قصة إسلام عمرو بن العاص

0 2185

عمرو بن العاص ـ رضي الله عنه ـ يكنى أبا عبد الله وأبا محمد، من فرسان قريش وأبطالهم المعدودين، كان معدودا من دهاة العرب وشجعانهم وذوي آرائهم، ولذلك أرسلته قريش إلى النجاشي ملك الحبشة ليرد عليهم من هاجر من المسلمين إلى بلاده، وقد قال عنه الذهبي في كتابه سير أعلام النبلاء: " عمرو بن العاص بن وائل، الإمام أبو عبد الله، ويقال أبو محمد السهمي، داهية قريش، ورجل العالم، ومن يضرب به المثل في الفطنة، والدهاء، والحزم " ، وقال عنه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ : ( أسلم الناس، وآمن عمرو بن العاص ) رواه الترمذي وحسنه الألباني

بعد صلح الحديبية الذي كان مقدمة ومفتاحا لفتح مكة، أسلم عمرو بن العاص وخالد بن الوليد وعثمان بن طلحة ـ رضي الله عنهم ـ، وقد أسلم بإسلام هؤلاء كثير من أهل مكة واتبعوا دين الحق، وبذلك قويت شوكة الإسلام، وأصبح فتح مكة أبوابها أمرا لا شك فيه . قال ابن القيم: " كانت الهدنة مقدمة بين يدي الفتح الأعظم، الذي أعز الله به رسوله وجنده، ودخل الناس به في دين الله أفواجا، فكانت هذه الهدنة بابا له ومفتاحا ومؤذنا بين يديه، وهذه عادة الله في الأمور العظام التي يقضيها قدرا وشرعا أن يوطئ لها بين يديها بمقدمات وتوطيئات تؤذن لها وتدل عليها " .

وقد روى ابن هشام في السيرة النبوية، وأحمد في مسنده قصة إسلام عمرو بن العاص ـ رضي الله عنه ـ فقال: " عن حبيب بن أبي أوس الثقفي، قال: حدثني عمرو بن العاص من فيه، قال: لما انصرفنا مع الأحزاب عن الخندق جمعت رجالا من قريش، كانوا يرون رأيي، ويسمعون مني، فقلت لهم: تعلمون والله أني أرى أمر محمد يعلو الأمور علوا منكرا، وإني قد رأيت أمرا، فما ترون فيه؟، قالوا: وماذا رأيت؟، قال: رأيت أن نلحق بالنجاشي فنكون عنده، فإن ظهر محمد على قومنا كنا عند النجاشي، فإنا أن نكون تحت يديه أحب إلينا من أن نكون تحت يدي محمد، وإن ظهر قومنا فنحن من قد عرفوا، فلن يأتينا منهم إلا خير، قالوا: إن هذا الرأي، فاجمعوا لنا ما نهديه له، وكان أحب ما يهدى إليه من أرضنا الأدم (الجلد)، فجمعنا له أدما كثيرا، ثم خرجنا حتى قدمنا عليه، فو الله إنا لعنده إذ جاءه عمرو بن أمية الضمري، وكان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قد بعثه إليه في شأن جعفر وأصحابه، قال: فدخل عليه ثم خرج من عنده، قال: فقلت لأصحابي: هذا عمرو بن أمية الضمري، لو قد دخلت على النجاشي وسألته إياه فأعطانيه، فضربت عنقه، فإذا فعلت ذلك رأت قريش أني قد أجزأت عنها (كفيتها) حين قتلت رسول محمد، قال: فدخلت عليه فسجدت له كما كنت أصنع، فقال: مرحبا بصديقي، أهديت إلي من بلادك شيئا؟، قال: قلت: نعم، أيها الملك، قد أهديت إليك أدما كثيرا، قال: ثم قربته إليه، فأعجبه واشتهاه ثم قلت له: أيها الملك، إني قد رأيت رجلا خرج من عندك، وهو رسول رجل عدو لنا، فأعطنيه لأقتله، فإنه قد أصاب من أشرافنا وخيارنا، قال: فغضب، ثم مد يده فضرب بها أنفه ضربة ظننت أنه قد كسره، فلو انشقت لي الأرض لدخلت فيها فرقا (خوفا) منه، ثم قلت له: أيها الملك، والله لو ظننت أنك تكره هذا ما سألتكه، قال: أتسألني أن أعطيك رسول رجل يأتيه الناموس الأكبر الذي كان يأتي موسى لتقتله!، قال: قلت: أيها الملك، أكذاك هو؟ قال: ويحك يا عمرو أطعني واتبعه، فإنه والله لعلى الحق، وليظهرن على من خالفه، كما ظهر موسى على فرعون وجنوده، قال: قلت: أفتبايعني له على الإسلام؟، قال: نعم، فبسط يده، فبايعته على الإسلام، ثم خرجت إلى أصحابي وقد حال رأيي عما كان عليه، وكتمت أصحابي إسلامي " .

اجتماع عمرو وخالد في دخول الإسلام :

يكمل عمرو ـ رضي الله عنه ـ الحديث فيقول: ( ثم خرجت عامدا إلى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لأسلم، فلقيت خالد بن الوليد، وذلك قبيل الفتح، وهو مقبل من مكة، فقلت: أين يا أبا سليمان؟، قال: والله لقد استقام المنسم (تبين لي الطريق ووضح)، وإن الرجل لنبي، أذهب والله فأسلم، فحتى متى (لا نسلم)؟، قال: قلت: والله ما جئت إلا لأسلم، قال: فقدمنا المدينة على رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ، فتقدم خالد بن الوليد فأسلم وبايع، ثم دنوت، فقلت: يا رسول الله، إني أبايعك على أن يغفر لي ما تقدم من ذنبي، ولا أذكر ما تأخر، قال: فقال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: ( يا عمرو، بايع، فإن الإسلام يجب (يقطع ويمحو) ما كان قبله، وإن الهجرة تجب ما كان قبلها، قال: فبايعته، ثم انصرفت ) .

لما أسلم عمرو بن العاص ـ رضي الله عنه ـ كان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقربه ويدنيه منه، وقد بعث إليه ـ صلى الله عليه وسلم ـ يوما وقال له: (خذ عليك ثيابك وسلاحك ثم ائتني، قال: فأتيته وهو يتوضأ فصعد في النظر ثم طأطأه فقال: إني أريد أن أبعثك على جيش فيسلمك الله ويغنمك، وأرغب لك من المال رغبة صالحة، قال: قلت: يا رسول الله، ما أسلمت من أجل المال، ولكني أسلمت رغبة في الإسلام، وأن أكون مع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ، فقال: يا عمرو، نعم المال الصالح للمرء الصالح ) رواه أحمد .
لقد أدرك عمرو ـ رضي الله عنه ـ فضل السابقين عليه من الصحابة، وأدرك أيضا تقدير النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لقدراته، وأن عليه أن يبذل الكثير للحاق بمن سبقوه بإنجازاتهم العظيمة .. وذلك لأن عمرا ـ رضي الله عنه ـ ليس رجلا عاديا يقنع باعتناق الإسلام فقط دون أن يكون له دور في حياته ومستقبله، ومن ثم فهو يبحث عن أعمال يخدم به هذا الإسلام العظيم، ليعوض ذلك الفرق الذي قطعه وسبقه به أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وبقية المهاجرين والأنصار ـ رضي الله عنهم ـ أجمعين .
وإذا كان عمرو ـ رضي الله عنه ـ صاحب دور بارز في الجاهلية، فليس من المتوقع أن يخبو وهجه ودوره بعد إسلامه، خاصة أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان يستثمر طاقات وإمكانيات أصحابه نحو الأفضل والأسمى، وقد كان، فبعد أن ترك عمرو ـ رضي الله عنه ـ تلك الأصنام والأوثان وشرف بالتوحيد والإسلام، ولاه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ إمرة جيش المسلمين في " ذات السلاسل " بعد إسلامه بشهرين، ثم استعمله على عمان، وسار بعد ذلك ـ رضي الله عنه ـ على مشارف أعظم دولتين في العالم فارس والروم، في فتوحات وانتصارات للإسلام والمسلمين، فهو الذي افتتح قنسرين، وصالح أهل حلب ومنبج وأنطاكية .. ويكفيه فخرا وشرفا أن مصر دخلت الإسلام على يديه ..

وفاته :

توفي عمرو بن العاص ـ رضي الله عنه ـ بمصر في العام الثالث والأربعين من الهجرة النبوية، وقد تجاوز عمره التسعين سنة، وقد روى عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ نحو أربعين حديثا .
وروى مسلم في صحيحه في كتاب الإيمان، باب كون الإسلام يهدم ما قبله وكذا الهجرة والحج، أن عمرو ـ رضي الله عنه ـ حين مرض موته وحضرته الوفاة، بكى طويلا وحوله وجهه إلى الجدار، فجعل ابنه يقول: ( يا أبتاه أما بشرك رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بكذا؟، أما بشرك رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بكذا؟، قال فأقبل بوجهه فقال: إن أفضل ما نعد شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، إني قد كنت على أطباق (أحوال) ثلاث، لقد رأيتني وما أحد أشد بغضا لرسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ مني، ولا أحب إلي أن أكون قد استمكنت منه فقتلته، فلو مت على تلك الحال لكنت من أهل النار، فلما جعل الله الإسلام في قلبي أتيت النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقلت: ابسط يمينك فلأبايعك، فبسط يمينه، قال: فقبضت يدي، قال: مالك يا عمرو ؟، قال: قلت: أردت أن أشترط، قال: تشترط بماذا ؟، قلت: أن يغفر لي، قال: أما علمت أن الإسلام يهدم ما كان قبله ؟، وأن الهجرة تهدم ما كان قبلها ؟، وأن الحج يهدم ما كان قبله ؟، وما كان أحد أحب إلي من رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ولا أجل في عيني منه، وما كنت أطيق أن أملأ عيني منه إجلالا له، ولو سئلت أن أصفه ما أطقت، لأني لم أكن أملأ عيني منه، ولو مت على تلك الحال لرجوت أن أكون من أهل الجنة، ثم ولينا أشياء ما أدري ما حالي فيها، فإذا أنا مت فلا تصبحني نائحة ولا نار، فإذا دفنتموني فشنوا علي التراب شنا، ثم أقيموا حول قبري قدر ما تنحر جزور، ويقسم لحمها، حتى أستأنس بكم، وأنظر ماذا أراجع (أجاوب) به رسل ربي ) .
قال النووي بعد شرحه لمعاني هذا الحديث: " أما أحكامه ففيه: عظم موقع الإسلام والهجرة والحج، وأن كل واحد منها يهدم ما كان قبله من المعاصي، وفيه استحباب تنبيه المحتضر على إحسان ظنه بالله ـ سبحانه وتعالى ـ، وذكر آيات الرجاء وأحاديث العفو عنده، وتبشيره بما أعده الله ـ تعالى ـ للمسلمين، وذكر حسن أعماله عنده ليحسن ظنه بالله ـ تعالى ـ ويموت عليه، وهذا الأدب مستحب بالاتفاق، وموضع الدلالة له من هذا الحديث قول بن عمرو لأبيه: أما بشرك رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بكذا، وفيه ما كانت الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ عليه من توقير رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وإجلاله " .

لقد كان عمرو بن العاص ـ رضي الله عنه ـ من الرجال الذين شرفوا بصحبة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وتربوا على يديه، وقال الله ـ عز وجل ـ فيهم: { محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعا سجدا يبتغون فضلا من الله ورضوانا سيماهم في وجوههم من أثر السجود ذلك مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطأه فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه يعجب الزراع ليغيظ بهم الكفار }(الفتح من الآية : 29 )، وقال عنهم : { من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا }(الأحزاب الآية: 23)، وكان إسلامه ـ رضي الله عنه ـ قوة للإسلام والمسلمين، وضعفا للشرك والمشركين, فلقد سخر حياته وشجاعته لصالح الإسلام، وخسر الكفار بإسلامه خسارة كبيرة، لأنهم كانوا يعدونه لعظائم الأمور التي تحتاج إلى دهاء ومقدرة على التأثير وخاصة فيما يتعلق بعدائهم مع المسلمين، وقد كتب الله ـ عز وجل ـ على يديه صفحات مشرقة من تاريخ المسلمين، أصبحت باقية في ذاكرة الأمة وتاريخها المجيد على مر الدهور وتوالي الأزمان، وكفاه فخرا وشرفا أن مصر دخلت الإسلام على يديه . 

مواد ذات صلة

المكتبة