صيغ المبالغة في القرآن الكريم

0 1990

يذكر أهل العربية أن في اللغة بعض الصيغ الصرفية التي تفيد المبالغة في الوصف، ويطلقون على تلك الصيغ (صيغ المبالغة)، ويذكرون تحت هذا الباب خمسة أوزان، وهي صيغة (فعال، فعول، فعيل، مفعال، فعل)، فمثال الأول قولك: فلان زراع، أي: كثير الزرع. ومثال الثاني قولك: فلان أكول، أي: كثير الأكل. ومثال الثالث قولك: فلان كريم، أي: كثير الجود والكرم. ومثال الرابع قولك: امرأة معطار، أي: كثيرة استعمال العطر. ومثال الخامس قولك: فلان خجل، أي: كثير الخجل. وهذه الصيغ كلها مشتقة من فعلها الثلاثي (فعل)، وهي تدل بنصها وصيغتها الصريحة على الكثرة والمبالغة في ذلك الفعل؛ ولهذا تسمى: (صيغ مبالغة).

وتصاغ صيغ المبالغة من مصدر الفعل الثلاثي، المتصرف، المتعدي، ما عدا صيغة (فعال)، فإنها تصاغ من مصدر الفعل الثلاثي اللازم والمتعدي، يقال: فلان بسام الثغر، ضحاك السن.

ثم إن هذه الصيغ الخمسة كانت ذات حضور واضح في القرآن الكريم، وخاصة الصيغ الأربع الأول، وأكثر ما وردت في أسماء الله سبحانه وصفاته. وفيما يلي نأتي بأمثلة على كل صيغة من هذه الصيغ: 

أولا: أمثلة على ما جاء في القرآن على صيغة (فعال)

ورد على صيغة (فعال) في القرآن الكريم العديد من الألفاظ، نذكر من ذلك قوله تعالى: {إن ربك فعال لما يريد} (هود:107)، أي: لا يمتنع عليه شي يريده. قال الزمخشري: "وإنما قيل: فعال؛ لأن ما يريد ويفعل في غاية الكثرة".

وجاء على هذه الصيغة أيضا قوله عز وجل: {إنك أنت علام الغيوب} (المائدة:109) فـ {علام} صيغة (فعال) التي تفيد المبالغة، فهي تفيد الغاية في العلم، فهو سبحانه يعلم ما كان، وما يكون، وما لم يكن، وما هو كائن.

ومن هذا القبيل قوله سبحانه: {ولا تطع كل حلاف مهين * هماز مشاء بنميم * مناع للخير معتد أثيم} (القلم:10-12)، فـ (الحلاف) الكثير الحلف، و(الهماز) الذي يهمز الناس بيده، ويضربهم، (والمشاء) الكثير المشي بالنميمة بين الناس؛ ليفسد بينهم، و(المناع) الذي يبخل في ماله، ويمنعه عن الناس، وكل هذه الألفاظ من صيغ المبالغة، التي تفيد الكثرة.

ومن الألفاظ التي جاءت على صيغة (فعال) إضافة لما تقدم الألفاظ التالية: (الغفار)، (الوهاب)، (التواب)، وهي كلها تفيد المبالغة في فعلها الذي اشتقت منه. 

أما قوله تعالى: {وأن الله ليس بظلام للعبيد} (آل عمران:182)، فلفظ (ظلام) على صيغة (فعال) هي تفيد المبالغة، غير أنها هنا ليست على بابها؛ ولا يستقيم المعنى على المبالغة؛ إذ أن صيغة (فعال) هنا لو كانت للمبالغة، لكان النفي منصبا على المبالغة وحدها؛ فيكون المعنى: وما ربك بكثير الظلم؛ فالمنفي هو الكثرة وحدها دون الظلم الذي ليس كثيرا، وهذا معنى فاسد؛ لأن الله لا يظلم مطلقا، لا كثيرا ولا قليلا. ومن ثم ذهب كثير من المحققين إلى أن المراد من هذه الصيغة هنا نفي نسبة الظلم إليه سبحانه; لأن صيغة (فعال) تستعمل مرادا بها النسبة، فتغني عن ياء النسب، ويكون المعنى على هذا: أنه سبحانه ليس بذي ظلم، أي: لا ينسب إلى الظلم، كقولهم: (ليس بنبال) أي: بذي نبل.

ثانيا: أمثلة على ما جاء في القرآن على صيغة (فعول)

جاء على صيغة (فعول) العديد من الألفاظ القرآنية، نذكر منها: قوله عز وجل: {إنه كان عبدا شكورا} (الإسراء:3)، فـ (الشكور) فعول من صيغ المبالغة، أي: كثير الشكر. ونحوه قوله سبحانه: {إنه غفور شكور} (فاطر:30) فاللفظان: {غفور شكور} من صيغ المبالغة، أي: إنه سبحانه كثير المغفرة لعباده، يقبل القليل من العمل الخالص، ويثيب عليه الجزيل من الثواب. ومنها قوله تعالى: {إن الله لعفو غفور} (الحج:60) فـ (العفو) صيغة (فعول) من العفو، أي: إنه سبحانه وتعالى كثير العفو. و(العفو) صفة من صفاته جل وعلا. وكثير من صفاته تعالى وأسمائه جاءت على صيغة (فعول)، كـ (الصبور)، و(الودود)، (والرؤوف).

ومن هذا الباب أيضا قوله عز وجل: {وغركم بالله الغرور} (الحديد:14)، (الغرور) فعول صيغة مبالغة، كالشكور، والصبور، سمي به الشيطان؛ لأنه لا نهاية لغروره، أو لأنه يغر ابن آدم كثيرا؛ إذ هو أخبث الغارين بالدنيا.

ومما جاء على هذه الصيغة كذلك قوله سبحانه: {إن الإنسان لظلوم كفار} (الأحزاب:72) فـ (ظلوم) فعول من صيغ المبالغة؛ سمي الإنسان بذلك؛ لأنه كثير الظلم لربه، ولنفسه، ولغيره. ونحو هذا قوله عز من قائل: {إن الإنسان لكفور} (الحج:66)، فـ (كفور) فعول من صيغ المبالغة؛ وصف الإنسان بذلك؛ لكثرة كفرانه بنعم الله سبحانه وجحوده لها.

ومنها قوله تبارك وتعالى: {إن الإنسان خلق هلوعا} (المعارج:19) فـ (هلوع) فعول من صيغ المبالغة؛ وصف بذلك الإنسان مبالغة لاتصافه بالهلع. قال أبو حيان: "وأكثر ما ذكر {الإنسان} في القرآن في معرض الذم، أو مردفا بالذم".

ومنها أيضا قوله سبحانه: {سأرهقه صعودا} (المدثر:17) فـ (الصعود) العقبة الشديدة التصعد، الشاقة على الماشي، وهي فعول مبالغة من صعد؛ فإن العقبة صعدة، فإذا كانت عقبة أشد تصعدا من العقبات المعتادة قيل لها: صعود.

ومنها كذلك قوله سبحانه: {وإن مسه الشر فيئوس قنوط} (فصلت:49) فالصفتان (يؤوس قنوط) على وزن فعول من صيغ المبالغة، وصف بهما الإنسان لكثرة ما ينتابه من يأس وقنوط. و(اليأس) من صفة القلب، و(القنوط) أن يظهر آثار اليأس في الوجه والأحوال الظاهرة.

ومنها قوله عز وجل: {ولا الظل ولا الحرور} فـ {الحرور} على وزن فعول من صيغ المبالغة، و{الحرور} مأخوذ من الحر، وفيه معنى التكثير، أي: الحر الكثير الأذى.

ومنها قوله تعالى: {وأنزلنا من السماء ماء طهورا} (الفرقان:48) فـ (طهور) فعول من صيغ المبالغة؛ وصف ماء السماء بذلك للمبالغة في طهارته، وجهة المبالغة كونه لم يشبه شيء، بخلاف ما نبع من الأرض ونحوه، فإنه تشوبه أجزاء أرضية من مقره، أو ممره، أو مما يطرح فيه.

ومنها قوله عز وجل: {هو الذي جعل لكم الأرض ذلولا} (الملك:15) فـ (ذلول) فعول من صيغ المبالغة، أي: جعل سبحانه الأرض للإنسان في غاية السهولة؛ ليستقر فيها، ويقيم عليه حياته ومعاشه، فهو لم يجعل الأرض بحيث يمتنع المشي فيها والمعيش، بل جعلها في غاية السهولة والانقياد.

فأما قوله عز من قائل: {إن الله لا يحب من كان مختالا فخورا} (النساء:36) فـ (فخور) على وزن فعول من صيغ المبالغة، غير أنها هنا ليست على بابها؛ إذ ليس المراد هنا كثرة الفخر؛ لأن الله يكره صاحب الفخر مطلقا، سواء أكان كثير الفخر بنفسه أم قليله.

ثالثا: أمثلة على ما جاء في القرآن على صيغة (فعيل)

جاء على هذه الصيغة قوله سبحانه: {والله شكور حليم} (التغابن:17)، فـ {حليم} على وزن فعيل من صيغ المبالغة، سمي سبحانه بذلك؛ لكثرة حلمه على عباده.

ونحو هذا قوله تبارك وتعالى: {فأنه غفور رحيم} (الأنعام:54)، فـ {رحيم} على وزن فعيل من صيغ المبالغة، سمي سبحانه بذلك؛ لكثرة رحمته لعباده. ووصف {الرحيم} (الفاتحة:3) ورد كثيرا في القرآن الكريم.

ومنها أيضا قوله تعالى: {إنه عزيز حكيم} (البقرة:209) فالصفتان {عزيز حكيم} على وزن فعيل من صيغ المبالغة، وكلتاهما يفيد بلوغ النهاية في هاتين الصفتين. وهما أيضا من الصفات التي تكررت بكثرة في القرآن الكريم.

ونظير هذا قوله تعالى: {وهو بكل شيء عليم } (البقرة:29) فـ {عليم} على وزن فعيل من صيغ المبالغة، وهي صفة تفيد أنه علمه سبحانه محيط بكل شيء، لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء. وصفة {العليم} (البقرة:33) من الصفات المتكررة بكثرة في القرآن الكريم.

رابعا: أمثلة على ما جاء في القرآن على صيغة (مفعال)

جاء على هذه الصيغة قوله عز وجل: {وأرسلنا السماء عليهم مدرارا} (الأنعام:6)، فـ (مدرار) على وزن مفعال من صيغ المبالغة، وفيه معنى التكثير، أي: يرسل السماء بالمطر متتابعا يتلو بعضه بعضا، والفعل من درت السماء تدر وتدر، فهي مدرار.

ومن هذا القبيل قوله سبحانه: {إن جهنم كانت مرصادا} (النبأ:21) فـ (مرصاد) على وزن مفعال من صيغ المبالغة، و(الرصد) الترقب؛ كأن جهنم كثيرة الترصد للخارجين عن حدود الله. قال الشوكاني: "فكأنه يكثر من جهنم انتظار الكفار".

ومنها أيضا قوله تعالى: {كلما دخل عليها زكريا المحراب} (آل عمران:37) فـ (محراب) على وزن مفعال من صيغ المبالغة، وهو مأخوذ من الحرب، قيل: سمي بهذا؛ لأن العابد يحارب فيه الشيطان، وما أكثر ما ينتاب الشيطان الإنسان في عبادته، وهو في محرابه متوجها إلى ربه!

خامسا: أمثلة على ما جاء في القرآن على صيغة (فعل)

هذه الصيغة جاءت على قلة في القرآن الكريم، ومما جاء عليها قوله تعالى: {إن الله لا يحب الفرحين} (القصص:76) فـ (الفرح) على وزن فعل من صيغ المبالغة، أي: إن الله سبحانه لا يحب المفرطين في الفرح؛ إذ المبالغة في الفرح تقتضي شدة الإقبال على ما يفرح به، وهي تستلزم الإعراض عن غيره، فصار النهي عن شدة الفرح رمزا إلى الإعراض عن الجد والواجب. أما من كان مقتصدا في فرحه، فليس داخلا في هذا النفي.

ومنها أيضا قوله تعالى: {بل هم قوم خصمون} (الزخرف:58) فـ (الخصم) بكسر الصاد على وزن فعل من صيغ المبالغة، يوصف بهذا من كان شديد التمسك بالخصومة واللجاج مع ظهور الحق عنده. والآية هنا تصف القوم بحب الخصام، وحب الشيء يدل على المبالغة فيه، والتكثر منه.

ومحصل ما تقدم، أن صيغ المبالغة الخمسة وردت في القرآن الكريم بكثرة -عدا صيغة (فعل)- وهي تفيد المبالغة في الوصف، وقد جاءت على بابها في أغلب مواضع ورودها في القرآن الكريم، وجاءت على غير بابها في بعض المواضع، وقد مثلنا لكل، وتبقى وراء ذلك أمثلة أخر، تعرف بالقياس على ما أتينا عليه هنا من أمثلة.

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة