مواقف نبوية مع جفاء الأعراب

0 1713

كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم ـ أعظم وأجل في نفوس الصحابة من أن يرفعوا أصواتهم بحضرته، أو يلغوا إذا تحدث، وينشغلوا عنه إذا تكلم، وإنما كانوا يلقون إليه أسماعهم ويتأدبون معه، فعن علي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ في وصف حال أصحابه ـ رضوان الله عليهم ـ عند سماع قوله وحديثه - صلى الله عليه وسلم ـ قال: ( وإذا تكلم أطرق جلساؤه، كأنما على رؤوسهم الطير، فإذا سكت تكلموا ) رواه الترمذي .
قال ابن القيم: " رأس الأدب مع الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ كمال التسليم له، والانقياد لأمره، وتلقي خبره بالقبول والتصديق، دون أن يحمله معارضة، بخيال باطل يسميه معقولا، أو يحمله شبهة أو شكا، أو يقدم عليه آراء الرجال " .
والأعراب هم ساكنو البادية من العرب الذين لا يقيمون في الأمصار ولا يدخلونها إلا لحاجة، وليست قبائل بعينها، فهم لذلك أقسى قلوبا وأقل علما بحقوق النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ والأدب معه، قال ابن الجزري: " والأعراب ساكنو البادية من العرب الذين لا يقيمون في الأمصار ولا يدخلونها إلا لحاجة "، وكذا قال الشوكاني في فتح القدير .
وجفاة الأعراب من حديثي العهد بالإسلام الذين أساء بعضهم الأدب مع النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ، فقد صبر وحلم على جفائهم وغلظتهم معه, بل وأحسن إليهم، فكان مثالا للمعلم والمربي الذي يدرك أحوالهم, وطبيعة بيئتهم وحياتهم المتصفة بالشدة والقسوة، فكان يبين لهم برفق، ويعاملهم بحكمة على قدر عقولهم وتفكيرهم وطبيعتهم، بل اتسع حلمه عليهم حتى جاوز العدل إلى الإحسان إليهم، فكان بهم رحيما، ولهم محسنا ومصلحا .
 
            رحابة الصدر فيه غير خافية      من أجلها عظمت فيهم مكانته

وهذه بعض المواقف النبوية التي تدل على حسن معاملته ـ صلى الله عليه وسلم ـ للأعراب رغم غلظتهم معه، وإساءتهم له :

أكثرت علي من أبشر :

عن أبي موسى الأشعري ـ رضي الله عنه ـ قال: ( كنت عند النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهو نازل بالجعرانة بين مكة والمدينة ومعه بلال، فأتى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أعرابي فقال: ألا تنجز لي ما وعدتني؟، فقال له: أبشر، فقال: قد أكثرت علي من أبشر، فأقبل على أبي موسى وبلال كهيئة الغضبان، فقال: رد البشرى، فاقبلا أنتما، قالا: قبلنا، ثم دعا بقدح فيه ماء فغسل يديه ووجهه فيه، ومج فيه ثم قال: اشربا منه، وأفرغا على وجوهكما ونحوركما وأبشرا، فأخذا القدح ففعلا، فنادت أم سلمة من وراء الستر أن أفضلا لأمكما, فأفضلا لها منه طائفة ) رواه البخاري .
قال الحافظ ابن حجر في الفتح : ( أبشر ) بهمزة قطع، أي بقرب القسمة، أو بالثواب الجزيل على الصبر" .
وقال النووي: " في الحديث: فضيلة ظاهرة لأبي موسى وبلال وأم سلمة - رضي الله عنهم -، وفيه استحباب البشارة واستحباب الازدحام فيما يتبرك به وطلبه ممن هو معه، والمشاركة فيه " .
وعن محمد بن جبير قال: أخبرني جبير بن مطعم أنه: ( بينما يسير هو مع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ مقفله (رجوعه) من حنين، فعلقه (تبعه) الأعراب يسألونه، حتى اضطروه إلى سمرة (شجرة)، فخطفت رداءه، فوقف النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال: أعطوني ردائي، فلو كان لي عدد هذه العضاه (شجر له شوك) نعما، لقسمته بينكم، ثم لا تجدوني بخيلا ولا كذابا ولا جبانا ) رواه البخاري .
قال ابن حجر: " في هذه الأحاديث وفي معناها: ذم الخصال السيئة، وهي البخل والكذب والجبن، وأن إمام المسلمين لا يصلح أن يكون فيه خصلة منها، وفيه ما كان في النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ من الحلم وحسن الخلق وسعة الجود، والصبر على جفاة الأعراب " .

         حلمه مثل سنا الشمس         وهل لسنا الشمس يرى من جاحد

ما أريد بهذه القسمة وجه الله :

عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه ـ قال : ( فلما كان يوم حنين آثر رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ناسا في القسمة، فأعطى الأقرع بن حابس مائة من الإبل، وأعطى عيينة مثل ذلك، وأعطى أناسا من أشراف العرب، وآثرهم يومئذ في القسمة، فقال رجل: والله إن هذه القسمة ما عدل فيها وما أريد فيها وجه الله، قال : فقلت: والله لأخبرن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ، قال: فأتيته فأخبرته بما قال، قال: فتغير وجهه حتى كان كالصرف (صبغ أحمر)، ثم قال: فمن يعدل إن لم يعدل الله ورسوله؟!، قال : ثم قال : يرحم الله موسى، قد أوذي بأكثر من هذا فصبر )، قلت: لا جرم لا أرفع إليه بعدها حديثا ) رواه مسلم .
يقول ابن القيم في كتابه زاد المعاد: " ومعلوم أن الأنفال لله ولرسوله يقسمها رسوله حيث أمره لا يتعدى الأمر، فلو وضع الغنائم بأسرها في هؤلاء لمصلحة الإسلام العامة، لما خرج عن الحكمة والمصلحة والعدل .. ولعمر الله إن هؤلاء من أجهل الخلق برسوله، ومعرفته بربه وطاعته له، وتمام عدله، وإعطائه لله، ومنعه لله " .

يا محمد مر لي من مال الله الذي عندك :

عن أنس ـ رضي الله عنه ـ قال : ( كنت أمشى مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعليه رداء نجراني غليظ الحاشية، فأدركه أعرابي فجبذه (جذبه) بردائه جبذة شديدة، نظرت إلى صفحة عنق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد أثرت بها حاشية الرداء من شدة جبذته ، ثم قال : يا محمد مر لي من مال الله الذي عندك ، فالتفت إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فضحك ثم أمر له بعطاء ) رواه مسلم، وفي رواية النسائي ( ضعفها الألباني ) أن الأعرابي قال للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: " فإنك لا تعطي من مالك ولا مال أبيك " . 
لقد جمع النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في هذا الموقف بين الحلم والصبر على جفاء الأعرابي وغلظته، وبين الإحسان إليه، بل أضاف إلى الموقف الابتسامة والضحك . 
قال النووي: " فيه احتمال الجاهلين والإعراض عن مقابلتهم، ودفع السيئة بالحسنة، وإعطاء من يتألف قلبه، والعفو عن مرتكب كبيرة لا حد فيها بجهله، وإباحة الضحك عند الأمور التي يتعجب منها في العادة، وفيه كمال خلق رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وحلمه وصفحه " .

واغدراه، واغدراه :

عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت: ( ابتاع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ جزورا من أعرابي بوسق من تمر الذخيرة (العجوة)، فجاء منزله، فالتمس التمر، فلم يجده، فخرج إلى الأعرابي فقال: عبد الله، إنا قد ابتعنا منك جزورك هذا بوسق من تمر الذخيرة، ونحن نرى أن عندنا، فلم نجده، فقال الأعرابي: واغدراه، واغدراه، فوكزه الناس وقالوا:إلى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ تقول هذا؟!، فقال: دعوه، فإن لصاحب الحق مقالا، فردد ذلك رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ مرتين أو ثلاثا، فلما رآه لا يفقه عنه قال لرجل من أصحابه: اذهب إلى خولة بنت حكيم بن أمية فقل لها رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول لك إن كان عندك وسق من تمر الذخيرة فسلفينا حتى نؤديه إليك إن شاء الله تعالى، فذهب إليها الرجل ثم رجع قال: قالت: نعم هو عندنا يا رسول الله، فابعث من يقبضه، فقال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ للرجل: اذهب فأوفه الذي له، فذهب فأوفاه الذي له، قال فمر الأعرابي برسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهو جالس في أصحابه، فقال: جزاك الله خيرا، فقد أوفيت وأطيبت، فقال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: أولئك خيار الناس الموفون المطيبون (الذين طيب الله أوصافهم) ) رواه أحمد وحسنه الألباني .

ما أظلت الخضراء وما أقلت الغبراء أحسن خلقا من رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم -، ومن عظيم أخلاقه وجميل صفاته التي ظهرت في مواقفه مع الأعراب وغيرهم: حلمه على من جهل عليه، وعفوه عمن ظلمه، وإحسانه مع من أساء إليه، امتثالا لقول الله تعالى: { فاعف عنهم واصفح إن الله يحب المحسنين }(المائدة من الآية: 13) .

             يعفو ويصفح قادرا عمن جنى   عملا بقول الله فاعف واصفح

 

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة