- اسم الكاتب:مجلة البيان ( العدد324 بــ\\\"تصرف\\\" )
- التصنيف:تاريخ و حضارة
عد العديد من المؤرخين المحدثين الجهاد من الأسس المهمة التي قامت عليها الدولة المرابطية (448 - 541هـ/1056 - 1146م)، ونظرا لتعاظم الأخطار الخارجية وتهديدها للعالم الإسلامي، تشدد الفقهاء في مفهوم الجهاد، حيث كان فقهاء الدولة المرابطية يستشارون في أمور الإدارة والحرب والسياسة الخارجية للدولة، وكانت لهم جهود فعالة في ميدان الجهاد بالأندلس.
انطلقت الحركة المرابطية من شعار “الرباط” كمؤسسة دينية جهادية عسكرية، بل إن المرابطين ما لبثوا أن جعلوا من المغرب رباطا شاسعا يقوم بمهمة الدفاع عن الإسلام والمسلمين في المغرب والأندلس.
القضية الكبرى التي كانت تشغل الأندلس في ذلك الوقت، هي الصراع الإسلامي - النصراني، وكان تأثير الفقهاء بالغ الأهمية في نفوس الجنود المرابطين نتيجة تأثيرهم الديني القوي في بث روح المقاومة والجهاد. كما تعددت إسهامات الفقهاء في ميدان الجهاد؛ فبعضهم كان يحث الناس على الجهاد في أماكن التجمعات؛ كالمساجد والأسواق والميادين العامة وغيرها، كما صدرت عنهم الفتاوى والرسائل والمؤلفات والأشعار التي تعمل على استنهاض همم مسلمي الأندلس للجهاد ضد الأعداء، كما كان لهم أثر في النفقة لمصلحة الجهاد؛ كتجهيز الغزوات وإصلاح الأسوار أو فك أسرى المسلمين، ودعوا الرعية إلى الإنفاق في هذه المجالات.
وحض عدد كبير من الفقهاء الأمراء على الجهاد؛ ولم يتردد الفقيه أبو بكر الطرطوشي (ت 520هـ/ 1126م) في دعـوة المرابطين للجهاد في الأندلس، ويتجلى موقفه بوضوح في رسالة بعثها إلى يوسف بن تاشفين، ومما قـال فيها: “فجهاد الكفار فرض عليك فيما يليك من ثغور بـلاد الأندلس”.
كما استقوى فقهاء بلنسية بالمرابطين لتخليص المدينة من حكم النصارى وتسلط السيد القمبيطور عليهم، وعندما انتقل إلى سرقسطة 485هـ/ 1092م استغل الفقهاء الفرصة، وراسل قاضي المدينة ابن جحاف والفقيه ابن واجب صاحب الأحكام ومعهم أهل الحل والعقد، واتصلوا بقائد المرابطين في مرسية ابن عائشة؛ فأرسل إليهم قائده ابن نصر على رأس قوة من المرابطين “فخرج القاضي والفقهاء لتلقي ابن نصر”.
تمكن الفقيه ابن جحاف من قتل ابن ذي النون والاستيلاء على السلطة، لكن حكمه لم يدم طويلا، إذ تمكن السيد القمبيطور من الاستيلاء عليها 487هـ/ 1094م، وقام بقتل ابن جحاف وأحرق جثته، وفي عام 495هـ/ 1101م تمكن المرابطون من استردادها مرة أخرى. وفي أثناء حصار السيد القمبيطور لبلنسية نظم الفقيه أبو الوليد الوقشي (ت 489هـ/ 1096م) قصيدة طويلة يصف فيها المأساة التي أصابت البلاد والعباد فيما عرف بمرثية الوقشي، ويظهر فيها النكبة، وتساقط الرجال والنساء والأطفال، وكشف الحرمات.
وحرض أيضا الفقيه أبو جعفر بن عطية، علي بن يوسف لما سقطت ميورقة 508هـ/1114م، وصور ما لحق بالمسلمين من المأساة لينهض لنصرة الدين ورفع الظلم الواقع على المسلمين، فيقول: “واحر قلباه أمر ميورقة ورأب الله بصرفها صدع الجزيرة، وجبر بجبرها من جناح الإسلام كسيرة. فيالله لما كان فيها من إعلان توحيد قد عاد همسا، وبارقة كفر طلعت شمسا”.
كما نظم قصيدة تحض على الجهاد، وتكشف عن حالة الأمل عند أهل ميورقة في استرجاع مدينتهم، وحث أمير المسلمين علي بن يوسف داعيا إلى الجهاد. وصور ابن عطية صفات الشهيد؛ ومنها: عدم الفرار من المعركة والنجاة الذليلة كما يعد الذل والفرار موتا حقيقيا.
استجاب أمير المسلمين لموقف ابن عطية، وأوصى بإعداد الأسطول، ووكل أمره إلى القائد محمد بن ميمون، ليطرد النصارى من ميورقة، وليحمي الشواطئ الإسلامية في الأندلس، وبالفعل تحرك الأسطول الإسلامي نحو ميورقة، فلما سمع النصارى بهذه التحركات بدأت قواتهم في الحال بالانسحاب والفرار. ووجد القائد محمد بن ميمون ميورقة مدمرة، فشرع في عمرانها وأعاد إليها الفارين من سكانها وأمن أهلها.
اشترك عدد كبير من الفقهاء في غزو قلمرية 511هـ/ 1117م التابعة لمملكة البرتغال؛ “وتحرك أمير المسلمين علي بن تاشفين، وتأهبت العساكر الأندلسية، ولحقت من قرطبة لمة من الفقهاء والعلماء، وتأهب فقهاء إشبيلية، وأثخن جيش المسلمين في تلك الأنحاء تخريبا وقتلا وسبيا، ولم تستطع قوات الملكة تيريسا ملكة البرتغال أن تقوم بأية أعمال دفاعية ذات شأن، وفر أمامه النصارى في كل مكان، واعتصموا بالمعاقل المنيعة”.
حض – كذلك - ابن رشد الجد الناس على الجهاد والغزو بالمسجد الجامع بقرطبة، وكانت له مساع متميزة في الحفاظ على الوفاق بين أهل الأندلس والمرابطين للوقوف في وجه النصارى، كما عاقب بعض النصارى المتآمرين على المسلمين في الأندلس الذين اتصلوا بالممالك النصرانية المجاورة، كما أفتى بعزل الأمير تميم بن يوسف (ت520هـ/ 1126م) عن القيادة بعد ما ظهر من سوء قيادته العسكرية التي أدت إلى تسهيل توغل ألفونسو المحارب من شمال الأندلس إلى جنوبه ووصوله حتى ساحل البحر المتوسط. ونصح ابن رشد خلال مقابلته أمير المسلمين بإعادة تحصينات المدن الأندلسية الكبرى، وبناء سور مراكش وتحصينها، واستجاب له الأمير علي بن تاشفين سنة 520هـ/1126م.
وظف بعض الفقهاء المعارك والانتصارات الحربية لإعادة زرع الثقة في نفوس الأندلسيين، خاصة بعد فترات الهزائم والتحالف مع النصارى؛ فيصف الفقيه أبو عبيد الله البكري انتصار الزلاقة بقوله: “فتوح أضحكت مبسم الدهر، وسفرت عن صفحة البشر، وردت ماضي العمر، وأكبت واري الكفر، وجبرت الأمة، وجلت الغمة، وشفت الملة”.
كما لعب الفقهاء دورا كبيرا في تحريض العامة على الجهاد لما لهم من نفوذ ديني واسع، لهذا كانوا يرغبون الناس في الجهاد عن طريق إظهار عظيم ثوابه، وألفوا الكتب في فضله، واستخدموا الخطب المنبرية والحلقات الدراسية، ويذكر الحميري (ت نحو 727هـ/ 1326م) أن الفقهاء كان لهم دور ملحوظ في وعظ المجاهدين قبيل المعارك، فكانوا يعظون الناس ويحضونهم على الصبر ويحذرونهم من الفرار، وكان الحكام يطلبون من الفقهاء ذلك، مما كان له أكبر الأثر في الإعداد المعنوي للمجاهدين قبل القتال.
كتب الفقيه أبو محمد عبد الله بن عبد البر مبشرا بالنصر فيقول عن الزلاقة أيضا: “يوم لم يسمع بمثله من القادسية واليرموك، فيا له من فتح ما كان أعظمه، يوم كبير ما كان أكرمه، فيوم الزلاقة ثبتت قدم الدين بعد زلاقها وعادت ظلمة الحق إلى إشراقها”. كما قلل بعضهم من قوة النصارى وحشودهم فيصفهم ابن القصيرة قائلا: “قد تحصنوا بالحديد من قرونهم إلى أقدامهم، واتخذوا السلاح ما يزيد في جرأتهم وإقدامهم، ولما أشرف على جنابها، ولسنا بها، ودنا من أعلامها، ولم يتجه لنا بعد ما أردنا من إلمامها، دعاه تعاظمه إلى مواجهة سبيلنا. ويولون الأدبار”.
أوحت واقعة استعادة مدينة بلنسية (495هـ/1101م) للفقهاء بأن يزرعوا في الناس مقولة أن زمن الهزائم قد انتهى؛ فيقول أبو الفضل بن شرف: “فالآن قد نشر الميت من لحده، وعاد الحسام إلى غمده، فسبحان من سبب ما سبب، وأدب بالموعظة من أدب. فهبت ريح النصر، ومد بحر الظفر بعد الحسر”.
انعكس أيضا خوض بعض الفقهاء غمار المعارك على كتاباتهم وثقافتهم الحربية؛ فصاروا يتحدثون عن الشؤون الحربية وآلاتها، فتحدث ابن العربي عن التعبئة والقتال وحسن التدبير في الحرب قائلا: “فإن المقاتل إذا كانت الشمس في وجهه عشى بصره ونقص فعله“؛ ثم حكى عن تجربة له في المعارك الجهادية فقال: “ولقد حضرت صفا في سبيل الله في بعض الحروب مع قوم من أهل المعاصي والذنوب، فلما وازينا العدو أقبلت سحاب وريح ورزاز كأنه رؤوس الإبل يضرب في ظهر العدو ويأخذ وجوهنا فما استطاع أحد منا أن يقف في مواجهة العدو ولا قدرنا على فرس أن نستقبلها به، وعادت الحال إلى أن كانت الهزيمة علينا“. ولما تكلم ابن العربي عن الطبل ذكر أنه قسمان: طبل حرب وطبل لهو، قال: “فأما طبل الحرب فلا حرج فيه لأنه يقيم النفوس ويرهب على العدو“.
وشارك عدد كبير من الفقهاء في الجهاد في ميادين القتال مثل الفقيه يعلي المصمودي (ت 479هـ/1086م) في موقعة الزلاقة (479هـ/1086م)، واستشهد فيها، وكذلك أبو مروان عبد الملك المصمودي قاضي مراكش، وكان مصاحبا له واستشهدا معا. ويعد أبو العباس أحمد بن رميلة القرطبي من الفقهاء المجاهدين في معركة الزلاقة، واستشهد فيها، ولم تكن مهمة الشيخ يومها مجرد الجلوس في المسجد أو إلقاء الدروس أو تعليم القرآن فقط، فقد كان هذا الشيخ يفقه أمور دينه ويعلم أن الجهاد فضيلة كبرى. وممن استشهد أيضا الفقيه أبو رافع الفضل بن علي بن محمد بن حزم ابن فقيه الأندلس ابن حزم، وكان من أهل العلم.
واستشهد أيضا الفقيه أبي علي الصدفي أحد العلماء البارزين في زمانه، وتبلور دوره الجهادي في محنة سرقسطة عام 512هـ/ 1118م لإيقاف الخطر النصراني، فبدأ يحث تلاميذه ويرغبهم في الجهاد، ويثير الحماسة الدينية عندهم، وتمكن من جمع عشرين ألف متطوع. وأثناء مرور الجيش في معركة قتندة أو كتندة من مدينة مرسية إلى شاطبة، توقف الجيش للتزود بالمؤن، فألقى الصدفي دروسا عدة تحض على الجهاد وأعد نفسه للشهادة، وبالفعل استشهد في تلك المعركة سنة 514هـ/1120م. كما استشهد الفقيه فضل بن علي بن أحمد بن سعيد بن حزم، ومنهم من شارك في المعركة ولم يستشهد مثل الفقيه الكاتب أبي بكر محمد بن سليمان المعروف بابن القصيرة، وممن استشهد في هذه المعركة أيضا الفقيه عبد الرحمن بن فتح اللخمي.
استبسل الفقهاء ومعهم عامة الناس في الدفاع عن مدينة سرقسطة أثناء حصارها سنة 512هـ/ 1118م، حيث دارت معارك عنيفة بين الجانبين الإسلامي والصليبي على أبواب المدينة، تمكن فيها المسلمون من إنزال خسائر فادحة في صفوفهم وإحراق قنطرة سرقسطة كي يحيلوا دون عبور الجيش الصليبي إلى المدينة، ونتيجة لاستماتة المسلمين بالدفاع عن المدينة، فكر البعض من القادة القشتاليين في رفع الحصار، وترك القتال بعد أن نفذت المؤن والأموال، لولا أن شجعهم أسقف مدينة وشقة ورفاقه بعد أن وضعوا تحت تصرفهم ذخائر الكنائس وأموالها لشراء الأقوات والأسلحة والعتاد.
شارك الفقيه ابن الفراء (ت 514هـ/ 1120م) المسلمين بالأندلس جهادهم ضد النصارى، وأهم المعارك التي شهدها معركة قتندة، والتي دارت فيها الدائرة على المسلمين، وكانت بقيادة علي بن يوسف بن تاشفين؛ ففي عام 514هـ/ 1120م توجه ابن ردمير بجيوش النصارى حتى انتهى إلى قتندة بالقرب من مرسية في شرق الأندلس، فحاصرها حصارا شديدا وضيق على أهلها، فتوجه إليه علي بن يوسف بن تاشفين بجيوش المسلمين، وكثير من المتطوعة، حتى التقى الجيشان وتقاتلوا قتالا شديدا، وانتهى الأمر بهزيمة المسلمين. وكان فيمن قتل أبو عبد الله بن الفراء قاضي المرية، وكان من العلماء والزهاد في الدنيا العادلين في القضـاء.
وانتقد الفقيه ابن الصيرفي (ت 542هـ/ 1147م) حالات الهزائم المتكررة في أواخر عصر المرابطين، وعبر عن ذلك في قصيدة قوية ينتقد فيها سوء الأحوال، كما هاجم ابن العربي المتقاعسين عن الجهاد، ووصفهم بالثعالب؛ كما أرسل الفقيه ابن عطية رسالة شعرية طلب فيها الغوث لأهل ميورقة عندما حاصرها أهل جنوة بثلاثمائة مركب سنة 518هـ/ 1124م.
مما سبق يتضح لنا تعدد إسهامات الفقهاء في ميدان الجهاد؛ فبعضهم كان يحث الناس على الجهاد في أماكن التجمعات كالمساجد والأسواق والميادين العامة وغيرها، كما صدرت عنهم الفتاوى والرسائل والأشعار والمؤلفات التي تعمل على استنهاض مسلمي الأندلس للجهاد ضد الأعداء، كما كان لهم أثر في النفقة لمصلحة الجهاد، كما شارك عدد كبير منهم في الجهاد ومنهم من استشهد - رحمهم الله.