- اسم الكاتب:إسلام ويب
- التصنيف:الإيمان بالكتب
"لماذا أنزل الله الكتب السماوية؟ وما الحكمة من وجودها؟"، قد يبدو السؤالان السابقان مثار تعجب واستغراب عند أهل الإيمان، الذين تربوا على التسليم دون السؤال عما وراء الأفعال الإلهية، انطلاقا من قوله سبحانه: { ولا تقف ما ليس لك به علم} (الإسراء:36).
وفي الحقيقة يمكننا تفهم طرح مثل هذا السؤال، ليس بدافع التشكيك حول قضية مركزية لا يصح إيمان العبد إلا بها، ولكن تلبية لحاجة من يقف خارج الإطار الإيماني ويعيش في وديان الكفر القاحلة، من الذين لم يذوقوا طعم الإيمان ولا فهموا معاني الإسلام، ولا أدركوا طبيعة الرسالات السماوية، ونضرب هنا المثل بالقبائل البدائية التي قد تستغني بمبدأ "الكتب المقدسة" بأقوال زعمائهم ورجال دينهم، وبالمارقين عن الديانات كلها من أصحاب المذاهب المادية الباطلة التي تشربت نفوسهم كبرا وغرورا بالعقل البشري، حتى ظنوا قدرتهم على الاستغناء عن التنزل السماوي لهذه الكتب العظيمة.
ولهؤلاء وأولئك نقول: إن من يؤمن برب مريد قادر عليم، فهو يؤمن بضرورة العقل أن ذلك الخالق لا تصدر أعماله إلا عن حكمة بالغة علمها من علمها، وجهلها من جهلها، ولئن غابت عن عقولنا المحصورة حكمة فعل إلهي مخصوص، فلا يعني ذلك انتفاء الحكمة عنها؛ لتنزه الله سبحانه عن صفات النقص وتقدسه عنها، ومن ذلك: صفة العبث، قال الله تعالى: { وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما لاعبين} (الأنبياء:16)، وقال سبحانه: { أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون} (الأنبياء115)، وإذا كان العبث صفة ذم يتنزه الناس عنها، فالله أولى بذلك لأن القدوس سبحانه.
وعند تأمل القرآن نجد الربط بين صفة الحكمة، وإنزال الكتب، إشارة إلى وجود حكم عظيمة حاصلة من هذا الفعل الإلهي، وانظر إلى قوله تعالى: { وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء إنه علي حكيم} (الشورى:51)، والوحي هنا يشمل ما أنزل في تلك الكتب ويتضمنه، وقوله سبحانه: {كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير} (هود: 1)، وقوله سبحانه: {وإنك لتلقى القرآن من لدن حكيم عليم} (النمل:6)، وقوله تعالى: {تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم} (الزمر:1).
ذاك على وجه الإجمال، وما أمكننا استنباطه على وجه التفصيل فهو كالآتي:
إقامة الحجة على الخلق
أنزل الله الكتب السماوية حتى يقيم الحجة على خلقه، فلا يقولوا: {ما جاءنا من بشير ولا نذير}، فبعث الرسل بما جاءوا به من البينات المكتوبة يقطع عن هذا العذر، فيحيا من حي عن بينة ويهلك من هلك عن بينة وتقوم الحجة على الخلق بالتكليف، قال الله تعالى: {رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل وكان الله عزيزا حكيما} (النساء:165)، قال الإمام الموفق ابن قدامة المقدسي تعليقا على هذه الآية: " نعلم أن لله علينا الحجة بإنزال الكتب وبعثة الرسل".
والآية السابقة بمفهومها تدل على هذه الحكمة، وإن لم تذكر الكتب صراحة، لأنه لا معنى لإرسال الرسل إلا بما أرسلوا به من الوحي في الكتب وغيرها، فالبشارة والنذارة المذكورتان في الآية قد تضمنتها تلك الكتب المنزلة.
وإن أعظم قضية تعلقت بها إقامة الحجة هي مسألة توحيد الخالق جل جلاله، فإن الكتب ما أنزلت والرسل ما أرسلت إلا لتحقيق هذه الغاية العظيمة، والتي أسهمت الكتب المنزلة في تقريرها وتأصيلها وتذكير الناس بها على نحو لا لبس فيه ولا غموض، حتى لم يبق بعد ذلك عذر لمعتذر.
تأييد الرسل وإظهار صدقهم
أنزل الله الكتب السماوية لبيان صدق الرسل والأنبياء في دعواهم المتعلقة بالبعثة والاصطفاء، ونحن نرى كيف أنزل الله على موسى عليه السلام تلك الألواح التي جاء وصفها القرآني: { وكتبنا له في الألواح من كل شيء موعظة وتفصيلا لكل شيء} (الأعراف:145)، فكان في وجودها دليل على صدق رسالته، ومما يستشهد به في هذا المجال قول الحق سبحانه: { فإن كذبوك فقد كذب رسل من قبلك جاؤ بالبينات والزبر والكتاب المنير} (أل عمران:184)، فكذب الرسل بالرغم من التأييد الإلهي بهذه الكتب المنزلة التي تدل على صدق دعوى الاصطفاء، فدل على أن تأييدهم هو من الحكم الإلهية في إنزال الكتب.
الحكم بين الناس حين الاختلاف
أنزل الله الكتب السماوية حتى يكون الكتاب حكما بينهم، وليبين لهم الذي اختلفوا فيه، قال الله تعالى: { كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه} (البقرة:213)، فكل ما اشتملت عليه الكتب السماوية هي فصل عند التنازع والاختلاف، لأنها أخبار صادقة، وأوامر عادلة، فهي حق، تفصل بين المختلفين في مسائل الأصول والفروع.
الحكم بين الناس بالعدل
أنزل الله الكتب السماوية حتى يقوم ميزان الحق بين الناس، فيأخذ كل ذي حق حقه، ولا يظلم أحد أحدا، لأن تلك الكتب هي المرجعية الدائمة لهم لمعرفة الاستحقاقات واستنباط الواجبات، ولو تركت الأمور للناس لفسدت الأرض وضاع الحق لوجود الأهواء الفاسدة التي تمنع من إقامة سلطان الحق، وفي ذلك يقول الله تعالى: { لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط} (الحديد:25)، فهذه الآية تبين أن قيام القسط علة لإنزال الكتاب والميزان معا –كما يقول أهل التفسير-؛ لأن القسط هو العدل في جميع الأشياء من سائر التكاليف، فإنه لا ظلم في شيء منها، ولذلك جاء قوله تعالى: {شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم قائما بالقسط} (آل عمران:18).
هداية الناس وإرشادهم
أنزل الله تعالى الكتب السماوية، لتكون منارا للعلم ومنبعا للحكمة، يقصده الناس فيجدوا فيه كل ما ينفعهم من أمور معاشهم ومعادهم، ودينهم ودنياهم، ولئن كان مثل ذلك متحققا بمجرد إرسال الرسل، إلا أن ظهوره في الكتب أشد وضوحا، لأن الكتب السماوية الأصل فيها البقاء بعد موت الأنبياء والرسل الذين أتوا بها، ثم بقيت مهمة المحافظة على أتباعهم، لتستفيد الأجيال القادمة مما احتوته الكتب السماوية، باستثناء الكتاب الذي أنزله الله على هذه الأمة الخاتمة فقد تكفل الله بحفظه .
والله سبحانه وتعالى لم يترك الناس حيرى، بل رسم لهم معالم الطريق الذي يسلكونه لتحصل لهم النجاة والفوز في الدارين، كل ما ينبغي عليهم هو الرجوع إلى هذه الكتب السماوية ليجدوا فيها بغيتهم، ألم يقل النبي –صلى الله عليه وسلم-: (..وقد تركت فيكم ما لن تضلوا بعده إن اعتصمتم به: كتاب الله) رواه مسلم.
والمنة في إنزال الكتب السماوية واضحة للتفاوت بين عقول البشر في إدراك الحسن والقبيح، ولقصور عقولهم عن الإحاطة الشاملة بكل الحقائق، ولذلك يقول الله تعالى: { لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم يتلوا عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين} (آل عمران:164).
وها نحن نرى في أيامنا هذه ضلال البشرية، يقصدون كتاب الله قصد التعرف عليه واستكشاف مكنوناته، فإذا بهم يصلون إلى الحق وإلى سبيل الهدى دون مرشد من الدعاة والمصلحين، لتتجلى لنا حقيقة أن الكتب السماوية فيها الكفاية لمن أراد الهداية، وبالله التوفيق.