- اسم الكاتب:أبو عبد الرحمن الإدريسي-إسلام ويب
- التصنيف:تعزيز اليقين
قليلة هي الديانات التي تنبني على العقل، وكثيرة تلك التي تجعل التعطيل سمته، وتسجنه في غياهب الترك والإهمال. حتى كان ذلك سمة بارزة للأديان الوثنية، بعكس الإسلام الذي مدح العقل ومجده، وجعل له آليات، ووضع له غايات، ورسم له حدودا.
والعقل لغة: أصل مادته من الحبس والمنع والإمساك، وسمي كذلك لأنه يحجز صاحبه ويمنعه عن الوقوع في الهلكة .. وينهى صاحبه عن فعل ما لا يحمد . (1)
أما اصطلاحا: فالعقل عقلان: الأول غريزي طبعي، هو أبو العلم ومربيه ومثمره، وعقل كسبي مستفاد، وهو ولد العلم وثمرته ونتيجته. (2).
ولهذا تعددت تصاريف العقل في القرآن، فمرة ينادي الناس إلى إعمال ما جبلت عليه فطرهم وعقولهم، ومرة ينادي أهل العلم إلى استخدام العقل الكسبي الذي يصقله العلم والمنطق.
العقل في القرآن :
إن القارئ للقرآن الكريم، ليلاحظ تصاريف لفظ العقل في كثير من الآيات، نحو " يعقلون " و " تعقلون " و " ما يعقلها إلا العالمون " و " الألباب " وغيرها.
فجاءت آيات بينات تبرز دول العقل في فهم الكلام، منها: {إنا أنزلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون} (يوسف: 2)، وقوله تعالى: {أفتطمعون أن يؤمنوا لكم وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون} (البقرة: 75).
وآيات أخرى تبرز أنه يسهم في فهم آيات الكون؛ ومنه قوله عز وجل: {وسخر لكم الليل والنهار والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون} (النحل: 12).
ونصوص أخرى من الوحي تبرز أن له وظيفة اختيار النافع وترك الضار، منها قوله: {وما الحياة الدنيا إلا لعب ولهو وللدار الآخرة خير للذين يتقون أفلا تعقلون} (الأنعام: 32)، وغيرها من الآيات البينات التي تبرزه وتستفزه، وتنادي باستخدامه، وتبرز وظائفه.
والذي عليه أهل السنة أن العقل عرض وصفة ليست قائمة بذاتها، بل هي قائمة بغيرها، ولا يسمى العاقل عاقلا إلا إذا كان متصفا به . (3)
ومن تأمل في الوحي باحثا عن مراتب الدليل العقلي، يستشف أن هناك احتفاء شرعيا به لكن مع ضوابط لمجالات استخدامه، فلا يكون غلوا حتى يكون مهيمنا على الكل، ولا تعطيلا لتلغى حجيته ودلالته في جانب الاستدلال .
فمن جهة أولى: فمجالات تمجيد الشريعة للعقل وضرورة استخدامه للتوصل إلى الحق متعددة، منها:
-أن العقل هو مناط التكليف، وغيابه أو نقصه مسقط له، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (رفع القلم عن ثلاثة: عن النائم حتى يستيقظ، وعن الصبي حتى يحتلم، وعن المجنون حتى يعقل) رواه النسائي وابن ماجة .
-أن الرحمن سبحانه وتعالى نادى الناس إلى استخدام عقولهم للتوصل إلى الحق، عن طريق التدبر والتفكر، واستخدم عبارات منها: {لعلكم تعقلون}، {لقوم يفقهون}، {لقوم يتفكرون}، ومنها قوله عز وجل: {إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب * الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السماوات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار} (آل عمران: 190 - 191).
وكل ذلك يشير إلى ضرورة العمل العقلي ودوره في الإرشاد إلى الهداية، فالعقل يتأمل الكون فيرشده إلى وجود خالق له، ويستخدم المنطق فيدرك أن لكل شيء غاية، ويستنبط منه بعض صفات الله عز وجل، ويتأمل فيه فيرى أنه من العبث خلق الخلق وتركهم هملا دون رسالة، ويقرأ الوحي فيهتدي إلى الرسالة.
-أن الله تعالى ذم من عطل عقله، ولم يسترشد به، وكان إمعة يساق في عالم الفكر والعقيدة، مقلدا غيره تقليدا أعمى، فقال عز وجل: {وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا أو لو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون * ومثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاء ونداء صم بكم عمي فهم لا يعقلون} (البقرة: 170-171).
-أن من العقل الانتفاع بالمواعظ والقصص والأمثال القرآنية، منها قوله: {لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب} (يوسف: 111)، ويقول: {وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون} (العنكبوت: 43).
-أن للعقل وظيفة مهمة في استنباط الأحكام، والنظر إلى الأدلة، ونقد متون الحديث، وكلما كان العقل المسدد بنور الوحي أوفر وأكبر؛ كان المرء أقدر على الاجتهاد والإصابة، والاستنباط.
فالإسلام كرم العقل وحماه، فحرم كل ما من شأنه تعطيله وتغييبه، كالمسكرات والمخدرات، وفي الفقه من اعتدى على أحد ولو نفسيا حتى ذهب عقله، وجبت عليه الدية .
ومن جهة ثانية: فقد جعل الإسلام للعقل حدودا، فهو مهما بلغ من الفهم والقدرة يظل عاجزا في ميادين كثيرة؛ لأنه خلق لأشياء معينة ومحددة إن خرج عنها، جعل صاحبه يتيه في الظلمات، ويغرق في الالتباس والتخبط؛ وما أجمل قول الإمام الشاطبي: " إن الله جعل للعقول في إدراكها حدا تنتهي إليه لا تتعداه، ولم يجعل لها سبيلا إلى الإدراك في كل مطلوب، ولو كانت كذلك لاستوت مع الباري تعالى في إدراك جميع ما كان وما يكون وما لا يكون. "(4)
فالعقل محدود في مداركه لا يعدوها، وينحصر في معطيات ما تمده به الحواس فلا يتجاوزها، فإن علم أن للكون خالقا عن طريق المحسوس لم يستطع أن يكتشف ماهية الخالق، وكيف هو، وماهية الأرواح وكيف هي، والجنة والنار، وغيرها من الغيبيات.
فإن تفهمت محدودية العقل في هذا الباب أيها الفطن، فهمت الإسلام، وسهل عليك الخروج من مستنقعات الشبهات، ووساوس الشيطان.
يقول الإمام ابن تيمية: " فما أخبرت به الرسل من تفاصيل اليوم الآخر، وما أمرت به من تفاصيل الشرائع، لا يعلمه الناس بعقولهم، كما أن ما أخبرت به الرسل من تفاصيل أسماء الله وصفاته، لا يعلمه الناس بعقولهم، وإن كانوا يعلمون بعقولهم جمل ذلك " (5)
وينبغي التنبه إلى مسلك دقيق، يخفى على كثير من الباحثين، وهو أن إدارك العقل لكثير من القضايا هو إدراك مجمل وليس مفصلا، أو يكون بعضيا لا شموليا.
العقل المجرد جالب للفرقة والاختلاف نظرا لتفاوته عند الناس
فقد أسلفنا بأن العقل صفة مكتسبة، واحد في ماهيته بين البشر، لكن متفاوت في حجم إدراكاته بينهم، فقد يدرك المثقف بعقله ما لا يستطيع العامي استيعابه وإدراكه، وقد يستوعب العالم ما لا يستطيع المثقف الإحاطة به، ومن هنا جاء اختلاف الفلاسفة الشديد في كثير من القضايا، حتى قيل لم يتفقوا إلا على أنهم لن يتفقوا .
وذا سيكون الأساس في الإجابة عن سؤال لا زال يثار إلى يومنا هذا: هل نقدم العقل أم النقل ؟ وهل هناك تعارض بينها ؟وجوابه في الجزء الثاني من المقال .
هوامش المقال
1- راجع لسان العرب الجزء 11 ص: 457، ومعجم مقاييس اللغة، الجزء 4 ص :69.
2- مفتاح دار السعادة لابن القيم، الجزء 1 ص: 118.
3- بغية المرتاد لابن تيمية، ص :251.
4- الاعتصام، الجزء الثاني، ص: 318.
5- الرسالة التدمرية، ص :77.