لا تُنْزَع الرحمة إلا من شقيّ

0 1898

حين تنعدم من القلوب الرحمة وتحل القسوة بدلا منها فإنها تصبح مثل الحجارة أو أشد قسوة، وقد ذم الله ـ عز وجل ـ أقواما وصلوا إلى تلك الحالة من القسوة وانعدام الرحمة، فقال تعالى عن بني إسرائيل: { ثم قست قلوبكم من بعد ذلك فهي كالحجارة أو أشد قسوة }(البقرة من الآية: 74) .
وقسوة القلب تعني البعد عن الله، وتؤدي إلى الشقاء، قال الله تعالى: { فويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله }(الزمر الآية: 22)، وعن عبد الله بن عمر ـ رضي الله عنه ـ أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: ( وإن أبعد الناس من الله القلب القاسي ) رواه الترمذي
قال ابن القيم: " ما ضرب عبد بعقوبة أعظم من قسوة القلب والبعد عن الله " .
وعن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: ( لا تنزع الرحمة إلا من شقي ) رواه الترمذي وحسنه الألباني .
قال الطيبي: " لأن الرحمة في الخلق رقة القلب، والرقة في القلب علامة الإيمان، فمن لا رقة له لا إيمان له، ومن لا إيمان له شقي، فمن لا يرزق الرقة شقي " .
وقال القرطبي: " الرحمة رقة وحنو يجده الإنسان في نفسه عند رؤية مبتلى أو صغير أو ضعيف، يحمله على الإحسان إليه، واللطف والرفق به، والسعي في كشف ما به .. فمن خلق الله في قلبه هذه الرحمة الحاملة على الرفق وكشف ضرر المبتلى، فقد رحمه الله بذلك في الجنان، وجعل ذلك على رحمته إياه في المآل، فمن سلبه ذلك المعنى وابتلاه بنقيضه من القسوة والغلظة، ولم يلطف بضعيف، ولا أشفق على مبتلى، فقد أشقاه حالا وجعل ذلك علما على شقوته مآلا، نعوذ بالله من ذلك " .

فالشفقة والرحمة بالآخرين أمر يحبه الله ـ عز وجل ـ ويرضاه لعباده، وهو هدي وحال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ مع الناس عامة، ومع المؤمنين خاصة، قال الله ـ تعالى ـ عنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ: { وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين }(الأنبياء الآية: 107)، وقال: { لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رءوف رحيم }(التوبة الآية: 128)، وعن عبد الله بن عمرو ـ رضي الله عنه ـ أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: ( الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء ) رواه الترمذي .
وقد عرف الصحابة الكرام ـ رضوان الله عليهم ـ هذا الخلق من النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأحسوا به في تعاملهم معه، فعن مالك بن الحويرث ـ رضي الله عنه ـ قال: ( أتيت النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في نفر من قومي، فأقمنا عنده عشرين ليلة، وكان رحيما رفيقا ) رواه البخاري، وعن عمران بن حصين ـ رضي الله عنه ـ قال: ( وكان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ رحيما رقيقا ) رواه مسلم .

فنبينا ـ صلى الله عليه وسلم ـ له النصيب الأوفر من الشفقة والرحمة بالآخرين، ويظهر ذلك واضحا جليا في مواقف كثيرة من حياته وسيرته، ومنها :

عن بريدة بن الحصيب الأسلمي ـ رضي الله عنه ـ قال: ( كان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يخطبنا إذ جاء الحسن والحسين عليهما قميصان أحمران يمشيان ويعثران، فنزل رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ من المنبر فحملهما ووضعهما بين يديه، ثم قال: صدق الله: { إنما أموالكم وأولادكم فتنة }( التغابن من الآية: 15)، نظرت إلى هذين الصبيين يمشيان ويعثران فلم أصبر حتى قطعت حديثي ورفعتهما ) رواه الترمذي وصححه الألباني .
وذكر ابن حجر: " أن عبد الله بن الزبير رأى الحسن بن علي يجيء والنبي ساجد فيركب رقبته، أو قال ظهره، فما ينزله حتى يكون هو الذي ينزل، ولقد رأيته يجيء وهو راكع فيفرج له بين رجليه حتى يخرج من الجانب الاخر، وذكر أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان إذا سجد وثب الحسن والحسين على ظهره، فإذا أرادوا أن يمنعوهما أشار إليهم: أن دعوهما ".
وكان ـ صلى الله عليه وسلم ـ إذا دخلت عليه ابنته فاطمة ـ رضي الله عنه ـ يقوم لها ويقبلها ويقول لها: ( مرحبا بابنتي ) رواه البخاري .

وعن عائشة ـ رضي الله عنه ـ قالت: ( جاء أعرابي إلى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال: تقبلون الصبيان؟، فما نقبلهم، فقال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: أو أملك لك أن نزع الله من قلبك الرحمة ) رواه البخاري .
وعن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ: ( أن الأقرع بن حابس ـ رضي الله عنه ـ أبصر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقبل الحسن فقال: إن لي عشرة من الولد ما قبلت واحدا منهم، فقال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم: إنه من لا يرحم لا يرحم ) رواه الترمذي .
قال المناوي في فيض القدير: " لأن الرحمة تتخطى إلى الإحسان إلى الغير، وكل من رحمته رق قلبك له فأحسنت إليه، ومن لم يعط حظه من الرحمة غلظ قلبه وصار فظا، لا يرق لأحد ولا لنفسه، فالشديد يشد على نفسه ويعسر ويضيق، فهو من نفسه في تعب، والخلق منه في نصب، مكدوح الروح، مظلم الصدر، عابس الوجه، منكر الطلعة، ذاهبا بنفسه، تيها وعظمة، سمين الكلام، عظيم النفاق، قليل الذكر لله وللدار الآخرة، فهو أهل لأن يسخط عليه، ويغاضبه ليعاقبه " .

وكان ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ إذا دخل في الصلاة وهو ينوي الإطالة، يقصر ويخفف فيها إن سمع بكاء الطفل الصغير، فعن أنس بن مالك ـ رضي الله عنه ـ أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: ( إني لأدخل في الصلاة، وأنا أريد إطالتها، فأسمع بكاء الصبي فأتجوز في صلاتي، مما أعلم من شدة وجد أمه من بكائه ) رواه البخاري .

وبكى ـ صلى الله عليه وسلم ـ لدى موت طفله الصغير إبراهيم، حتى تعجب عبد الرحمن بن عوف ـ رضي الله عنه ـ من ذلك، فعن أنس بن مالك ـ رضي الله عنه ـ قال: ( دخلنا مع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ على أبي سيف القين، وكان ظئرا لإبراهيم عليه السلام، فأخذ رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إبراهيم فقبله وشمه، ثم دخلنا عليه بعد ذلك وإبراهيم يجود بنفسه ، فجعلت عينا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ تذرفان، فقال له عبد الرحمن بن عوف ـ رضي الله عنه ـ: وأنت يا رسول الله؟، فقال: يا ابن عوف، إنها رحمة ) رواه البخاري .

وكما كان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ رحيما شفوقا في السلم وفي حياته العامة، كان كذلك في الحرب، التي كثيرا ما تحكمها عواطف الغضب على العدو، وتبرر عوامل الغلظة عليه، والانتقام منه، فيقتل من لا يستحق القتل، أو يقتل بطريقة لا تليق بالإنسان، فيها تعذيب له، أو تمثيل بجثته، فعن بريدة ـ رضي الله عنه ـ قال: كان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إذا أمر أميرا على جيش أو سرية أوصاه في خاصته بتقوى الله، ومن معه من المسلمين خيرا، ثم قال: ( اغزوا باسم الله في سبيل الله، قاتلوا من كفر بالله، اغزوا فلا تغلوا ولا تغدروا ولا تمثلوا، ولا تقتلوا وليدا ) رواه البخاري .
قال النووي: " قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: (ولا تغدروا) بكسر الدال، والوليد الصبي، وفي هذه الكلمات من الحديث فوائد مجمع عليها وهي تحريم الغدر، وتحريم الغلول، وتحريم قتل الصبيان إذا لم يقاتلوا، وكراهة المثلة، واستحباب وصية الإمام أمراءه وجيوشه بتقوى الله تعالى، والرفق بأتباعهم، وتعريفهم ما يحتاجون في غزوهم وما يجب عليهم، وما يحل لهم وما يحرم عليهم، وما يكره وما يستحب " .
وأوصى بالأسرى خيرا، فقال ـ صلى الله عليه وسلم ـ: ( استوصوا بالأسارى خيرا ) رواه الطبراني .
وانحاز ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى رأي أبي بكر ـ رضي الله عنه ـ الذي كان يرى العفو عن الأسرى في بدر، ورفض أن يدعو على قريش في أحد، وقد بلغوا منه ما لم يبلغوه من قبل، بل رفع يديه وقال: ( رب اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون ) رواه البخاري .
وفي أشد يوم مر به ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهو يوم الطائف، بعث الله ـ عز وجل ـ له ملك الجبال ليطبق على من آذاه الجبال، فرفض النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وقال: ( بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده، لا يشرك به شيئا ) رواه البخاري .

ومن المواقف التي تعبر عن مدى رحمته بالخلق جميعا (الإنسان والحيوان) ما رواه عبد الله بن مسعود ـ رضي الله عنه ـ قال: ( كنا مع النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ فى سفر فانطلق لحاجته، فرأينا حمرة (طائر صغير) معها فرخان، فأخذنا فرخيها، فجاءت الحمرة فجعلت تفرش (تقترب) من الأرض، فجاء النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال: من فجع هذه بولدها؟، ردوا ولدها إليها ) رواه أبو داود وصححه الألباني .

إن من نعم الله علينا وعلى البشرية أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ما بعث إلا لتحقيق ونشر الرحمة بين الناس كما قال الله تعالى : { وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين }( الأنبياء:107) ، وما ذكرناه ما هو إلا القليل من مواقفه ـ صلى الله عليه وسلم ـ الكثيرة التي تعبر عن رحمته العظيمة، وخلقه الكريم، وصفاته الجليلة، والتي ينبغي على أتباعه الاقتداء به فيها .
 

 

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة