من المقبول فنهنيه

0 736

لقد كان سلفنا الصالح رضوان الله عليهم يجتهدون في إتمام العمل وإتقانه في جميع أوقاتهم وحياتهم، وخاصة في شهر رمضان، ومع ذلك يخافون من رده وعدم قبوله، فقد روى الترمذي عن عائشة رضي الله عنها، قالت: (سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية: {والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون} (المؤمنون:60) أهم الذين يشربون الخمر ويسرقون؟ قال: لا، يا بنت الصديق، ولكنهم الذين يصومون ويصلون ويتصدقون، وهم يخافون ألا تقبل منهم، أولئك يسارعون في الخيرات وهم لها سابقون).

فلنستشعر في شهر رمضان هذا النداء: (يا باغي الخير أقبل، ويا باغي الشر أقصر)، كما استشعره سلفنا الصالح، ولنسارع فيه إلى طاعة الله ومرضاته، ولنتأمل في أحوالنا وأحوالهم في رمضان لنسير على طريقهم وهديهم، ونجتهد في التوبة والإنابة، والعمل الصالح والدعاء لنكون من المقبولين، فقد كانوا رضوان الله عليهم يدعون الله ستة أشهر أن يبلغهم شهر رمضان، ثم يدعون الله ستة أشهر أن يتقبله منهم. 

قال عبد العزيز بن أبي رواد: "أدركتهم يجتهدون في العمل الصالح، فإذا فعلوه وقع عليهم الهم، أيقبل منهم أم لا". وقد رأى وهب بن الورد قوما يضحكون في يوم عيد، فقال: "إن كان هؤلاء تقبل منهم صيامهم فما هذا فعل الشاكرين، وإن كان لم يتقبل منهم صيامهم فما هذا فعل الخائفين".

وعن الحسن قال: "إن الله جعل شهر رمضان مضمارا (سباقا) لخلقه، يستبقون فيه بطاعته إلى مرضاته، فسبق قوم ففازوا، وتخلف آخرون فخابوا، فالعجب من اللاعب الضاحك في اليوم الذي يفوز فيه المحسنون، ويخسر فيه المبطلون".

وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: "ينادى في آخر ليلة من رمضان: ليت شعري من المقبول فنهنيه، ومن المحروم فنعزيه". وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه كان يقول: "من هذا المقبول منا فنهنيه، ومن هذا المحروم منا فنعزيه، أيها المقبول: هنيئا لك، أيها المردود: جبر الله مصيبتك".

وكتب عمر بن عبد العزيز رحمه الله إلى الأمصار يأمرهم بختم شهر رمضان بالاستغفار والصدقة، وقال في كتابه: "قولوا كما قال أبوكم آدم: {ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين} (الأعراف:23)، وقولوا كما قال نوح عليه السلام: {وإلا تغفر لي وترحمني أكن من الخاسرين} (هود:47)، وقولوا كما قال إبراهيم عليه السلام: {والذي أطمع أن يغفر لي خطيئتي يوم الدين} (الشعراء:82)، وقولوا كما قال موسى عليه السلام: {رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي} (القصص:16) وقولوا كما قال ذو النون عليه السلام: {لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين} (الأنبياء:87). صيامنا هذا يحتاج إلى استغفار نافع، وعمل صالح له شافع، كم نخرق من صيامنا بسهام الكلام، ثم نرقعه وقد اتسع الخرق على الراقع، كم نرفو خروقه بمخيط الحسنات، ثم نقطعه بحسام السيئات القاطع".

ومن علامات القبول: الحسنة بعد الحسنة، والتوبة الصادقة المستمرة، والمداومة والمحافظة على الطاعات بعد رمضان، فذلك دليل على رضى الله عن عبده، وقبوله لعبادته وطاعته في رمضان.

فيا من أطعت الله في شهر رمضان، إياك أن تعود إلى المعاصي والأوزار بعده، ويا من اعتدت حضور المساجد والمحافظة على الصلاة في رمضان إياك أن تهجر المساجد وتضيع صلاتك بعد رمضان، ويا من تعودت قراءة القرآن في هذا الشهر المبارك، داوم على تلاوته، واجعل لك وردا بعده، ويا من اعتدت قيام الليل، استمر في هذه المسيرة الطيبة، فاجعل لك حظا مستمرا من قيام الليل ولو كان قليلا ترفع فيه حوائجك إلى ربك، ويا من اعتدت الصيام في رمضان امض في ذلك في عامك كله، وهناك أيام من السنة حث النبي صلى الله عليه وسلم على صيامها، كصيام ستة أيام من شوال، وصيام ثلاثة أيام من كل شهر، ومنها صوم الاثنين والخميس، وصوم يوم عرفة، وصوم يوم عاشوراء. 
ويا من تعودت في شهر رمضان الجود والكرم واصل مسيرتك في البذل والعطاء، فذلك كله من علامات قبول العمل في رمضان...فإذا انقضى شهر رمضان فإن عمل المؤمن لا ينقضي، ولا يتحدد بزمان، فعبادة الله وطاعته يجب أن تكون مستمرة ودائمة حتى الممات، فلا تكون قاصرة على رمضان فحسب، قال الله تعالى: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون} (الذاريات:56)، وقال: {قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين} (الأنعام:162). وعن عائشة رضي الله عنها، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل: (أي العمل أحب إلى الله؟، قال: أدومه وإن قل) رواه مسلم.

فاللهم سلمنا إلى رمضان، وسلم لنا رمضان، وتسلمه منا متقبلا، وأعده علينا أعواما عديدة وأزمنة مديدة، واجعله شاهدا لنا لا علينا، واجعلنا فيه من عتقائك من النار ومن عبادك المقبولين، آمين..

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة