاد به هنا ؛ فقد استشهد الأئمة العلماء به في فضائل الأعمال، ورجاله ثقات كما بين العلماء، وقد استشهد به أئمة كبار من جهابذة علم الحديث، كالإمام أحمد رحمه الله حيث رواه في كتاب الزهد، واستشهد به الإمام ابن تيمية رحمه الله في الفتاوى.

اللهم اجعلنا من المتوكلين عليك حق التوكل، وأغننا بفضلك عن من سواك، وانصر المجاهدين في سبيلك في كل مكان يا رب العالمين. 
 

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة