عبقرية أم نبوة؟

0 1751

من المعلوم أن العبقرية صفة ذاتية للمرء يتميز بها بعض الناس، ويتفوقون بها على غيرهم، بخلاف النبوة التي هي صفة إضافية يمنحها الله تعالى لمن يصطفي من عباده، ونحن إن نسبنا ما حققه رسول الله -صلى الله عليه وسلم - من نجاح لعبقريته فحسب، فمؤدى هذا المسلك هو نفي النبوة عنه تماما؛ لأن دور التأييد الإلهي عندئذ سينتفي تماما.

وهذا هو المسلك الذي روج له بعض الكتاب المسلمين في كتاباتهم الموجهة للغرب؛ فهم يروجون لشخصية محمد العبقري المصلح، الزعيم البطل، إلى آخر هذه الأوصاف التي لا تقتضي النبوة التي هي من الغيبيات، وغرض هذا الصنف من الكتاب هو التقرب إلى الغرب المنكر لنبوة محمد -صلى الله عليه وسلم -.،كذلك يفعل المنكرون لنبوته من النصارى العرب كالقس يوسف حداد، ومعلوم أن العبقرية دون النبوة في المنزلة، ولا يمكن أن تعدلها في المكانة، وحسبنا في ذلك إمكان أن يكون العبقري محتالا أو منافقا أو كذابا!.

ونحن كما ننكر على من نسب العبقرية البشرية لمحمد -صلى الله عليه وسلم – واكتفى بها، ننكر ذلك أيضا على الكتاب المعاصرين الذين يروجون لهذه العبقرية بين الغربيين والعلمانيين، فإن دعوة غير المسلمين للإيمان بعبقرية محمد -صلى الله عليه وسلم -حاصلها هو صرف الأذهان عن نبوته، وإلا فما الفائدة التي تعود على غير المسلمين من عبقرية محمد -صلى الله عليه وسلم -؟

والكلام في هذه المسألة دقيق للغاية، ويحتاج إلى عناية؛ لأن العبقرية هي من صفات الكمال الثابتة للنبي –صلى الله عليه وسلم- ولا شك، فهو لم يكن كعامة الناس وبسطائهم في محدودية التفكير، لكن القضية هي في التناول غير المنصف لهذه الصفة واتخاذها سلما لتفسير كل النجاحات التي حققها –صلى الله عليه وسلم- في دعوته وفي إقامة دولته، وفي حواراته وأحاديثه، وفي سلمه وحربه، لذلك نقول: إن الكلام عن العبقرية النبوية قد لا نستفيد منها كثيرا في باب إثبات النبوة، بل ربما تكون أداة لنفيها كما حاول بعض المستشرقين والمنصرين.

فإن احتج البعض بما ورد في بعض الكتابات المعاصرة عن الإعجاز في شخصية محمد -صلى الله عليه وسلم -واجتماع العبقريات في ذاته واعتباره دليلا على نبوته (1)، قلنا: إن هذا المسلك هو جزء من دليل كبير استخدمه هؤلاء الكتاب، ولم يكتفوا بالكلام على الشخصية النبوية فقط من حيث هي شخصية، بل امتد كلامهم لتأثير هذه الشخصية فيما حولها ومن حولها، فيما يعرفه العلماء بدليل التمكين الإلهي لإثبات النبوة، وهي المسألة التي سنسلط عليها الضوء في هذا الموضوع للرد على من ضل في باب إثبات العبقرية والاقتصار عليها.

وحاصل الدليل: أن العبقرية التي تمتع بها النبي-صلى الله عليه وسلم-، ما كان لها أن تفسر مقدرته على تحقيق التمكين في الأرض، وإقامة هذا المجتمع المثالي، وتوسيع رقعة دعوته ودولته، وما تحقق لها من انتشار، فهذا الأمر أكبر من مجرد العبقرية.

