- اسم الكاتب:إسلام ويب
- التصنيف:الإيمان باليوم الآخر
من تجليات العدالة الإلهية ما قاله أحكم الحاكمين وأصدق القائلين: {ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئا} (الأنبياء:47)، ففي يوم القيامة تنصب موازين على وجه الحقيقة، ليتضح من خلالها أحوال العباد وأعمالهم، فيجازوا على حسناتهم بالإحسان، وعلى سيئاتهم بالعقاب، أو التجاوز والغفران.
وقد دلت النصوص الشرعية على ثبوت الميزان وإقامته يوم القيامة، وأنه بيد الرحمن جل جلاله، يرفع به أقواما، ويضع به آخرين، وبالميزان تتحدد مآلات البشر يوم القيامة ونهاياتهم فوزا أو خسارة، وإذا كانت المحاسبة لتقرير الأعمال، فالوزن لإظهار مقاديرها ليكون الجزاء بحسبها، وهذا ما يعتقده أهل السنة والجماعة خلافا للمذاهب البدعية التي أنكرت حقيقة الميزان، كالجهمية ومن تبعهم.
ومع وضوح قيام الوزن كإحدى الحقائق الغيبية التي وردت بها النصوص، وأجمع السلف عليها، إلا أن خلافا قد ورد بينهم حول طبيعة ما سيوضع في تلك الموازين وفقا لبعض الألفاظ الواردة فيما يوزن فيها، وكانت أقوال أهل العلم على النحو الآتي:
القول الأول: أن الله تعالى يضع في الموازين أعمال العباد، فهي وإن كانت معان مجردة، إلا أن الله تعالى –وهو القادر على كل شيء-، يحولها إلى أجسام حقيقية، فتوضع الحسنات في إحدى كفتي الميزان، والسيئات في الكفة الأخرى.
والدلائل على وزن الأعمال يوم القيامة كثيرة جدا، منها تكملة الآية التي صدرنا بها الموضوع: {وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين} (الأنبياء:47)، ومنها قوله تعالى: {فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون* ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم في جهنم خالدون} (المؤمنون: 102-103).
ومن الأحاديث الصحيحة التي تدل على وزن الأعمال، حديث أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:(كلمتان حبيبتان إلى الرحمن، خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم) رواه البخاري، وحديث أبي الدرداء رضي الله عنه، أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (ما يوضع في الميزان يوم القيامة أثقل من حسن الخلق) رواه أبو داود والترمذي.
ويبدو من ظواهر الأحاديث أن الموزون بالإضافة إلى الأعمال التي تنقلب من معان إلى أجسام –كما تقدم-، فإنه يشمل صحائف الأعمال كذلك، ويدل عليه حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنه، أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (يصاح برجل من أمتي يوم القيامة على رءوس الخلائق، فينشر له تسعة وتسعون سجلا، كل سجل مد البصر... فتوضع السجلات في كفة، والبطاقة في كفة، فطاشت السجلات، وثقلت البطاقة) رواه ابن ماجه، فمن الواضح أن السجلات قد وضعت –بنص الحديث- في الميزان، فرجحت بها بطاقة لا إله إلا الله، يقول القرطبي: "والصحيح أن الموازين تثقل بالكتب فيها الأعمال مكتوبة، وبها تخف".
القول الثاني: أن العامل نفسه يوزن كذلك، فيكون مقياس تفاضلهم في الميزان على الأعمال لا على الأبدان، فيثقل المرء بثقل أعماله، ويخف بخفتها وقلتها.
واستدل القائلون لهذا القول بحديث أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (إنه ليأتي الرجل العظيم السمين يوم القيامة، لا يزن عند الله جناح بعوضة، اقرءوا: {فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا} (الكهف: 105) رواه البخاري ومسلم، وفي المقابل: يؤتى بالرجل الهزيل الضعيف، ولكن أعماله قد بلغت الغاية في الحسن والإتقان، والفضل والإحسان، فيثقل صاحبها بثقل أعماله، ففي حديث ابن مسعود رضي الله عنه، أنه كان يجتني سواكا من الأراك –وهو اسم الشجر الذي يؤخذ منه-، وكان دقيق الساقين، فجعلت الريح تحركه يمنة ويسرة، فضحك القوم منه، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (مم تضحكون؟) قالوا: يا نبي الله، من دقة ساقيه، فقال عليه الصلاة والسلام: (والذي نفسي بيده، لهما أثقل في الميزان من أحد) رواه أحمد، كما جاء في أحد سياقات حديث البطاقة الذي سبق ذكره، ففيه: (توضع الموازين يوم القيامة، فيؤتى بالرجل، فيوضع في كفة، فيوضع ما أحصي عليه، فتمايل به الميزان) رواه أحمد.
بعد هذه الأقوال يمكن أن نتساءل: ما الذي يوضع في الميزان يوم القيامة؟ والجواب هو بالعودة إلى المعنى الذي تم ذكره في بداية الموضوع، بأن المقصود من وضع الموازين هو بيان أثر الأعمال في نجاة الشخص أو خسارته يوم القيامة، فوزن الأعمال هو الأصل في ذلك، ولا إشكال في كون الأعمال الموزونة أصلها معان، فالله القادر على كل شيء، وسعت قدرته في تحويل المعاني إلى أجسام لها وزن، وقد ضرب الله لنا مثلا بتحويل الموت إلى كبش يوم القيامة ثم يذبح بين الجنة والنار –كما ثبت في الحديث الصحيح-.
ولا إشكال في إمكان وزن العاملين يوم القيامة فقد وردت النصوص السابقة في حقهم، إلا أنه يبدو -والله أعلم- أنهم في الغالب لن يوزنوا يوم القيامة، بمعنى: لن يوضع كل مكلف في الميزان فيوزن مع عمله، لأن المقصود الأعظم من وضع الميزان هو إجراء التفاضل بين الأعمال، وبالأعمال يظهر حال المكلف ويتحدد مصيره، أما النصوص التي ذكرت وزن الرجل العظيم وبأنه لا يزن عند الله جناح بعوضة، فليس صريحا في كون المكلفين جميعا يوضعون في الميزان كما توضع الأعمال، بل إن سياق الحديث يبين معنى حقارة قدره، فلا يعتد به، ولا يكون له عند الله منزلة، فكأنه بيان عن حالة تبين طبيعة الوزن، لا أنها تثبت حقيقته وحصوله كحالة مستقرة.
قال السفاريني: " هذا ضربه النبي -صلى الله عليه وسلم- مثلا للذي يغتر ببعض الأجسام، وهو كناية عن عدم اكتراث الله بالأجساد؛ فإن الله لا ينظر إلى الصور، وإنما ينظر إلى الأعمال والقلوب، فكم من جسم وسيم وهو عند الله من أصحاب الجحيم، فهذا محمل الحديث الصحيح".
وأما حديث ابن مسعود رضي الله عنه فكذلك، فنص الحديث:(لهما أثقل في الميزان من أحد) فلو وزن ابن مسعود رضي الله عنه يوم القيامة لكان وزن ساقيه تثقلان على جبل أحد، وما كان ثقلهما إلا بسبب فعل صاحبهما من الحسنات الكثيرة التي بسببها فاقت وزن جبل كامل، أما القدر الزائد من الفهم، وهو أن العاملين سيوزنون مع أعمالهم، فيحتاج إلى نص أكثر وضوحا، كمثل الحديث الذي رواه أحمد، وقد تقدم، وفيه: (توضع الموازين يوم القيامة، فيؤتى بالرجل، فيوضع في كفة) فهو نص في بابه، إلا أن الحديث فيه ضعف من جهة راويه أبي لهيعة.
والحق أن القول بوزن العاملين له قوة، وقال به عدد كبير من العلماء، إلا أن القول بوزن الأعمال فقط هو الأظهر، وهو رأي السفاريني والقرطبي وابن عبدالبر وغيرهم، ومن المعاصرين الشيخ ابن عثيمين، والعلم عند الله تعالى.