ادخلوا في السلم كافة

0 876

عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [إن قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة، فإن استطاع أن لا تقوم حتى يغرسها فليغرسها](رواه أحمد وصححه الألباني).

إن هذا أعظم حدث يمكن أن يصيب الإنسان، ألا وهو نهاية عمره وانقضاء أجله، وأعظم منه أن يكون دعاء إلى القيامة.. وهو حدث ينسي المرء كل شيء بل ينسيه نفسه، وكان المنتظر أن يقال مثلا: إذا قامت القيامة فإن استطعت أن تستغفر الله لذنوبك، أو تطلب عفوه، أو توصي بخير أو .. أما أن يقال لك: إذا قامت القيامة وفي يدك فسيلة فإن استطعت أن تغرسها قبل أن تموت وتقوم قيامتك فاغرسها.. فهذا مما يستحق التأمل والنظر.

إن هذا إن دل فإنما يدل على أن هذا الدين العظيم هو دين العمل إلى آخر نفس من الأنفاس، وهو دين النفع للخلق إلى آخر لحظة ممكنة.
فما الذي يمكن أن ينتفع به المرء الذي تقوم قيامته من غرس فسيلة يتركها ويموت؟ بل وما الذي يعود على من غرس فسيلة والقيامة تقوم؟!
إنه مبدأ نشر الخير، وترسيخ مبدأ أنه دين العمل.

إن ديننا هذا أعظم الأديان، وهو دين متكامل في جميع جوانبه، وشامل يشمل جميع مناحي الحياة، وأسوأ ما يمكن أن يسيء إلى الإسلام هو سوء فهم أتباعه، أو أن نأخذ ببعض جوانبه ونترك بعضا. ولذلك أمرنا الله تبارك وتعالى أن نأخذ الإسلام كله، وأن ندخل فيه كله، وأن نعمل به كله، فقال: {يأيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين}(البقرة:208).
قال الإمام ابن كثير في تفسيره: "أمرهم أن يأخذوا بجميع عرى الإسلام وشرائعهن والعمل بجميع أوامره وترك جميع زواجره ما استطاعوا من ذلك".
وقال مجاهد: اعملوا بجميع الأعمال ووجوه البر.. وقال في موضع آخر: والصحيح أنهم أمروا كلهم أن يعملوا بجميع شعب الإيمان وشرائع الإسلام وهي كثيرة جدا ما استطاعوا منها.

والشيطان لن يدعكم لتفعلوا هذا؛ لأن فيه سعادتكم في الدنيا ونجاتكم في الآخرة، ولكنه سيحاول أن يجعلكم تعملون ببعض الإسلام وتتركون بعضه؛ لأن في هذا فساد دنياكم، هذا إذا سلمت لكم أخراكم.. فحذرنا الله من ذلك فقال: {ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدوا مبين}.
فإن أبيتم إلا أن تطيعوه، وإلا أن تعدلوا عن الطريق، وإلا أن تتركوا بعض ما أمرتم به بعدما بينا لكم {فاعلموا أن الله عزيز حكيم} (البقرة:209).. أي عزيز في انتقامه، لا يفوته هارب، ولا يغلبه غالب.. حكيم في أحكامه ونقضه وإبرامه.

لقد سبقنا بنوا إسرائيل فزلوا ووقعوا في هذه المصيبة فماذا كانت النتيجة؟! قال تعالى: {أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب}(البقرة:85). فالعاقبة لمن هذا مثاله: خزي في الحياة الدنيا، وعذاب يوم القيامة.. ولا كرامة.

الإسلام والعمل:
حين ينصح المسلم بأن يتقن عمله ويحسن في أداء ما وكل إليه في وظيفته أو موقعه، لأن العمل عبادة فيعترض على هذا بأن العمل ليس بعبادة، ولا هذا بحديث ولا بصحيح.. فهذا سوء فهم وقلة علم؛ لأن العمل حقا نوع من العبادة، وقد يكون من أجلها وأعظمها، خصوصا إذا كان في خدمة المسلمين وتيسير أحوالهم والتسهيل عليهم.

وقد روى الطبراني وغيره عن كعب بن عجرة قال: [مر على النبي صلى الله عليه وسلم رجل فرأى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من جلده ونشاطه فقالوا: يا رسول الله! لو كان هذا في سبيل الله؟!! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن كان خرج يسعى على ولده صغارا فهو في سبيل الله، وإن كان خرج يسعى على أبوين شيخين كبيرين فهو في سبيل الله، وإن كان خرج يسعى على نفسه يعفها فهو في سبيل الله، وإن كان خرج يسعى رياء ومفاخرة فهو في سبيل الشيطان].(صحيح الجامع)

وفي صحيح البخاري عن الزبير بن العوام رضي الله عنه قال عليه الصلاة والسلام: [لأن يأخذ أحدكم حبله ، فيأتي بحزمة الحطب على ظهره فيبيعها ، فيكف الله بها وجهه ، خير له من أن يسأل الناس ، أعطوه أو منعوه].

وفي مسند أحمد وسنن أبي داود عن أنس رضي الله عنه: "أن رجلا من الأنصار أتى النبي صلى الله عليه وسلم فسأله فقال: أما في بيتك شيء؟ قال: بلى حلس نلبس بعضه ونبسط بعضه، وقعب نشرب فيه من الماء، قال: ائتني بهما. فأتاه بهما، فأخذهما رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده وقال: من يشتري هذين؟ قال رجل: أنا آخذهما بدرهم. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من يزيد على درهم؟ مرتين أو ثلاثة، قال رجل: أنا آخذهما بدرهمين. فأعطاهما إياه، وأخذ الدرهمين فأعطاهما الأنصاري، وقال: اشتر بأحدهما طعاما فانبذه إلى أهلك، واشتر بالآخر قدوما فائتني به، فأتاه به، فشد فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم عودا بيده ثم قال: اذهب فاحتطب وبع ولا أرينك خمسة عشر يوما. ففعل فجاء وقد أصاب عشرة دراهم، فاشترى ببعضها ثوبا، وببعضها طعاما، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هذا خير لك من أن تجيء المسألة نكتة في وجهك يوم القيامة] (قال المنذري لا ينزل عن درجة الحسن وضعفه الألباني).

وفي الصحيحين عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال صلوات الله وسلامه عليه: [إن الخازن المسلم الأمين الذي ينفذ (وربما قال يعطى) ما أمر به، فيعطيه كاملا موفرا، طيبة به نفسه، فيدفعه إلى الذي أمر له به - أحد المتصدقين](وهذا لفظ مسلم).

إن الإسلام يشمل عقائد وعبادات وأخلاقا ومعاملات، ولا يمكن أن يقبل كدين إلا إذا جمع كل هذه الأمور، أما إذا كان الإنسان المسلم مهتما بجانب العقيدة ولكنه يعيش بلا أخلاق، أو كان مهتما بجانب العبادات مسيئا في جانب المعاملات، فما الذي أفاده الناس من عقيدته وعبادته؟! ومن يصلي ويصوم ويحج ولكن إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر.. فهذا منافق وليس بمؤمن. والمرأة التي كانت تقوم الليل وتصوم النهار ولكنها تؤذي جيرانها قال عنها النبي صلى الله عليه وسلم : [لا خير فيها، هي من أهل النار].( السلسلة الصحيحة وصحيح الأدب المفرد).

المسلم الحقيقي من أسلم وجهه لله وأحسن فيما بينه وبين خالقه، ثم أحسن فيما بينه وبين الخلق فسلم الناس من لسانه ويده.. والمؤمن الحقيقي هو الذي يأمنه الناس على أموالهم وأعراضهم ودمائهم بعد إيمانه بربه سبحانه، وصاحب الدين الحق هو الذي يعيش الإسلام كدين متكامل لا يطغى فيه جانب على جانب، وإلا كان ممن يأخذ ببعض الكتاب ويترك بعضا.

والإسلام الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم هو إسلام العقيدة والشريعة.. إسلام الدنيا والدين، إسلام المسجد والمصنع، إسلام البيت والشارع، إسلام العبادة والعمل، إسلام النفس بكل هواها، وإسلام البدن والروح، وإسلام الرضا بالله والاستسلام لأمره، والقبول بحكمه والانقياد لشرعه فـ {يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة}.

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة