يطأ الجنة بعرجته

0 6453

بعد انتهاء غزوة أحد وما صاحبها من آلام وجراح، ذهب النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يتفقد الشهداء، فرأى كثيرا من خيرة أصحابه قد فاضت أرواحهم، منهم حمزة بن عبد المطلب، ومصعب بن عمير، وحنظلة بن أبي عامر، وسعد بن الربيع، وأنس بن النضر وغيرهم ـ رضوان الله عليهم أجمعين ـ، فلما رآهم ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: ( أشهد على هؤلاء، ما من مجروح جرح في الله ـ عز وجل ـ إلا بعثه الله يوم القيامة، وجرحه يدمي، اللون لون الدم، والريح ريح المسك، انظروا أكثرهم جمعا للقرآن، فقدموه أمامهم في القبر) رواه أحمد .
ومن شهداء أحد عمرو بن الجموح ـ رضي الله عنه ـ، زوج أخت عبد الله بن حرام ـ رضي الله عنه ـ، وكان واحدا من زعماء المدينة، وسيدا من سادات بني سلمة، سبقه إلى الإسلام ابنه معاذ بن عمرو الذي كان أحد الأنصار في بيعة العقبة الثانية، وقصة استشهاد عمرو بن الجموح ـ رضي الله عنه ـ في غزوة أحد جديرة بالوقوف معها وقفة، لأخذ العبرة والفائدة منها . 

على الرغم من أن عمرو بن الجموح ـ رضي الله عنه ـ من أصحاب الأعذار ـ فقد كان أعرجا ـ الذين يجوز لهم التخلف عن القتال لقول الله تعالى: { ليس على الأعمى حرج ولا على الأعرج حرج ولا على المريض حرج }(الفتح من الآية: 17)، إلا أنه قبل بداية القتال في هذه الغزوة ذهب الى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يطلب منه الإذن في الخروج للجهاد في سبيل الله، وقال له: " يا رسول الله ان بنى يريدون أن يحبسوني عن الخروج معك الى الجهاد، ووالله اني لأرجو أن أخطر بعرجتي هذه في الجنة ".
وأمام إصراره الشديد وهمته العالية أذن له النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بالخروج للجهاد والقتال، فدعا عمرو ـ رضي الله عنه ـ ربه قائلا: " اللهم ارزقني الشهادة، ولا تردني الى أهلي ".
قال ابن القيم: " وفي هذا الخبر دليل على أن من عذره الله في التخلف عن الجهاد لمرض أو عرج، يجوز له الخروج إليه، وإن لم يجب عليه، كما خرج عمرو بن الجموح وهو أعرج " .
وقد ذكر ابن كثير في قصة حضور عمرو بن الجموح ـ رضي الله عنه ـ معركة أحد، عن ابن الكلبي أنه قال: " كان عمرو بن الجموح آخر الأنصار إسلاما، ولما ندب رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ الناس إلى بدر، أراد الخروج معهم، فمنعه بنوه بأمر رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ، لشدة عرجه، فلما كان يوم أحد، قال لبنيه: منعتموني الخروج إلى بدر، فلا تمنعوني الخروج إلى أحد، فقالوا: إن الله عذرك، فأتى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال: يا رسول الله، إن بني يريدون أن يحبسوني عن هذا الوجه والخروج معك فيه، والله إني لأرجو أن أطأ بعرجتي هذه في الجنة، فقال له رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ:(  أما أنت فقد عذرك الله، ولا جهاد عليك، وقال لبنيه لا عليكم أن تمنعوه، لعل الله يرزقه الشهادة ) " .

يطأ الجنة بعرجته :

بدأت المعركة والتقى الجمعان، وانطلق عمرو بن الجموح ـ رضي الله عنه ـ وأبناؤه الأربعة يضربون بسيوفهم المشركين، ونال عمرو ـ رضي الله عنه ـ ما خرج من أجله، ودعا الله به, فقتل شهيدا في سبيل الله، قال الله تعالى: { وما أصابكم يوم التقى الجمعان فبإذن الله وليعلم المؤمنين }(آل عمران الآية : 166) .
وعن قتادة بن الحارث بن ربعي الأنصاري ـ رضي الله عنه ـ قال: ( أتى عمرو بن الجموح إلى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال: يا رسول الله، أرأيت إن قاتلت في سبيل الله حتى أقتل، أمشي برجلي هذه صحيحة في الجنة؟، فقال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: نعم، فقتلوه يوم أحد وهو وابن أخيه ومولى لهم، فمر عليه رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال: كأني أنظر إليك تمشي برجلك هذه صحيحة في الجنة ) رواه أحمد وحسنه الألباني في كتابه أحكام الجنائز .
وعن جابر بن عبد الله ـ رضي الله عنه ـ قال: ( جاء عمرو بن الجموح إلى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يوم أحد فقال: يا رسول الله من قتل اليوم دخل الجنة؟، قال: نعم، قال: فوالذي نفسي بيده لا أرجع إلى أهلي حتى أدخل الجنة، فقال له عمر بن الخطاب: يا عمرو لا تأل (تحلف) على الله، فقال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: مهلا يا عمر فإن منهم من لو أقسم على الله لأبره: منهم عمرو بن الجموح، يخوض في الجنة بعرجته ) رواه ابن حبان، وفي رواية أخرى: ( إن منكم من لو أقسم على الله لأبره، منهم: عمرو بن الجموح، ولقد رأيته يطأ في الجنة بعرجته ) .
وفي دلائل النبوة للبيهقي قال: " حدثنا محمد بن عمر الواقدي عن شيوخه في قصة عبد الله بن عمرو بن حرام، قالوا: فقال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يوم أحد: ( ادفنوا عبد الله بن عمرو بن حرام وعمرو بن الجموح في قبر واحد )، ويقال: إنما أمر بذلك لما كان بينهما من الصفاء، فقال:( ادفنوا هذين المتحابين في الدنيا، في قبر واحد ) ..
وبعد مضي ست وأربعين سنة على موتهما ودفنهما، نزل سيل شديد غطى أرض القبور، فسارع المسلمون إلى نقل رفات الشهداء، فإذا هم كما وصفهم الذين اشتركوا في نقل رفاتهم: " لينة أجسادهم ، تثنى أطرافهم "، وكان جابر بن عبد الله ـ رضي الله عنه ـ لا يزال حيا، فذهب لينقل رفات أبيه عبد الله بن عمرو بن حرام ورفات زوج عمته عمرو بن الجموح ـ رضي الله عنهما ـ، فوجدهما في قبرهما كأنهما نائمان، لم تأكل الأرض منهما شيئا، وعلى وجهيهما بسمة الرضا والغبطة .
وقد روى مالك بن أنس عن عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي صعصعة: " أنه بلغه أن عمرو بن الجموح وعبد الله بن عمرو بن حرام الأنصاريين كانا في قبر واحد، وكانا ممن استشهدا في يوم أحد، وكان قبرهما مما يلي السيل، فحفر عنهما ليغيرا عن مكانهما، فوجدا لم يتغيرا كأنما ماتا بالأمس، وكان أحدهما قد جرح فوضع يده على جرحه، فدفن وهو كذلك، فأميطت يده عن جرحه ثم أرسلت فرجعت كما كانت، وكان بين يوم أحد ويوم حفر عنهما ست وأربعون سنة " .

وفي قصة استشهاد عمرو بن الجموح ـ رضي الله عنه ـ رغم أنه كان في الستين من عمره ومن أصحاب الأعذار، دليل على شجاعته وعلو همته، ورغبته الشديدة في نيل الشهادة في سبيل الله، وصدقه في طلبها، وقد أكرمه الله بذلك، وشهد له النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بأنه يسير برجله في الجنة، وفيه وفي أصحابه الذين قتلوا في غزوة أحد نزل قول الله تعالى: { من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا }(الأحزاب الآية: 23)، فعن موسى بن طلحة عن أبيه طلحة ـ رضي الله عنه ـ قال: ( لما أن رجع النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ من أحد، صعد المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، وعزى المسلمين بما أصابهم، وأخبرهم بما لهم فيه من الأجر والذخر، ثم قرأ هذه الآية: { من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه } .
 

 

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة