- اسم الكاتب:عبد الوهاب الطريري – طريق الإسلام
- التصنيف:محاسن الأخلاق
هي إطلالة على البيت النبوي، ذلك البيت الذي أذهب الله عنه الرجس وطهره تطهيرا، إطلالة من كوة فتحتها أمنا عائشة رضي الله عنها حينما توارد عليها السؤال من عدد من التابعين: "ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصنع في بيته إذا كان عندك؟" إنه تساؤل عن هذه الشخصية العامة كيف تكون في هذه الحالة الخاصة، كيف يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي يعيش خارج بيته متصديا لقضايا الأمة، متحملا لأعبائها، فإذا دخل بيته، وأغلق بابه وخلا بأهله فكيف يكون؟ وماذا يصنع؟
ولقد تلقت عائشة رضي الله عنها السؤال بحفاوة واهتمام، وأشرعت نافذة على بيت النبوة؛ لنرى منها النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الحالة الخاصة في بيته ومع أهله، فإذا هي تصفه بهذا الوصف الوجيز البليغ.
قالت: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خلا في بيته ألين الناس، وأكرم الناس، كان رجلا من رجالكم إلا أنه كان ضحاكا بساما، وما كان إلا بشرا من البشر، كان يكون في مهنة أهله -يعني خدمة أهله- يخصف نعله، ويخيط ثوبه، ويحلب شاته، ويخدم نفسه، ويعمل في بيته كما يعمل أحدكم في بيته، فإذا أحضرت الصلاة خرج إلى الصلاة، ولا رأيته ضرب بيده امرأة ولا خادما".
إنها باقة معطرة من الصفات النبوية أحسنت أمنا عائشة رضي الله عنها وصفها في هذه الجمل الوجيزة بهذا البيان البليغ، وبقي أن نفتح أبصار البصائر على معان عظام.
1- "ما كان إلا بشرا من البشر" لا أحسب أن عائشة كانت تقرر بشرية النبي صلى الله عليه وسلم وأنه ليس ملكا بل بشرا رسولا، ولكنها كانت تقرر معنى أخص من ذلك، وهو بشريته في التعامل الأسري بحيث إنه صلى الله عليه وسلم يدخل بيته ليس على أنه القائد أو الزعيم أو الإمام، ولكن على أنه الزوج ليعيش حياة السكن الزوجي مع أهله، لتجتمع معاني العظمة المحمدية في عظمة التعامل الزوجي، وأنه صلى الله عليه وسلم لم يكن يعيش في بيته سمته الذي يلقى به الناس، ولكن يعيش بساطة الحياة الأسرية وعفويتها، فلا ترى فيه زوجه إلا الزوج الواد الرحيم، وهو صلى الله عليه وسلم سيد ولد آدم وإمام البشرية، والعظيم لا تمتلئ الأعين من النظر إليه مهابة وإجلالا، ولكنه يعيش في بيته ومع أهله زوجا أولا.
كم ننسى هذا المعنى النبوي العظيم حينما نصطحب معنا إلى بيوتنا المعاني والألقاب الخارجية؛ ليعيش أحدنا في بيته على أنه صاحب السعادة أو الفضيلة، مع أن هذه ألقاب تخلع عند الباب ليعود، ومن كان كذلك بشرا من البشر.
2- "كان يكون في مهنة أهله" يثب إلى ذهني سؤال ثاقب يقول: وهل كانت أمنا عائشة تشكو كثرة العمل ومشتتة حتى يكون عمل النبي صلى الله عليه وسلم في بيتها معونتها وخدمتها؟ أما كانت حجرتها متقاربة الجدر صغيرة، المساحة، بحيث لم يتجاوز طولها عشرة أذرع، وعرضها سبعة أذرع (5 أمتار* 3.5) وأما العمل فيها فقد كانت تنقضي الشهران بتمامها وما أوقد فيها نار لطعام يصنع، فهل ثمة عمل يحتاج إلى جهد، فضلا عن أن يحتاج إلى معونة بحيث يكون النبي صلى الله عليه وسلم في بيته مشغولا بمهنة أهله؟
إن الجواب عن هذا التساؤل: أن نبيك صلى الله عليه وسلم ما كان يصنع ما يصنع لكثرة الشغل وجهد العمل، ولكن هناك معنى أعمق، وهو المواساة والإشعار بالمشاركة التامة في الحياة الزوجية ، وتحقيق أحد معاني السكن إلى الزوجة {لتسكنوا إليها} [الروم من الآية:21]، ولم يقل لتسكنوا معها.
إن هذه الأعمال اليسيرة في المنـزل تصل إلى قلب الزوجة مشفوعة بمذكرة تفسيرية تضج بمعاني الحب والمودة والرحمة، وتشعر الزوجة بالدنو القريب إلى زوجها، والامتزاج الروحي والعاطفي، كون الرجل في مهنة أهله، وأي عمل وعلى أي صفة رسالة حياة تقول: هويتنا جميعا كما هي حياتنا جميعا، وإن معاني الالتحام الزوجي تنسجها هذه اللمسات المعبرة، فيكبر في عين زوجته بقدر تواضعه، ويعظم في نفسها بقدر بساطته.
3- إننا نطل من هذه النافذة على البيت، فنراه صغيرا في مساحته، بسيطا في متاعه، ولكن الخلق النبوي العظيم جعله وعاء كبيرا مترعا بالأنس والبهجة، ترن فيه الضحكات، وتشرق البسمات، ويتدفق ينبوعا غامرا من السعادة والإبهاج "كان رجلا من رجالكم إلا أنه كان ضحاكا بساما".
ليس في بيت النبوة التواقر المتكلف، ولا التزمت المقيت، ولا تجهم العبوس، ولكنه حبور الضحك وإيناس التبسم، ومتعة الحياة الطيبة التي تملأ البيت حبرة وسرورا، حتى كأنما يعيش أهله في زاوية من الجنة .
4- إن هذا الفن الراقي في التعامل الزوجي، والمبادرة من الزوج إلى المشاركة المعبرة والأنس المبهج سوف يجعله يحتل المساحة الأكبر من قلب زوجته ووجدانها. إن هذا التعامل الرفيع يجعل لحضوره فرحة وأنسا، ولغيابه وحشة وفقدا، وسيكون من المرأة بمكان.
إن على الذين يشتكون برودة الحياة الزوجية وجفافها أن يتعلموا من هذا الدرس النبوي: أن الدماء تتدفق حارة في حياتهم بمثل هذه اللمسات الساحرة، حينها لن يبقى في قلب المرأة ووجدانها مساحة شاغرة؛ فقد ملأ ذلك كله زوج أشعرها بالمشاركة الحقيقية في الحياة، ولون يومها بالبسمات.
5- يبهرنا هذا التوازن في الحياة النبوية فقد كان -صلى الله عليه وسلم مع الناس أكثرهم تبسما، وفي بيته أيضا ضحوكا بساما، وكان مع الناس كالريح المرسلة بالخير، وفي بيته في مهنة أهله، وكان خير الناس للناس، وخيرهم لأهله.
إن هذا التوازن يفتقد عند أناس يبذلون المجاملات الرقيقة بسخاء في تعاملهم العام، ولكنهم يخزنون عبوس وجوههم وقترة نفوسهم لزوجاتهم، فلا يرين إلا قتامة التجهم، وملالة التضجر، مع أنهم أولى الناس ببشره وحسن خلقه، أما نبينا صلى الله عليه وسلم فقد وسع الناس بحسن خلقه، وكان أهل بيته أسعد الناس بهذا الخلق.