- اسم الكاتب:إسلام ويب ( أ. د عبدالسلام مقبل المجيدي )
- التصنيف:مقدمات في القرآن
أنزل الله تعالى القرآن ليغدو روحا يحيى الله به قلوب الموتى، ونورا يهدي به ذوي القلوب الحيرى، أرسى عددا عظيما من المبادئ التي تبني التزكية القلبية، والبصيرة العقلية، والنور الذي يمشي المنعم عليه بين الناس، ومن هذه المبادئ العظيمة الرائعة: مبدأ القسط في نقل الأخبار، وتوصيف الوقائع، مما يعطى دقة كبيرة في التحليل مع إخراج ذلك في ثوب قشيب من الجمال اللفظي، ولوحة رائعة من الكمال التركيبي، والقرآن الكريم يربي وسائل الإعلام، ومؤسسات التعليم، ومنابر التربية على النقل الصادق، والتوثيق الواقعي لما يجوز نقله من الأخبار، أو لما ينبغي بيانه من الأحكام.
الفرق بين القسط والعدل:
بنى الله الكون على (القسط) فقال سبحانه: {والسماء رفعها ووضع الميزان * ألا تطغوا في الميزان * وأقيموا الوزن بالقسط ولا تخسروا الميزان} (الرحمن:7 - 9)، وجعل من أعظم صفاته القيام بالقسط فقال سبحانه: {شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم قائما بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم} (آل عمران: 18)، وقد ورد الأمر بالعدل والقسط في كثير من النصوص القرآنية، كقوله تعالى: {إن الله يأمر بالعدل والإحسان} (النجل:90)، وقوله: {فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين} (الحجرات:9)، وقوله تعالى: {وأمرت لأعدل بينكم} (الشورى:15)، وقوله: {يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا} (النساء:135) الآية، وفي معناها قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون} (المائدة:8)، وذكروا في الفرق بين القسط والعدل وجوها منها:
1) أن القسط هو العدل البين الظاهر، ومنه سمي المكيال قسطا، والميزان قسطا؛ لأنه يصور لك العدل في الوزن حتى تراه ظاهرا، وقد يكون من العدل ما يخفى.
2) جمع الله بين ذكر القسط والعدل في عدد من الآيات منها قوله تعالى: {وأوفوا الكيل والميزان بالقسط لا نكلف نفسا إلا وسعها وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قرب} (الأنعام:152) ويدخل في الأمر بقول العدل –كما ينقل الرازي- كل ما يتصل بالقول كالدعوة إلى الدين، وتقرير الدلائل عليه، وأن يكون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واقعا على وجه العدل من غير زيادة في الإيذاء والإيحاش ونقصان عن القدر الواجب، ويدخل فيه الحكايات التي يذكرها الرجل حتى لا يزيد فيها ولا ينقص منها، ومن جملتها تبليغ الرسالات عن الناس، فإنه يجب أن يؤديها من غير زيادة ولا نقصان. ويدخل فيه حكم الحاكم بالقول ثم إنه تعالى بين أنه يجب أن يسوى فيه بين القريب والبعيد؛ لأنه لما كان المقصود منه طلب رضوان الله تعالى، لم يختلف ذلك بالقريب والبعيد.
لكننا نلاحظ أن العدل هنا اختص بالقول، والقسط ظهر في الفعل مع آلة ظاهرة وهي المكيال والميزان.
3) كما نجد أن كلمة القسط تأتي في القرآن بمعنى الحكم القضائي {وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط} (المائدة:42)، {يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله} (النساء:135). ومن أسماء الميزان القسطاس {وأوفوا الكيل إذا كلتم وزنوا بالقسطاس المستقيم} (الإسراء:35). وللعلم كلمة يقوم لم ترد في القرآن مع العدل (قوامين بالقسط) فقط {ليقوم الناس بالقسط}(الحديد:25)، {وأن تقوموا لليتامى بالقسط}(النساء:127)، {شهد الله أنه لا إلـه إلا هو والملائكة وأولوا العلم قآئما بالقسط}(آل عمران:18)، {وأقيموا الوزن بالقسط ولا تخسروا الميزان}(الرحمن:9)، {ويا قوم أوفوا المكيال والميزان بالقسط} (هود:85).
4) وقيل: (العدل) هو الحكم بالحق " فقط " أما (القسط ) فهو تنفيذ هذا العدل، {فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين} (الحجرات:9)، ويظهر أن في القسط قدرا أكبر من العدل لصالح طرف من الطرف المضاد له أو أطراف متعددة من قبل طرف ثالث لزيادة الإنصاف، أو سل سخائم الصدور؛ لذا جاءت القسط هنا بعد أن يتم العدل، وقال النبي صلى الله عليه وسلم -فيما رواه ابن ماجه- عن جابر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا وزنتم فأرجحوا).
فإذا كانت حقيقة العدل تتضمن التساوي والتعادل بين الطرفين بما يجعل كل طرف يأخذ حقه، ولو لم تحدث المماثلة الحقيقية (كذكور الأبناء الورثة مع الإناث) فإن حقيقة القسط تتضمن إعطاء شيء من القسط (الحظ والنصيب) الشخصي من طرف للطرف الآخر، أو من مصلحين بين الطرفين للطرفين.
من مظاهر القسط في الأخبار، والعدل في توصيف الوقائع في القرآن الكريم:
أولا: ذكر الإشارة إلى فريق ضمن جهة من الناس احتراسا من تعميم الحكم على الجهة، ومن ذلك:
1) قوله سبحانه: {أفتطمعون أن يؤمنوا لكم وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون} (البقرة:75)، فذكر أن المحرفين هم فريق، وليس جميع غير المؤمنين بالقرآن الكريم، ومن الآية نستنبط أن هذا الغالبية الكاسحة من اليهود لن يؤمنوا لنا بالقرآن الكريم، ولكن المحرفين فريق منهم وليس جميعهم كذلك، إلا أن هذا الفريق له الرياسة والريادة، ولذا يتسبب في إغواء غيره.
2) قوله تعالى: {أوكلما عاهدوا عهدا نبذه فريق منهم بل أكثرهم لا يؤمنون} (البقرة:100). والظاهر أن (بل) ليست للإضراب الانتقالي البياني، بل للإضراب الانتقالي التنويعي، فالذين نبذوه فريق منهم، وغالبا ما يكونون قلة، لكن لهم الصولة والجولة والعبث والإفساد وجذب عقول العباد، فيجتمع حولهم الكثرة الكاثرة من الهمج الرعاع، ويصمت الآخرون إيثارا للسلامة، وقد يدخلون في قول النبي صلى الله عليه وسلم -فيما رواه مسلم- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: (ستكون أمراء، فتعرفون وتنكرون، فمن عرف برئ، ومن أنكر سلم، ولكن من رضى وتابع) فالآية بينت بأسلوب موجز عجيب أن: الفريق النابذ للعهد قليل، تبعه الأكثر الصامت المترقب، فمال إليهم وصاروا مع الفريق النابذ الأكثر غير المؤمن، والأقل هم بين مؤمن ساكت يبرأ منهم، أو منكر لأفعالهم.
ومثل ما سبق قوله تعالى:
3) قوله عز وجل: {ولما جاءهم رسول من عند الله مصدق لما معهم نبذ فريق من الذين أوتوا الكتاب كتاب الله وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون} (البقرة:101)، فذكر الفريق أيضا.
4) قوله تعالى: {ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يدعون إلى كتاب الله ليحكم بينهم ثم يتولى فريق منهم وهم معرضون} (آل عمران:23)، فقوله تعالى: {فريق منهم} هذه عادة الإنصاف والدقة في القرآن الكريم لأن هذا الوصف-كما يقول صاحب تفسير المنار- ليس عاما لكل فرد منهم، وهذه كما يقول أقول: وهذا مما عهدنا في أسلوب القرآن من تحديد الحقائق والاحتراس في الحكم على الأمم، فتارة يحكم على فريق منهم في مقام بيان شؤونهم، وتارة يحكم على أكثرهم، وإذا أطلق الحكم في بعض الآيات يتبعه بالاستثناء الأقل كقوله: {تولوا إلا قليلا منهم} (البقرة:246).
5) قوله سبحانه: {ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة فلما كتب عليهم القتال إذا فريق منهم يخشون الناس كخشية الله أو أشد خشية} (النساء:77).
6) قوله عز وجل: {لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريق منهم ثم تاب عليهم إنه بهم رءوف رحيم} (التوبة:117).
7) قوله تعالى: {ثم إذا كشف الضر عنكم إذا فريق منكم بربهم يشركون} (النحل: 54).
8) قوله عز وجل: {إنه كان فريق من عبادي يقولون ربنا آمنا فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الراحمين} (المؤمنون:109)، والمؤمنون صنفان غالبا: مؤمنون لكنهم لا يجهرون بإيمانهم ولا يظهرون الاعتزاز بمبادئ دينهم خاصة في الفتن، ومؤمنون يجهرون بذلك، وكلهم يستحق التشريف بنسبته إلى الله (عبادي)، إلا أن المعتزين هم من يسخر الساخرون منهم لا أولئك الساكتون، فذكر الله هذا الصنف.
9) قوله سبحانه: {ويقولون آمنا بالله وبالرسول وأطعنا ثم يتولى فريق منهم من بعد ذلك وما أولئك بالمؤمنين} (النور:47).
10) قوله تعالى: {وإذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم إذا فريق منهم معرضون} (النور:48) وهذا فريق من فريق لأنه ابتدأ الوصف بقوله: {ويقولون آمنا بالله وبالرسول وأطعنا ثم يتولى فريق منهم من بعد ذلك وما أولئك بالمؤمنين} (النور:47)، فصار الفريق في الآية السابقة أسوأ من المتولين بأجسادهم فهو معرض بقلبه، وهذه دقة بالغة.
11) قوله عز وجل: {وإذا مس الناس ضر دعوا ربهم منيبين إليه ثم إذا أذاقهم منه رحمة إذا فريق منهم بربهم يشركون} (الروم:33).
12) قوله سبحانه: {قالت طائفة منهم يا أهل يثرب لا مقام لكم فارجعوا ويستأذن فريق منهم النبي يقولون إن بيوتنا عورة وما هي بعورة إن يريدون إلا فرارا} (الأحزاب:13).
ثانيا: الإتيان بالاستثناء: فإن الاستثناء دليل على الدقة والإحاطة، ومن أمثلته:
1) قوله تعالى: {ولولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان إلا قليلا} (النساء:83). فقوله تعالى: {إلا قليلا} –كما يقول رشيد رضا- خرج مخرج الاستثناء في اللفظ، وهو دليل على الجمع والإحاطة، فالاستثناء دليل الإحاطة، وكما يقول الأصوليون: معيار العموم، أي: فهو لتأكيد ما قبله كقوله تعالى: {سنقرئك فلا تنسى إلا ما شاء الله} (الأعلى:6، 7)، وهذا الاستعمال وإن كان صحيحا لا يظهر هنا، وقد بينا من قبل أن من دقة القرآن وتحريه للحقائق عدم حكمه بالضلال العام المستغرق على جميع أفراد الأمة، ومثل هذا الاحتراس متعدد فيه، ولا يكاد يتحراه الناس.
والظاهر أن قوله: {إلا قليلا} استثناء منقطع، ومعناه: ولولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان، ولكن قليلا منكم هم الذين حازوا هذا الفضل والرحمة، فلم يتبعوه، أو يكون المعنى (إلا اتباعا قليلا) أي حتى المتفضل عليهم لا يعصمون عيمة كاملة، وأشار البيضاوي إلى هذين المعنيين فقال: "{إلا قليلا} أي إلا قليلا منكم تفضل الله عليه بعقل راجح اهتدى به إلى الحق والصواب، وعصمه عن متابعة الشيطان كزيد بن عمرو بن نفيل، وورقة بن نوفل. أو إلا اتباعا قليلا على الندور".
ومثل الإتيان بالاستثناء لتثبيت الدقة في النقل، والأمانة في البيان، والإنصاف في التحليل قوله تعالى:
2) {ثم توليتم إلا قليلا منكم وأنتم معرضون} (البقرة:83).
3) {فلما كتب عليهم القتال تولوا إلا قليلا منهم والله عليم بالظالمين} (البقرة:246).
4) {فشربوا منه إلا قليلا منهم} (البقرة:249).
5) {فلا يؤمنون إلا قليلا} (النساء:46).
6) {إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى يراءون الناس ولا يذكرون الله إلا قليلا} (النساء:142).
7) {فبما نقضهم ميثاقهم وكفرهم بآيات الله وقتلهم الأنبياء بغير حق وقولهم قلوبنا غلف بل طبع الله عليها بكفرهم فلا يؤمنون إلا قليلا} (النساء:155).
8) {ولا تزال تطلع على خائنة منهم إلا قليلا منهم فاعف عنهم واصفح إن الله يحب المحسنين} (المائدة:13).
9) {فلولا كان من القرون من قبلكم أولو بقية ينهون عن الفساد في الأرض إلا قليلا ممن أنجينا منهم} (هود:116).
10) {بل كانوا لا يفقهون إلا قليلا} (الفتح:15).
ثالثا: الإتيان بوصف مغاير للأوصاف التي تبين الأوصاف السابقة واللاحقة للأغلبية حتى لا يظن العموم:
وذلك مثل قوله تعالى: {ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون} (الأعراف:159).
قال ابن عاشور: "فهذا تخصيص لظاهر العموم الذي في قوله: {واتخذ قوم موسى} (الأعراف:148) قصد به الاحتراس؛ لئلا يتوهم أن ذلك قد عمله قوم موسى كلهم، وللتنبيه على دفع هذا التوهم، قدم {ومن قوم موسى} على متعلقه".
وهناك أساليب أخرى تدل على هذه الدقة العجيبة في نقل الأخبار وتوصيف الوقائع تبين إعجاز القرآن الخبري، وجماله في التعبير البياني، وعدل أحكامه في توصيف المعاني.