- اسم الكاتب:أبو عبد الرحمن الإدريسي-إسلام ويب
- التصنيف:تعزيز اليقين
تتوقف حياة الفرد والجماعة في شتى نواحيها – بما يعرض لها من سعادة وعزة وعلم واتساع عمران – على المال؛ والذي يعتبر قوام معاش الناس، وضمانا لقضاء مصالحهم الخاصة والعامة .
فالإسلام دين عملي، يزاوج بين مطالب الروح والجسد؛ ولهذا اهتم بالمال في حياة الإنسان، ودعا إلى تنميته في نطاق الحدود التي شرعها من زراعة، وصناعة، وتجارة، وغير ذلك، كما سمح بإنفاقه في مصارفه التي شرع لها، ورغب فيها بعيدا عن كل أنواع السرف والترف، والتقتير والشح؛ ذلك أن المسلم الحق ليس حرا في إنفاقه دون تقييد بالأحكام الدينية، والآداب الإسلامية، وإنما هو في إنفاقه مقيد بالتوازن والاعتدال، لا إسراف يفسد النفس والمجتمع وتضيع معه الأموال، ولا تقتير ينحبس معه المال فلا ينتفع به صاحبه، ولا تستفيد منه الجماعة، مما يحدث خللا في السير الاقتصادي، يمنع الأموال من أداء وظيفتها الأساسية في نطاق الاعتدال والتوازن، اللذين يعتبران من سمات الإسلام والإيمان، ويتفقان مع قوله تعالى : { والذين إذا أنفقوا لن يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما } ( الفرقان 67 ).
وحفاظا على الأموال من الضياع، وما تتعرض له أحيانا من تلف بسبب الديون المترتبة عن العلاقات التجارية بين المسلمين، دعا الإسلام إلى توثيق الأموال في الديون وسائر المعاملات التجارية، من بيع وشراء وقرض والإشهاد عليها؛ صيانة لها من الضياع والإنكار؛ وحتى يكون المتعاقدون أو ورثتهم على بينة من حقوقهم وواجباتهم، وتجنبا لكل الخلافات التي قد تؤدي إلى أكل أموال الناس بالباطل؛ يقول الله عز وجل : {يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه وليكتب بينكم كاتب بالعدل .. وأشهدوا إذا تبايعتم ولا يضار كاتب ولا شهيد} ( البقرة: 182).
ومن جهة ثانية فقد أباح الإسلام الاستمتاع بمباهج الحياة ومتعها المشروعة، في نطاق الحدود المرسومة؛ وقد رغب سبحانه في البذل والإنفاق المشروع على النفس والأهل، حتى تغدو الحياة جميلة بهيجة، تنطلق النفس معها من إسارها لترى جمال الكون، وتتحسس عظمة الخالق .
والإنفاق المشروع ينافي الإسراف المؤدي إلى الترف، الذي يعتبر منبع شر الفرد والجماعة، ويملأ القلوب حقدا وضغينة، ويغرس في النفوس الأثرة وحب الذات، ويؤدي بصاحبه إلى العسر والإفلاس؛ فيصبح معسرا بعد غنى، ذليلا بعد عزة؛ يحتاج إلى معونة غيره بعد أن كان معينا للآخرين، بسبب التبذير والإسراف وإنفاق الأموال في غير موضعها، ومن ذلك ما يبعثر من مال في كل من الميسر والقمار وشرب الخمر، وما يصرف من جلسات على القينات وما جرى مجراها.
وقد شبه القرآن الكريم المسرفين بالشياطين الذي يضلون، ويعيثون في الأرض فسادا : { ولا تبذر تبذيرا إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين وكان الشيطان لربه كفورا } ( الإسراء : 26، 27 ).
وعلل تحريم الإسراف في الإنفاق بأنه يفسد نظام المعيشة؛ ويؤدي إلى الكفران بالنعمة التي أنعم الله بها على عباده؛ ذلك أن المبذرين لما صرفوا نعم الله عليهم في غير موضعها فقد خالفوا وتركوا الشكر عليها.
وغير خاف أن الترف سبب الهلاك والعذاب للفرد؛ بسبب ما يرتكب من معاص وآثام، وللجماعة التي سمحت بوجود المترفين ولم تقاوم هذه الظاهرة الخطيرة بما يكفل القضاء عليها : { وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا } ( الإسراء : 16 ) .
وحتى تتحقق الغاية الأساسية من الأموال، وينتفع الجميع وتتطهر النفوس من الأثرة التي يخلقها حب المال والتعلق به؛ قاوم الإسلام في المالكين للأموال والقائمين عليها خلق الشح والبخل، الذي يحرم النفس من المتاع المشروع، ويمنع الفرد من البذل والعطاء: { ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوما محسورا } (الإسراء : 29).
إن غل اليد والتقتير على النفس ظلم وحرمان، وهو يفضي إلى التضييق على المحتاجين الذين يحول البخل بينهم وبين فضول أموال الأغنياء، بما أوجب الله فيها من حق للمعوزين وذوي الحاجة، يقول الرسول – صلى الله عليه وسلم - : ( إياكم والشح، فإنما هلك من كان قبلكم بالشح، أمرهم بالقطيعة فقطعوا، وأمرهم بالبخل فبخلوا، وأمرهم بالفجور ففجروا ) رواه أبو داود.
ولذلك علينا أن نعمل بما أمرنا الله به، ونجتنب ما نهانا عنه، فنبسط اليد فيما تبسط فيه، لا إسراف ولا بخل، وإنما توسط واعتدال.
ومن جماليات الدين أنه أرشد المتعاملين بالديون المؤجلة، إلى طريقة تضمن سلامة الأموال من الضياع، فأمرهم بكتابتها وتوثيقها، والإشهاد عليها من طرف كاتب عدل عالم بأحكام الشريعة، فيما يكتب، ملم بشؤون التوثيق الذي يحفظ الحقوق، وعلى المدين الذي عليه الحق، أن يملي على الكاتب اعترافه بالدين، ومقداره، وأجله، لأنه المقر الملتزم له، حتى يكون ما في وثيقة العقد حجة عليه يبرزها صاحب الدين عند الاستحقاق.
إن الاقتصاد أساس تدبير الحياة، ونصف المعيشة، وهو الاتجاه الذي يغلب على الأفراد وأرباب العائلات؛ لما يجدون من راحة وهدوء، وسرور وتمتع بالنعم والخيرات التي أفاضها الله على عباده، قال بعض كتاب الغرب : " قد خبرت الأمور وعانيتها، ثم بعد تفكير عميق في الحياة، لم أجد سوى أمرين ربما جلبا السعادة : الاعتدال في مطالب النفس، وحسن التصرف في الثروة " (1).
فالمحافظة على المال، وتطبيق الوصايا الرحمانية في شأنه، مما يبعث في النفس الاطمئنان، ويرفع قيمة الإنسان، ويوفر له الرزق والخير الحلال؛ وإذا تقاعس الفرد في هذا الشأن؛ ساء حاله وحال مجتمعه؛ وانغمس في وحل التبذير أو البخل، والمادية والغنى إن طغت في مجتمع انفتحت عليهم أبواب المعاصي، وصاروا أقرب إلى الفتنة من غيرهم، فإن نسوا ما وصوا به، انتهى بهم إلى ذاك النوع الوضيع من الخلق، فيصير يسرها لا محالة عسرا، ومعروفها منكرا، وتلك آفة الأخلاق، وبداية السقوط.
هوامش المقال
1- عن كتاب " الأخلاق والواجبات" للشيخ عبد القادر المغربي، ص :62.