ولله در الدكتور مصطفى محمود حيث قال: "وأيا كان التفسير فإنك إن أخذت تحسب بالورقة والقلم كيف حدثت هذه الأمور، واستعنت بالعقل الإلكتروني وكافة وسائل الحساب الحديثة، فإنك لا تستطيع أن تفسر كيف أن فردا واحدا مضطهدا مطاردا، يؤثر هذا التأثير في أفراد قلائل يعدون على الأصابع، ثم يؤثر هؤلاء في كثرة من مئات ثم ألوف تهزم الروم، ثم الفرس -وكانتا دولتين كأمريكا وروسيا في ذلك الوقت- يحدث كل هذا في سنوات معدودة ، وابتداء من الصفر، ومن بداوة مطلقة، ومن عرب مشرذمين في قبائل تقتل بعضها بلا حضارة وبلا علم يذكر، وإنك لن تصل أبدا في حسابك إلى تلك النتيجة الهائلة، وستظل المعادلة ناقصة حتى تدخل فيها ذلك العامل الخفي، عامل الغيب، وسند المدد الإلهي من التمكين والتوفيق".

ويختم كلامه بقوله: "نحن إذن أمام نبوة مؤيدة بسند الغيب، ورجل انعقد له لواء التمكين الإلهي، ولسنا أمام مصلح اجتماعي، أو صاحب ثورة، أو عظيم من عظماء الدنيا، يعمل بالاجتهاد والعلم الكسبي"(2).

فهذا هو تمام الدليل الذي ينبغي الإشارة إليه، ولا يصح نقل أول الدليل دون تمامه، فأوله يبدأ من الملامح الشخصية ثم ينتقل إلى تأثيرها في غيرها حتى ينتهي إلى ما حققته هذه الشخصية من نتائج باهرة وإنجازات معجزة .

وهذا الدليل آية بينة ولا ريب؛ فإنه ما جاء أحد كنبينا -صلى الله عليه وسلم -في الوحدة والفقر والفاقة، ومنافرة الأمم كلها ومعاداتها، ثم صار أمره في القهر والغلبة ما صار أمره إليه، فإنه في ظاهر الأمر وحكم العقل لا يكون إلا من قبل الله الذي لا يغلبه شيء.

وما غلبت العرب ولا عزت إلا بالإسلام، فقد كانت الشرذمة القليلة من عسكر فارس أو الروم تنفذ إلى جزيرة العرب فتقتل وتأسر، وكان النفر اليسير منهم يلقى الأعداد الكبيرة من مقاتلي قبائل العرب وفرسانهم فيهزموهم ويدحروهم . ثم عاد الأمر بخلاف ذلك فكان النفر من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم -يلقون الجموع الغفيرة من الفرس والروم فينصرون عليهم مع قلة سلاحهم وعتادهم وعدتهم .

فإن كان من المعقول أن تغلب القلة الكثرة في موقعة أو موقعتين، فإنه لا يكون على طول الخط إلا بتأييد إلهي وحبل متين.

ودلائل انهزام العرب مع كثرتهم أمام أقل جند الفرس والروم معلومة لدى المؤرخين، وشواهدها من روايات السيرة كثيرة، نذكر منها ما أورده الحافظ ابن كثير في السيرة عندما عرض رسول الله -صلى الله عليه وسلم -نفسه على بني بكر بن وائل، فوصفوا نفسهم بالكثرة، ثم نفوا عن أنفسهم القدرة على ملاقاة الفرس، وها هو نص الرواية :
قال عليه الصلاة والسلام : (كيف العدد؟) قالوا : كثير مثل الثرى، فقال لهم : (فكيف المنعة؟) قالوا : لا منعة، جاورنا فارس، فنحن لا نمتنع منهم ولا نجير عليهم، فقال لهم: (فتجعلون لله عليكم إن هو أبقاكم حتى تنزلوا منازلهم، وتستنكحوا نساءهم، وتستعبدوا أبناءهم، أن تسبحوا الله ثلاثا وثلاثين، وتحمدوه ثلاثا وثلاثين، وتكبروه أربعا وثلاثين؟) (3)

ففي رد بني بكر بن وائل - الذين هم كثيرو العدد مثل الثرى - ما يدل على أنهم عاجزون أمام الفرس لا يمتنعون منهم إن هاجموهم أو أغاروا عليهم رغم كثرة عددهم كالثرى!.

ويظهر هذا المعنى أكثر في حوار المثنى بن حارثة الشيباني عندما عرض عليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم –نصرته، فبان كلامه عن تهيب للفرس، ومعلوم أن بني شيبان من أقوى قبائل العرب وأمنعها وأشدها، قادرة على حرب العرب كلهم، لكنها لا ترفع سيفا ولا عصا في وجه الفرس، ولا ريب أن الأمر كذلك مع الروم (4).

أضف إلى هذا حقيقة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم -كان يعد أصحابه بهذا النصر والتمكين، وأنه سيقهر كسرى وقيصر، وأن دينه سيظهر، وأن ملكه سيعلو، وأخبر بهذا وملوك الفرس والروم قائمة، بل والمسلمون أذلة في مكة لا يأمن الواحد منهم على نفسه، فوعدهم أن يرثوا الأرض وملكها، بل كان وعده في أشد لحظات الخوف والرعب والزلزلة، كما حدث في غزوة الأحزاب، حتى اتخذها المنافقون ذريعة للتشكيك في نبوته فقالوا: {ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورا} (الأحزاب:12)، ومع ذلك كله: تحقق ما أخبر به رسول الله من التمكين، فكان الأمر كما وعد وأخبر.

ومعروف من سيرته -صلى الله عليه وسلم -أنه كان يعرض نفسه على القبائل وفي المواسم ليتبعوه، ويشرط عليهم في ذلك عداوة الأمم كلها، ومحاربة الملوك، كقوله -صلى الله عليه وسلم -لبني شيبان عندما أبدوا خوفهم من جيرانهم الفرس إن هم آووه: ( أرأيتم إن لم تلبثوا إلا قليلا، حتى يورثكم الله تعالى أرضهم وديارهم، ويفرشكم نساءهم، أتسبحون الله وتقدسونه؟) (5).

وقوله –صلى الله عليه وسلم- لبني قيس بن ثعلبة عندما ذكروا له هوانهم على الفرس وقلة شأنهم أمامهم : ( فتجعلون لله عليكم إن هو أبقاكم، حتى تنزلوا منازلهم، وتستنكحوا نساءهم، وتستعبدوا أبناءه، أن تسبحوا الله ثلاثا وثلاثين، وتحمدوه ثلاثا وثلاثين، وتكبروه أربعا وثلاثين؟) (6).

وقوله –صلى الله عليه وسلم- لأصحابه بعد مبايعة الأوس والخزرج، أي قبل البدء بقتال أهل الباطل بسنوات: ( احمدوا الله كثيرا؛ فقد ظفرت اليوم أبناء ربيعة بأهل فارس، قتلوا ملوكهم، واستباحوا عسكرهم، وبي نصروا) (7).

هذه فقط أمثلة من وعود رسول الله -صلى الله عليه وسلم -– التي قطعها بمكة - لمن اتبعه بالنصر والتمكين ووراثة الأرض، ولو تتبعت الوعود المماثلة التي قطعها في مختلف مراحل الدعوة في مكة والمدينة لطال البحث جدا ولضاق المقام .

وبالجملة، فإن الأمر لا يتوقف عند تحقق وعود النبي -صلى الله عليه وسلم -في الأمن والتمكين لمن اتبعه ونصره، بل في تحققها ضد جميع الأسباب الطبيعية مع وحدته وفقره وتبرئه من جميع الأمم وتكفيره لها وإعلانه الحرب عليها، وإخباره رغم كل هذه الحالات أن الله عز وجل سيظهره عليهم، وقد أخبر بذلك جميعه في أول أمره قبل أن يكون شيء منه، وقد وقع الأمر كما أخبر، فهذه شهادة لرسول الله – صلى الله عليه وسلم - بصحة نبوته ورسالته، قد أظهرها الله وبينها، وبين صحتها غاية البيان، بحيث قطع العذر بينه وبين عباده، وأقام الحجة عليهم .

هوامش المقال:
1- هذا المسلك في إثبات البنوة تجده - مثلا - في كتابات الدكتور مصطفى محمود ، وقد سبق الدكتور إلى هذا المسلك عدد من أصحاب المدرسة العقلانية كمحمد فريد وجدي ومحمد حسين هيكل ومحمد رشيد رضا وعباس محمود العقاد وغيرهم.
2- مصطفى محمود ، محمد صلى الله عليه وسلم ص38-39
3- ابن كثير ، السيرة النبوية 2/160
4- انظر المصدر السابق 2/168
5- ابن كثير ، البداية والنهاية 3/145
6- المصدر السابق ص140
7- المصدر السابق ص146

 

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة