وقفات تربوية مع دعاء ليلة القدر

0 1490

عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: يا رسول الله، أرأيت إن وافقت ليلة القدر، فبم أدعو؟ قال: " قولي: اللهم إنك عفو تحب العفو، فاعف عني، وفي سؤال عائشة كما في إجابة النبي لها بهذه الإجابة عدة وقفات تربوية أوجز أظهرها فيما يلي:
الوقفة الأولى: حرص عائشة رضي الله عنها على تعلم ما ينفعها: عائشة هي بنت أبي بكر الصديق، أم المؤمنين، زوجة النبي - صلى الله عليه وسلم - أفقه نساء الأمة على الإطلاق، تزوجها النبي وهي صغيرة فبقيت أطول فترة ممكنة في مدرسة النبوة، تتفقه في أحكامها وتعاليمها؛ تعد - رضي الله عنها - من المكثرين في الفتيا والرواية باتفاق العلماء، ومع ذلك حرصت على أن تتعلم من النبي أفضل ما يقال في ليلة القدر، وفي هذا تعليم لنا أن العبد مهما بلغ فهو محتاج - بل مضطر - إلى معرفة الأمور التي ينبغي الحرص عليها، والجد في طلبها. وأخص هذه الأمور العلم النافع المزكي للقلوب والأرواح، المثمر لسعادة الدارين.
وقد أثنى الله على هذا الصنف من الناس في قوله: فبشر عباد . الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه [الزمر:17، 18]، أي إيثارا للأفضل واهتماما بالأكمل. أراد أن يكونوا نقادا في الدين، يميزون بين الحسن والأحسن والفاضل والأفضل ويدخل تحته المذاهب واختيار أثبتها على السبك، وأقواها عند السبر، وأبينها دليلا وأمارة. وأن لا تكون في مذهبك كما قال القائل: ولا تكن مثل عير قيد فانقادا. يقصد بذلك المقلد. ويدخل تحته أيضا إيثار الأفضل من كل نوعين عند التعارض.

الوقفة الثانية: الحكمة في تخصيص هذه الليلة بسؤال العفو:
سؤال الله عز وجل العفو في كل وقت وحين أمر مرغوب وردت به نصوص كثيرة، حتى إن العباس بن عبد المطلب سأل رسول الله أكثر من مرة أن يرشده الى شيء يدعو الله به فأجابه الرسول في كل مرة بقوله: [سل الله العفو والعافية]، فما الحكمة إذا من تخصيص هذه الليلة بسؤال العفو؟
أبان الحافظ ابن رجب عن هذه الحكمة في قوله: "وإنما أمر بسؤال العفو في ليلة القدر- بعد الاجتهاد في الأعمال فيها وفي ليالي العشر- لأن العارفين يجتهدون في الأعمال ثم لا يرون لأنفسهم عملا صالحا ولا حالا ولا مقالا، فيرجعون إلى سؤال العفو، كحال المذنب المقصر".

وقد صدق رحمه الله؛ وذلك لأن (العبد يسير إلى الله سبحانه بين مشاهدة منته عليه ونعمه وحقوقه، وبين رؤية عيب نفسه وعمله وتفريطه وإضاعته، فهو يعلم أن ربه لو عذبه أشد العذاب لكان قد عدل فيه، وأن أقضيته كلها عدل فيه، وأن ما فيه من الخير فمجرد فضله ومنته وصدقته عليه ولهذا كان في حديث سيد الاستغفار "أبوء لك بنعمتك علي وأبوء بذنبي"، فلا يرى نفسه إلا مقصرا مذنبا ولا يرى ربه إلا محسنا.

الوقفة الثالثة: الدعاء بهذا اللفظ يتضمن أدبا من آداب الدعاء المهمة، وهو الثناء على الله تعالى بما هو أهله وبما يناسب مطلوب الداعي. وقد أرشدنا الله تعالى إلى هذا الأسلوب والأدب في نصوص كثيرة أشهرها سورة الفاتحة، فالسورة نصفان، الأول تمجيد وثناء من العبد على ربه، والثاني سؤال من العبد لربه، وقد ورد ذلك مفصلا في الحديث القدسي وفيه: (قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، فنصفها لي ونصفها لعبدي).
ولما سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجلا يدعو في صلاته لم يمجد الله ولم يصل على النبي، فقال صلى الله عليه وسلم: "عجل هذا" ثم دعاه، فقال له أو لغيره: "إذا صلى أحدكم فليبدأ بتمجيد ربه والثناء عليه، ثم يصلي على النبي، ثم يدعو بعد بما شاء".
ومن الجدير بالذكر أن " ثناء الداعي على المدعو بما يتضمن حصول مطلوبه قد يكون أبلغ من ذكر المطلوب كما قيل: إذا أثنى عليك المرء يوما... كفاه من تعرضه الثناء.

الوقفة الرابعة: في هذا الدعاء استشعار لحسن الظن بالله تعالى، فيعمر قلب المؤمن بالرجاء، وفي ذلك رد على من قال: لا أحبك لثوابك؛ لأنه عين حظي، وإنما أحبك لعقابك؛ لأنه لا حظ لي فيه!! نافيا بذلك عبادة الله بالرجاء مقتصرا على عبادته بالخوف.. والعجيب أن صاحب هذا القول بالغ فنسب مخالفه الى الرعونة، وقد رد عليه ابن القيم ردا بليغا جاء فيه: فوالله ليس في أنواع الرعونة والحماقة أقبح من هذا ولا أسمج. وماذا يلعب الشيطان بالنفوس؟ وإن نفسا وصل بها تلبيس الشيطان إلى هذه الحالة المحتاجة إلى سؤال المعافاة.. فزن أحوال الأنبياء والرسل والصديقين، وسؤالهم ربهم، على أحوال هؤلاء الغالطين، الذين مرجت بهم نفوسهم، ثم قايس بينهما، وانظر التفاوت ..فهذا وأمثاله أحسن ما يقال فيهم: إنه شطح قد يعذر فيه صاحبه إذا كان مغلوبا على عقله. كالسكران ونحوه. ولا تهدر محاسنه ومعاملاته وأحواله وزهده.

الوقفة الخامسة: حاجة العبد وفقره الى عفو الله
عائشة رضي الله عنها - وهي من هي - تحرص على سؤال النبي عن ماذا تقول في ليلة القدر فيجيبها النبي الكريم بسؤال الله العفو، فإذا كان هذا شأن الصديقة بنت الصديق فكيف بمن دونها. أليس في ذلك دلالة قاطعة على أن العبد فقير إلى الله من كل وجه وبكل اعتبار؟
من هذه الوجوه: أنه " فقير إليه من جهة معافاته له من أنواع البلاء؛ فإنه إن لم يعافه منها هلك ببعضها، وفقير إليه من جهة عفوه عنه ومغفرته له فإن لم يعف عن العبد ويغفر له فلا سبيل إلى النجاة فما نجى أحد إلا بعفو الله ولا دخل الجنة إلا برحمة الله.

الوقفة السادسة: حظ العبد من اسم الله العفو:
حظ العبد من اسم الله العفو لا يخفى، وهو أن يعفو عن كل من ظلمه بل يحسن إليه كما يرى الله تعالى محسنا في الدنيا إلى العصاة والكفرة غير معاجل لهم بالعقوبة. بل ربما يعفو عنهم بأن يتوب عليهم، وإذا تاب عليهم محا سيئاتهم، إذ التائب من الذنب كمن لا ذنب له. وهذا غاية المحو للجناية. وقد وعد الله العافين بالأجر العظيم والثواب الكبير فقال سبحانه: {فمن عفا وأصلح فأجره على الله} ويلاحظ في الآية أمران:
الأول: أن الله قرن الإصلاح بالعفو، وذلك ليدل على أنه إذا كان الجاني لا يليق العفو عنه، وكانت المصلحة الشرعية تقتضي عقوبته، فإنه في هذه الحال لا يكون مأمورا به.
الثاني: أن الله جعل أجر العافي عليه سبحانه، وفي ذلك حض وتهييج للعبد على العفو، وأن يعامل الخلق بما يحب أن يعامله الله به، فكما يحب أن يعفو الله عنه، فليعف عنهم، وكما يحب أن يسامحه الله، فليسامحهم، فإن الجزاء من جنس العمل.

الوقفة السابعة: يسر الاسلام
يحمل قول الله تعالى لنبيه: {ونيسرك لليسرى} بشارة عظيمة ألا وهي يسر شريعته، فمعنى الآية: نسهل عليك أفعال الخير وأقواله، ونشرع لك شرعا سهلا سمحا مستقيما عدلا لا اعوجاج فيه ولا حرج ولا عسر.
وتسري دلائل هذا التيسير وأماراته في جميع مناحي التشريع ومنها أدعية الوحيين، حتى قالت عائشة: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يستحب الجوامع من الدعاء، ويدع ما سوى ذلك .
وأنا أريدك أخي القارئ أن تقارن بين دعاء ليلة القدر من حيث سهولة اللفظ ووضوح المعنى، وبين أوراد الصوفية التي لا تخلو من صعوبة في اللفظ فكأنك تقرأ مبهمات و طلاسم إضافة الى غموض في المعنى بل وانحراف يصل الى حد الإلحاد في أسماء الله وصفاته.
ونحن إن قلبنا النظر في مثل هذه الأوراد رأينا أنها لم تراع طاقات الناس ولا ظروفهم وأحوالهم، وعلمنا يقينا أنها ليست من عند الله القائل:{يريد الله أن يخفف عنكم} أي: في شرائعه وأوامره ونواهيه وما يقدره لكم، وذلك لعلمه سبحانه بضعف الانسان من جميع الوجوه.

الوقفة الثامنة: خطورة اتكال العبد على العفو وقعوده عن المسابقة الى الخيرات:
المؤمن يجمع إحسانا وخشية، والمنافق يجمع إساءة وأمنا. ومن تأمل أحوال الصحابة رضي الله عنهم وجدهم في غاية العمل مع غاية الخوف. بل من تأمل حال النبيين وجدهم كذلك "فالمؤمن العالي الهمة يجتهد في نيل مطلوبه ويبذل وسعه في الوصول إلى رضى محبوبه، فأما خسيس الهمة فاجتهاده في متابعة هواه، ويتكل على مجرد العفو، فيفوته- إن حصل له العفو- منازل السابقين المقربين، قال بعض السلف: هب أن المسيء عفي عنه، أليس قد فاته ثواب المحسنين.

الخاتمة:
إخواني:" المعول على القبول لا على الاجتهاد، والاعتبار ببر القلوب لا بعمل الأبدان، رب قائم حظه من قيامه السهر، كم من قائم محروم، وكم من نائم مرحوم، هذا نام وقلبه ذاكر، وذاك قام وقلبه فاجر.
إن المقادير إذا ساعدت... ألحقت النائم بالقائم
لكن العبد مأمور بالسعي في اكتساب الخيرات والاجتهاد في الأعمال الصالحات وكل ميسر لما خلق له، فالمبادرة إلى اغتنام العمل فيما بقي، فعسى أن يستدرك به ما فات من ضياع العمر.
 

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة