أنوار قرآنية: المناسبات والصلات بين أسماء سور جزء الذاريات

0 1698

عندما نأخذ أسماء سور جزء الذاريات سنجد بناء محكما، وصلات عظيمة رائعة عجيبة، ونرى الارتباط والإحكام المتقن بين هذه السور، والتي توضح جزءا من معنى قول الله تعالى: {الر كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير}(هود: 1)، كما أنه يظهر لنا بذلك خريطة هذا الجزء من القرآن، ومعها تتضح المفاهيم الرائعة العظيمة التي يريد الله سبحانه وتعالى أن نربي أنفسنا عليها أفرادا ومجتمعات مما تدخل معرفتها ضمن التدبر الذي هو غاية النزول القرآني كما قال الله تعالى: {كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولو الألباب}(ص: 29)، وقد تكون جزء الذاريات من سبع سور، فالأربع الأولى مقدمات تؤدي إلى الخامسة، والسادسة والسابعة، نتائج قائمة على معرفة الخامسة، فالخامسة وهي سورة الرحمن واسطة العقد في هذا الجزء المبارك العظيم.

السورة الأولى من هذا الجزء: سورة (الذاريات)

والذاريات هي الرياح التي تذرو التراب ذروا كما ورد عن علي وعمر وغيرهما، وحقيقة الذرو رمي أشياء مجتمعة ترمى في الهواء لتقع على الأرض مثل الحب عند الزرع ومثل الصوف، وأصله ذرو الرياح التراب فشبه به دفع الريح قطع السحاب حتى تجتمع فتصير سحابا كاملا، ومن ذلك قوله تعالى: {واضرب لهم مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض فأصبح هشيما تذروه الرياح} (الكهف: 45)، والرياح ضمن الظاهر الكونية التي لا يمكن للإنسان التحكم بل يرسلها الله تعالى للإنسان أو عليه كما قال تعالى: {وهو الذي يرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته}(الأعراف: 57)، {الله الذي يرسل الرياح فتثير سحابا}(الروم: 48).

السورة الثانية: سورة (الطور)
والطور هو الجبل، وقد قيل بأنه جبل مخصوص وهو الذي ناجى فيه الله تعالى موسى عليه السلام، وأنزل عليه فيه الألواح المشتملة على أصول شريعة التوراة، وقيل الطور اسم لكل جبل عظيم، والجبال أيضا من الظواهر الكونية التي لا يستطيع الإنسان مشابهتها في عظمتها ورسوخها ووظيفتها، ولذا قال الله تعالى: {ألم نجعل الأرض مهادا (6) والجبال أوتادا}(النبأ: 6، 7).

السورة الثالثة: سورة (النجم)
والنجم هو الكوكب المعروف الموجود في السماء وهو عبارة عن كوكب مشتعل مليء بالطاقة الهائلة العظيمة، والنجوم مخلوقات عظيمة أنشأها الله وسخرها في نظام محكم، فيصغر الإنسان ويتضاءل عندما يراها أو يتفكر في أبعادها وعظمة خلقتها والطاقة التي تكتنزها، ولذا قال الله تعالى: {والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره}(الأعراف: 54).

السورة الرابعة: سورة (القمر)
والقمر أيضا هو الكويكب المعروف الصغير التابع للكواكب الأكبر منه مثل القمر الذي يتبع كوكب الأرض، والسورة نزلت مبينة معجزة للرسول صلى الله عليه وآله وسلم في حكم الله تعالى للكون ففي البخاري عن أنس رضي الله عنه قال: سأل أهل مكة أن يريهم آية فأراهم انشقاق القمر، وفيه عن ابن مسعود قال: انشق القمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فرقتين فرقة فوق الجبل وفرقة دونه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((اشهدوا)).

الجامع بين السور الأربع:
هذه أربع سور كل سورة منها تدل على آية كونية هي معجزة عظيمة في ذاتها نراها أمام أعيننا، ونسأل كل الخلق: من الذي يمسكها ويسخرها في نظام؟ من الذي يتحكم بها ويغيرها؟ سواء كان ذلك متعلقا بـ(الذاريات) أي الرياح أو بـ(الطور) أي الجبل أو بـ(النجم) أو بـ(القمر)؟
إنه الله سبحانه وتعالى، ولذلك قال إبراهيم معرفا الله تعالى بحكمه لمخلوقات الكون: {إذ قال إبراهيم ربي الذي يحيي ويميت}(البقرة: 258)، فقال النمرود لإبراهيم عليه السلام{أنا أحيي وأميت} (البقرة: 258) عندها عرف إبراهيم عليه السلام أن هذا الإنسان ضعيف العقل إذ المقصود القدرة على حكم الكون، وليس أن يحكم على إنسان بالإعدام فيكون قد أماته، وعلى آخر بالعفو فيكون قد أحياه، لذا جابهه بأمر آخر أوضح في موضوع حكم الكون فقال: {فإن الله يأتي بالشمس من المشرق}(البقرة: 258) يعني هو الذي يتحكم بالكون ووضعها على هذا النظام، فإن أنت فعلا تستطيع أن تضاهي الله في ملكه وحكمه فغير هذا النظام {فأت بها من المغرب}(البقرة: 258) أي غير هذا النظام الكوني الموجود، {فبهت الذي كفر والله لا يهدي القوم الظالمين}(البقرة: 258).

فلتخسأ الحكماء عن عظم له الأفلاك تسجد
من أنت يا رسطو ومن أفلاط قبلك يا مبلد
ومن ابن سينا حين قرر ما بنيت له وشيد
هل أنتم إلا الفرا ش رأى الشهاب وقد توقد
فدنا فأحرق نفسه ولو اهتدى رشدا لأبعد

وقد بين الله تعالى أن هذه المظاهر الكونية وغيرها تسجد لله خاشعة خاضعة فقال: {ألم تر أن الله يسجد له من في السماوات ومن في الأرض والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب} (الحج: 18).

السورة الخامسة: سورة (الرحمن)
والرحمن هو الاسم الأعظم بعد اسمه العلم الفرد (الله) سبحانه، والله يقرن بين الاسمين في كلامه العزيز، ومن ذلك قوله: {قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أيا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى}(الإسراء: 110).

المناسبة والاتصال بين أسماء السور الأربع والسورة الخامسة:
الآيات الأربع التي سميت بها السور الأربع الأولى من هذا الجزء المبارك تدل على الله سبحانه وتعالى بطريق البرهان المشاهد، ولذلك جاءت السورة الخامسة (الرحمن)، ووجه ارتباطها بأسماء السور السابقة واضح كأن الله تعالى يقول: ألا يكفيكم لتعرفوا الرحمن وعظمته وقدرته ورحمته بكم أنه:
سخر (الذاريات) أي الرياح وتحكم بها فمرة تكون لكم وتارة تكون عليكم؟
وسخر الجبال (الطور) وتحكم بها، والجبال مهما بلغ مكر أهل الأرض لا يستطيعون أن يزيلوها إزالة حقيقة تامة، ولذلك قال تعالى {وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال}(إبراهيم: 46) أي: وما كان مكرهم لتزول منه الجبال في قراءة الجمهور.
وسخر (النجم) وسخر (القمر) وكلها آيات عظيمة وبراهين متجسدة مشاهدة تؤدي إلى الرحمن، فجاءت اسم سورة (الرحمن) نتيجة لتلك البراهين ولتثبت الإيمان، فكل الآيات الأربع تدل على ملك الله ورحمته بالخلق، ولذا كان من أبرز الحقائق التي قررت في سورة الرحمن حقيقتان:
الأولى: ضرورة الانتباه إلى آلائه العظيمة، والآلاء هي الآيات العجيبة التي تتضمن النعم وغيرها، وقد قررت هذه الحقيقة في السورة في صورة سؤال تكرر واحدا وثلاثين مرة في السورة تنبيها وإزعاجا للعقل والحس والضمير والشعور، وإنكارا على المعرضين والمجادلين والمعاندين فيقول الله تعالت عظمته في هذا السؤال: {فبأي آلاء ربكما تكذبان }(الرحمن: 16).
الثانية: بقاء ملك -تعالت عظمته- بعد فناء الأكوان: وهذه الحقيقة قررها في سورة الرحمن فقال في بيان جميل مشرق عظيم: {كل من عليها فان (26) ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام}(الرحمن: 26، 27)، وختم السورة بما يدل على ملكه وجلاله ورحمته وإكرامه {تبارك اسم ربك ذي الجلال والإكرام}(الرحمن: 78)، وكأن الله تعالى يقول:
 

أنا الرحمــــــن فاطلبـــــــنــي تجـــدني ... فإن تطلب ســــواي فــــلا تجدني
تجدن أي أيـــــن تطلبـــــنــي عتيـــــدا ... قريبـــــا منــــــك فاطلبني تجدني
تجدني في ســـــواد الليـــــل عبـــــــدي ... قريبا منـــــك فاطلبـــني تجـــدني
تجدنــي فـــي سجــــودك لـــي قريــــبا ... قريبا منــــــك فاطلبــــني تجدنـي
تجــــــــــــدني راحمــــا برا رؤوفــــــا ... أنا الرحمـــــــن فاطلبني تجدنــي

السورة السادسة: سورة (الواقعة)
وصلتها بما قبلها: تظهر في أنه بعد أن رأى الإنسان البراهين الأربعة (الذاريات، والطور، والنجم، والقمر) وتفكر فيها فرآها معجزات ونعما تدل على (الرحمن) فإما أن يؤمن به ويلتزم ما يسعده من طاعته وهديه، وإما أن يصر على ضلاله وكفره وغيه، فما هو حال الفريقين؟ وما هو مآلهم؟
الحال والمآل إما أن يكون أخرويا، وإما أن يكون دنيويا:
فالواقع الأخروي بينته سورة (الواقعة) حيث بينت جزاء المؤمنين والمعرضين تفصيلا، والواقعة هي الشيء العظيم الذي يقع، وهي أعظم حدث يقع في الكون {إذا وقعت الواقعة (1) ليس لوقعتها كاذبة (2) خافضة رافعة}(الواقعة: 1 - 3) تخفض أقواما وترفع أقواما، فالكلام في سورة (الواقعة) عن الجزاء الأخروي سواء لمن آمن بالرحمن أو لمن كفر به، وقسم الناس في ذلك إلى ثلاثة أقسام {وكنتم أزواجا ثلاثة (7) فأصحاب الميمنة ما أصحاب الميمنة (8) وأصحاب المشأمة ما أصحاب المشأمة (9) والسابقون السابقون}(الواقعة: 7 - 10) اللهم اجعلنا من السابقين بفضلك ورحمتك.
وقدم الواقع الأخروي على الواقع الدنيوي لأنه الأصل الباقي.

السورة السابعة: سورة (الحديد)
وأما الواقع الدنيوي للمؤمنين والكافرين فقد ظهر في سورة الحديد، وهي آخر سورة في هذا الجزء، والحديد إشارة الى القوة الدنيوية، ولذلك قال الله تعالى: {لقد أرسلنا رسلنا بالبينات}(الحديد: 25)، ومن البينات الذاريات والكون المنظور والكتاب المسطور، والبينات تعني البراهين والمعجزات، {وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس}، فالحديد إشارة إلى القوة الدنيوية، ولذلك بعد الحديد مباشرة قال تعالى: {وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب}(الحديد: 25) في الآية نفسها. فما معنى هذا الكلام؟
الواقعة تشير إلى الآخرة، والحديد يشير إلى الدنيا، فـ(الواقعة) إشارة الى الجزاء الآخروي لمن ءامن بالرحمن أو لمن كفر به، و(الحديد) إشارة الى أن المسلمين ينبغي أن يمتلكوا القوة الرادعة التي يصدون فيها إجرام المجرمين وبغي الباغين، واعتداء المعتدين ولذلك قال تعالى: {وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب}(الحديد: 25)، فهذه معادلة واضحة أي من ينصر الله فيعد العدة ويجهز القوة اللازمة بقدره ينصره الله، فالحديد إشارة إلى القوة الحامية لمشروع الإيمان في الدنيا، كما هو إشارة الى شيء آخر وهو عدم الاكتفاء بانتظار الجزاء الأخروي بل إن السورة تدل على وجوب إعداد العدة للدفاع عن أنفسكم والدفاع عن الحق المبين.
وبذلك اتضح شيء من الترابط والإحكام بين هذه السور المباركة من كلام الملك الجليل القدوس السلام، ولم ننظر في هذه السور لأنها موجودة في هذا الجزء فالتجزيئ اجتهاد بشري، بل لتتابعها في القرآن بهذه الهيئة، وهذا التتابع توقيفي كما هو الراجح في موضوع ترتيب السور، واستنباط هذه التأملات من الأسماء لا يعني أن المواضيع التفصيلية التي ذكرت في السور لم تتطرق إلى تفاصيل أخرى كما هو معلوم، نسأل الله -تعالت عظمته- حلاوة تلاوة القرآن، وحلاوة فهمه والعمل به وشفاعته.


 

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة