وقفات مع قصة كعب بن مالك رضي الله

0 1608

زكى الله تعالى الصادقين في توبتهم، ودعا المؤمنين إلى أن يكونوا معهم، قال تعالى: { يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين}(التوبة: 119)، وسجل لنا التاريخ في صفحاته أروع المواقف، ظهرت فيها معاني الصدق بكل تجلياتها، والإخلاص في أبهى صوره، وهو ما تمثل في قصة الثلاثة الذين تخلفوا عن غزوة تبوك، ثم تاب الله عليهم، وكانت هذه الغزوة تعرف بغزوة العسرة، لأن الصحابة ـ رضوان الله عليهم ـ كانوا يعيشون في ذلك الوقت في أشد الظروف وأصعبها.

بقيت قصة هؤلاء الثلاثة منارة شامخة عبر العصور، وأصبحت توبتهم رمزا خلدها القرآن الكريم، وستبقى آياتها تتلى إلى يوم الدين، قال تعالى: { وعلى الثلاثة الذين خلفوا حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه ثم تاب عليهم ليتوبوا إن الله هو التواب الرحيم }(التوبة: 118).

أحداث هذه القصة يرويها أحد الثلاثة الذين تخلفوا، أخرجها الإمام مسلم في صحيحه، ضمن حديث طويل - يصعب الوقوف عليه في هذا المقام ـ من حديث كعب بن مالك، وهو أدرى الناس بها، ومما جاء فيها، أنه قال: ( لم أتخلف عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في غزوة غزاها قط إلا في غزوة تبوك، غير أني قد تخلفت في غزوة بدر ولم يعاتب أحدا تخلف عنه) فهو بهذا يقرر ـ رضي الله عنه ـ أنه لم يتخلف إلا عن غزوة بدر وعن هذه الغزوة، ويقول: ( ولقد شهدت مع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ليلة العقبة حين تواثقنا على الإسلام، وما أحب أن لي بها مشهد بدر، وإن كانت بدر أذكر في الناس منها ) وهذا يعني أنه ـ رضي الله عنه ـ كان من الذين بايعوا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في بيعة العقبة، وأنه كان يفتخر بموقفه ذلك، ويرى أنه لا يقل عن شهوده لغزوة بدر .

يبدأ الصحابي الجليل كعب ـ رضي الله عنـه ـ في بيان تفاصيل هذه القصة، ويعترف بأنه لا عذر له في تخلفه، لأنه كان يملك الزاد والراحلة، فيقول: ( وكان من خبري حين تخلفت عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في غزوة تبوك أني لم أكن قط أقوى ولا أيسر مني حين تخلفت عنه في تلك الغزوة، والله ما جمعت قبلها راحلتين قط، حتى جمعتهما في تلك الغزوة ). 

ويتحدث عن الشدة التي كان يعاني منها الصحابة الكرام في زمن تلك الغزوة، فيقول: ( فغزاها رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في حر شديد، واستقبل سفرا بعيدا ومفازا، واستقبل عدوا كثيرا ) ..

ويستمر في ذكر أحداث القصة حتى يصل إلى موعد اللقاء مع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بعد عودته منتصرا من تبوك، ويتحدث عن اعتذار غيره من المتخلفين عن أسباب تخلفهم، وكيف كانوا يأتون بالحجج التي تجعل رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقبل منهم أعذارهم، بينما هو لم يعتذر كما اعتذر غيره، رغم أنه كان قادرا على صنع ذلك، قال: ( فجئت أمشي حتى جلست بين يديه، فقال لي: ما خلفك؟ ألم تكن قد ابتعت ظهرك؟ قال: قلت: يا رسول الله إني والله لو جلست عند غيرك من أهل الدنيا لرأيت أني سأخرج من سخطه بعذر، ولقد أعطيت جدلا، ولكني والله لقد علمت لئن حدثتك اليوم حديث كذب ترضى به عني ليوشكن الله أن يسخطك علي، ولئن حدثتك حديث صدق تجد علي فيه إني لأرجو فيه عقبى الله، والله ما كان لي عذر، والله ما كنت قط أقوى ولا أيسر مني حين تخلفت عنك ) .

هكذا كان يتكلم ـ رضي الله عنه ـ بكل قوة وجرأة، لم يعتذر كما اعتذر غيره، ولم ينافق كما نافق الآخرون، إنما صدع بالحق، وجاء على ذكر الحقيقة كما هي، فجاء تصديق ذلك من رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ حيث قال: ( أما هذا فقد صدق، فقم حتى يقضي الله فيك ) .

وهنا تبدأ أول مراحل الابتلاء، تمثل ذلك في نصائح المحبين له من أقاربه وأصحابه، قال: ( وثار رجال من بني سلمة فاتبعوني فقالوا لي: والله ما علمناك أذنبت ذنبا قبل هذا، لقد عجزت في أن لا تكون اعتذرت إلى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بما اعتذر به إليه المخلفون، فقد كان كافيك ذنبك استغفار رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لك )، نعم طلبوا منه أن يفعل كما فعل غيره، وحجتهم في ذلك أن استغفار رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يكفيه، فكان من شدة إلحاحهم عليه أنه فكر في التراجع، قال: ( فوالله ما زالوا يؤنبونني حتى أردت أن أرجع إلى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فأكذب نفسي ) ولكن الله ثبت قلبه، وزاد من ثباته أنه تذكر أمرا في غاية الأهمية، قال: ( ثم قلت لهم: هل لقي هذا معي من أحد؟ قالوا: نعم، لقيه معك رجلان، قالا مثل ما قلت، فقيل لهما مثل ما قيل لك ) .. نعم إن وطأة هذا الأمر وشدته تقل مع وجود أقران مشاركين له فيه، فإن كان مثل هذا الأمر الذي حصل معه قد حصل مع غيره فهذا يخفف عنه، خاصة إذا كان هؤلاء من المعروفين بصدقهم وصلاحهم، قال: ( قلت: من هما،؟ قالوا: مرارة بن ربيعة العامري، وهلال بن أمية الواقفي )، فلما عرفهما وتبين له صلاحهما وصدقهما اطمأنت نفسه، وقلل هذا من شدة ألمه، حيث قال:  (فذكروا لي رجلين صالحين قد شهدا بدرا، فيهما أسوة، قال: فمضيت حين ذكروهما لي ..).

ثم كان الابتلاء الثاني المقاطعة، مقاطعة المجتمع له بكل فئاته، حيث نهى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ كافة المسلمين عن التعامل معهم، وكان ذلك شديدا عليهم، وصف ذلك بقوله: ( حتى تنكرت لي في نفسي الأرض، فما هي بالأرض التي أعرف )، واستمرت المقاطعة بكل ثقلها وآلامها خمسين يوما، ذاق فيها كعب وأصحابه من المصاعب ما ذواقوا، عبر عن بعض ذلك فقال: ( فكنت أخرج فأشهد الصلاة وأطوف في الأسواق، ولا يكلمني أحد، وآتي رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فأسلم عليه وهو في مجلسه بعد الصلاة فأقول في نفسي: هل حرك شفتيه برد السلام أم لا؟، ثم أصلي قريبا منه وأسارقه النظر، فإذا أقبلت على صلاتي نظر إلي، وإذا التفت نحوه أعرض عني ).

وهكذا تستمر القصة بلياليها الطويلة، اضطروا فيها إلى ضرورة الانعزال عن الناس، لأنه أخف عليهم، قال: ( حتى إذا طال ذلك علي من جفوة المسلمين مشيت حتى تسورت جدار حائط أبي قتادة، وهو ابن عمي، وأحب الناس إلي، فسلمت عليه، فوالله ما رد علي السلام ) .

ويزداد الألم حتى أصبح كعب يشك في نفسه، فيبحث عن إجابات يدحض بها هذا الشك عن نفسه عند أعز الناس عليه - ابن عمه أبي قتادة - ولكن أحدا من المسلمين لا يمكنه أن يخالف أمر رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ، قال: ( فقلت له: يا أبا قتادة أنشدك بالله هل تعلمن أني أحب الله رسوله؟، قال: فسكت، فعدت فناشدته فسكت، فعدت فناشدته فقال: الله ورسوله أعلم، ففاضت عيناي وتوليت حتى تسورت الجدار ) .

وبعد هذه المقابلة الصعبة، وعقب هذا اللقاء القاسي المرير مع أبي قتادة، جاءه الابتلاء الثالث، الذي عبر عنه بقوله: ( وبينما أنا أمشي في سوق المدينة إذا نبطي من نبط أهل الشام ممن قدم بالطعام يبيعه بالمدينة يقول: من يدل على كعب بن مالك، قال: فطفق الناس يشيرون له إلي حتى جاءني فدفع إلي كتابا من ملك غسان، وكنت كاتبا فقرأته فإذا فيه: أما بعد، فإنه قد بلغنا أن صاحبك قد جفاك، ولم يجعلك الله بدار هوان، ولا مضيعة، فالحق بنا نواسك ) .

نعم لقد استغل ملك غسان هذه الظروف التي يمر فيها كعب، لأنه يعلم أبعاد مثل هذا الطلب، ويعلم ما يعنيه استمالة قلبه في هذه الحالة، فكعب له مكانته في المجتمع، إذ معروفا بشعره ومكانته، ويعلم كذلك أثر ذلك في شق صف المسلمين ولذلك كان ملك غسان شديد الحرص على ذلك .

لو حصل مثل الأمر في زماننا لعده الكثيرون مخرجا وفرجا له، واعتبروه نصرا يخرجهم من الضيق والألم إلى أوسع أبواب العزة، ولكن هذا يحصل عند غير المؤمن، الذي يعلم علم اليقين أن الدنيا بكل ما فيها لا تعدل عند الله جناح بعوضه، وأن أي حل يأتي في غير طاعة الله تعالى ورضوانه، إنما هو الخسران بعينه، والخيبة بكل معانيها، فكان هذا الكتاب بالنسبة إلى كعب بمثابة الابتلاء، حيث قال: ( فقلت حين قرأتها: وهذه أيضا من البلاء فتياممت بها التنور فسجرتها بها ).
نعم، حرق كعب بن مالك ذلك الكتاب ولم يندم، حرقه وهو يعلم أنه من ملك غسان نفسه، وهو ما يعني في زماننا الجنسية أو اللجوء السياسي، حرق الكتاب في التنور وهو يعلم أن فيه سبب نجاة لو أراد، حرقه وهو يعلم أن فيه ما ينسيه الألم الذي هو فيه، ولكن كعبا لم يكن يسأل عن دنيا يصيبها، أو عن مكانة يتطلع إليها في هذه الدنيا الفانية ..

نعم ..! لا غرابة في هذا، فالمؤمن حين يخالط الإيمان بشاشة قلبه يسمو هدفه، وتشمخ نفسه، وتصبح عنده الدنيا بكل ما فيها مجرد أوهام لا يمكنها أن تجذب قلبه أو تحرفه عن حب الله تعالى أو حب رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ .

ثم يأتي بعد ذلك الفرج، يأتي بعد التأكد من ثباتهم على العهد، وبعد مقاومتهم وصبرهم على كل أنواع الابتلاءات التي تعرضوا لها، قال كعب: (فكمل لنا خمسون ليلة من حين نهي عن كلامنا قال: ثم صليت صلاة الفجر صباح خمسين ليلة على ظهر بيت من بيوتنا، فبينا أنا جالس على الحال التي ذكر الله ـ عز وجل ـ منا، قد ضاقت علي نفسي وضاقت علي الأرض بما رحبت سمعت صوت صارخ أوفى على سلع يقول بأعلى صوته: يا كعب بن مالك أبشر ).

رضي الله عنك وعن أصحابك يا كعب، لقد ضربتم بثباتكم وصمودكم أروع النماذج على صدق الإيمان، وعلى صحة اليقين وحسن التوكل على الله، فكانت تجربتكم من أروع التجارب، وصمودكم من أعظم أنماط الصمود، فقال معبرا عن فرحته بتوبة الله عليه: ( فخررت ساجدا وعرفت أن قد جاء فرج )، قال: ( فآذن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ الناس بتوبة الله علينا حين صلى صلاة الفجر، فذهب الناس يبشروننا فذهب قبل صاحبي مبشرون، وركض رجل إلي فرسا وسعى ساع من أسلم قبلي وأوفى الجبل، فكان الصوت أسرع من الفرس، فلما جاءني الذي سمعت صوته يبشرني فنزعت له ثوبي فكسوتهما إياه ببشارته، والله ما أملك غيرهما يومئذ، واستعرت ثوبين فلبستهما، فانطلقت أتأمم رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يتلقاني الناس فوجا فوجا، يهنئونني بالتوبة، ويقولون: لتهنئك توبة الله عليك حتى دخلت المسجد .. )  انتهى نص الحديث .

وبعد أن وقفنا على بعض أحداث هذه القصة، نأخذ بعض العبر والأحكام المستفادة والتي ذكرها العلماء، وهي كثيرة جدا، منها: 

الأولى: جواز إخبار الرجل عن تفريطه وتقصيره في طاعة الله ورسوله، فقد أعطى كعب خلاصة هذه التجربة ينصح بها نصيحة للمسلمين ليتأسوا بذلك فيهجروا المعاصي ويتركوا الذنوب، فالعاقل من اعتبر بغيره .

الثانية: جواز إخبار الرجل عن جوانب الخير في نفسه إن لم يكن فخرا أو كبرا، والتحدث بنعمة الله تعالى التي من بها عليه، فالله تعالى يقول: { وأما بنعمة ربك فحدث }(الضحى: 11)، وكما نعلم فإن كانت تزكية النفس منهيا عنها، ولكنها تجوز في بعض المواطن، كالرجل يريد أن يلفت النظر إلى نعم الله عليه، كما في قصة يوسف: { قال اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم }(يوسف: 55) .

الثالثة: جواز تعزير المتخلف عن الجهاد مع ولي أمر المسلمين حتى يشعر بألم المخالفة، وينبغي لولي الأمر أن يذكره ويعنفه ويوبخه، ليأخذ بيده إلى الله تعالى، لأن إهمال المسلمين المقصرين وعدم السؤال عنهم يفسدهم ويعرضهم للزلل والزيغ، ولذلك ذكر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كعبا وقال: ( ما فعل كعب؟ ) .

الرابعة: فضل بيعة العقبة، حتى إن كعبا كان لا يراها دون مشهد بدر .

الخامسة: التحذير من النفاق والمنافقين، ولذلك كان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ من عادته إذا أراد غزوة ورى بغيرها، فالحذر مطلوب، وكان يعمي على الأعداء كما حدث في هجرته ـ صلى الله عليه وسلم ـ .

السادسة: الندم على ما فات من التقصير لتداركه، ولذلك قال كعب: ( فهممت أن أرتحل فأدركهم فيا ليتني فعلت  .

السابعة: أن المتخلف عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إما منافق، أو من أهل الأعذار، أو ممن خلفه رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لمصلحة.
الثامنة: الذب عن عرض المسلمين، كما رد معاذ ـ رضي الله عنه ـ على من طعن في كعب ـ رضي الله عنه ـ بقوله: (حبسه برداه والنظر في عطفيه)، فقال له معاذ: ( بئس ما قلت، والله يا رسول الله، ما علمنا عليه إلا خيرا ) .

التاسعة: الستر على صاحب الخطأ رجاء إصلاحه وعدم فضح أمره، ولذلك كان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول في نصيحته: ( ما بال أقوام يفعلون كذا وكذا )، ولا يصرح بأسمائهم رجاء إصلاحهم وتجنبا لفضح أمرهم .

العاشرة: عظم أمر المعصية وقبحها، عبر عنها بقوله: { ضاقت عليهم الأرض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم }(التوبة: 118)، فكيف بمن يواقع الفواحش والكبائر؟! .

الحادية عشرة: أن القوي في الدين يؤاخذ بأشد مما يؤاخذ به الضعيف .

الثانية عشرة: إجراء الأحكام على الظاهر وترك السرائر إلى الله تعالى، فمع أنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان يعلم كذب المنافقين إلا أنه قبل منهم ووكل سرائرهم إلى الله، ولم نؤمر أن نشق عن صدور الناس .

وإتماما للفائدة في هذا الحديث نقف على بعض الفوائد التي ذكرها الإمام النووي في شرحه على صحيح مسلم حيث يقول: " واعلم أن في حديث كعب هذا فوائد كثيرة: إحداها: إباحة الغنيمة لهذه الأمة لقوله: ( خرجوا يريدون عير قريش ) . الثانية: فضيلة أهل بدر وأهل العقبة . الثالثة: جواز الحلف من غير استحلاف في غير الدعوى عند القاضي . الرابعة: أنه ينبغي لأمير الجيش إذا أراد غزوة أن يوري بغيرها، لئلا يسبقه الجواسيس ونحوهم بالتحذير إلا إذا كانت سفرة بعيدة، فيستحب أن يعرفهم البعد ليتأهبوا. الخامسة: التأسف على ما فات من الخير وتمني المتأسف أنه كان فعله لقوله: ( فياليتنى فعلت ). السادسة: رد غيبة المسلم لقول معاذ: ( بئس ما قلت ) . السابعة: فضيلة الصدق وملازمته، وان كان فيه مشقة، فإن عاقبته خير، ( وإن الصدق يهدي إلى البر والبر يهدي إلى الجنة ) كما ثبت في الصحيح .الثامنة: استحباب صلاة القادم من سفر ركعتين في مسجد محلته أول قدومه قبل كل شيء .التاسعة: أنه يستحب للقادم من سفر إذا كان مشهورا يقصده الناس لسلام عليه أن يقعد لهم في مجلس بارز هين الوصول إليه . العاشرة: الحكم بالظاهر، والله يتولى السرائر، وقبول معاذير المنافقين ونحوهم ما لم يترتب على ذلك مفسدة . الحادية عشر: استحباب هجران أهل البدع والمعاصي الظاهرة وترك السلام عليهم ومقاطعتهم تحقيرا لهم وزجرا .الثانية عشر: استحباب بكائه على نفسه إذا وقعت منه معصية .الثالثة عشر: أن مسارقة النظر في الصلاة والالتفات لا يبطلها .الرابعة عشر: أن السلام يسمى كلاما، وكذلك رد السلام، وأن من حلف ( لا يكلم إنسانا ) فسلم عليه، أو رد عليه السلام؛ يحنث .الخامسة عشر: وجوب إيثار طاعة الله ورسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ على مودة الصديق والقريب وغيرهما، كما فعل أبو قتادة حين سلم عليه كعب فلم يرد عليه حين نهى عن كلامه. السادسة عشر: أنه إذا حلف (لا يكلم إنسانا) فتكلم ولم يقصد كلامه، بل قصد غيره، فسمع المحلوف عليه لم يحنث الحالف، لقوله: (الله أعلم) فإنه محمول على أنه لم يقصد كلامه.السابعة عشر: جواز إحراق ورقة فيها ذكر الله تعالى لمصلحة، كما فعل عثمان والصحابة رضي الله عنهم بالمصاحف التي هي غير مصحفه، الذي أجمعت الصحابة عليه، وكان ذلك صيانة فهي حاجة، وموضع الدلالة من حديث كعب أنه أحرق الورقة، وفيها (لم يجعلك الله بدار هوان). الثامنة عشر: إخفاء ما يخاف من إظهاره مفسدة وإتلاف .التاسعة عشر: أن قوله لامرأته: (إلحقي بأهلك) ليس بصريح طلاق ولا يقع به شيء إذا لم ينو . العشرون: جواز خدمة المرأة زوجها برضاها، وذلك جائز له بالإجماع، فأما إلزامها بذلك فلا . الحادية والعشرون: استحباب الكنايات في ألفاظ الاستمتاع بالنساء ونحوها. الثانية والعشرون: الورع والاحتياط بمجانبة ما يخاف منه الوقوع في منهي عنه، لأنه لم يستأذن في خدمة امرأته له وعلل بأنه شاب أي: لا يأمن مواقعتها، وقد نهى عنها.الثالثة والعشرون: استحباب سجود الشكر عند تجدد نعمة ظاهرة، أو اندفاع بلية ظاهرة، وهو مذهب الشافعي وطائفة، وقال أبو حنيفة وطائفة: لا يشرع .الرابعة والعشرون: استحباب التبشير بالخير .الخامسة والعشرون: استحباب تهنئة من رزقه الله خيرا ظاهرا، أو صرف عنه شرا ظاهرا.السادسة والعشرون: استحباب إكرام المبشر بخلعة أو نحوها. السابعة والعشرون: أنه يجوز تخصيص اليمين بالنية، فإذا حلف (لا مال له) ونوى نوعا، لم يحنث بنوع من المال غيره، وإذا حلف (لا يأكل) ونوى خبزا، لم يحنث باللحم والتمر وسائر المأكول، ولا يحنث إلا بذلك النوع، وكذلك لو حلف (لا يكلم زيدا) ونوى كلاما مخصوصا لم يحنث بتكليمه إياه غير ذلك الكلام المخصوص، وهذا كله متفق عليه عند أصحابنا، ودليله من هذا الحديث قوله في الثوبين: ( والله ما أملك غيرهما )، ثم قال بعده في ساعة: ( إن من توبتي أن أنخلع من مالي صدقة )، ثم قال: (فإني أمسك سهمي الذي بخيبر) .الثامنة والعشرون: جواز العارية . التاسعة والعشرون: جواز استعارة الثياب للبس . الثلاثون: استحباب اجتماع الناس عند إمامهم وكبيرهم في الأمور المهمة من بشارة ومشورة وغيرهما .الحادية والثلاثون: استحباب القيام للوارد إكراما له إذا كان من أهل الفضل بأي نوع كان، وقد جاءت به أحاديث جمعتها في جزء مستقل بالترخيص فيه، والجواب عما يظن به مخالفا لذلك. الثانية والثلاثون: استحباب المصافحة عند التلاقي، وهى سنة بلا خلاف .الثالثة والثلاثون: استحباب سرور الإمام وكبير القوم بما يسر أصحابه وأتباعه . الرابعة والثلاثون: أنه يستحب لمن حصلت له نعمة ظاهرة، أو اندفعت عنه كربة ظاهرة أن يتصدق بشيء صالح من ماله شكرا لله تعالى على إحسانه، وقد ذكر أصحابنا أنه يستحب له سجود الشكر والصدقة جميعا، وقد اجتمعا في هذا الحديث .الخامسة والثلاثون: أنه يستحب لمن خاف أن لا يصبر على الإضاقة أن لا يتصدق بجميع ماله بل ذلك مكروه له . السادسة والثلاثون: أنه يستحب لمن رأى من يريد أن يتصدق بكل ماله، ويخاف عليه أن لا يصير على الإضاقة أن ينهاه عن ذلك ويشير عليه ببعضه .السابعة والثلاثون: أنه يستحب لمن تاب بسبب من الخير أن يحافظ على ذلك السبب فهو أبلغ في تعظيم حرمات الله كما فعل كعب في الصدق .

وأخيرا هذا ما أمكنني الوقوف عليه في هذا المقام من حديث كعب الطويل، والعبر فيه أكثر من ذلك، وفيه الكثير من الحكم يمكن أن نستفيد منها في زماننا هذا، ويدل هذا الحديث على مدى الترابط بين أعضاء ذلك المجتمع الفريد، الذي كان فيه أفراده جميعا على أمر رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ، وأن أوامره ـ صلى الله عليه وسلم ـ كانت تجري عليهم جميعا، وكيف أنهم كانوا فاعلين في مجتمعهم، تجمعهم المحبة، ويضمهم الرضا والقبول بتعاليم رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ، وأن تخلف صحابي واحد منهم عن أمر الجماعة يعني الكثير، وأول ما تعني: انعزاله عن بؤرة هذا المجتمع، واستحقاقه للمقاطعة التي توصله إلى أشد حالات المرارة والصعوبة .. وهناك الكثير والكثير من الحكم والعبر في هذا الحديث، وهي أكثر من أن تحصى، ولكن المقام لا يتسع، ومالا يدرك كله لا يترك جله، هذا والله تعالى أعلم .

 د. عبدالله عطا عمر

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة