أجود الناس ـ صلى الله عليه وسلم ـ

0 1135

لم يكن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يرد سائلا أو محتاجا، وما عرف التاريخ عطاء وجودا، وكرما وإيثارا، أحسن من كرمه وعطائه ـ صلى الله عليه وسلم ـ، إذ كان يعطي عطاء من لا يخشى الفقر، ولا يرد سائلا، فهو المثل الأعلى والقدوة الحسنة في العطاء والجود والإيثار، فعن أنس بن مالك ـ رضي الله عنه ـ قال: ( كان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أحسن الناس، وأجود الناس، وأشجع الناس ) رواه البخاري، وروى البيهقي عن علي ـ رضي الله عنه ـ قال: ( كان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أجود الناس كفا، وأصدقهم لهجة، وألينهم عريكة وأكرمهم عشرة، من رآه بديهة هابه ومن خالطه معرفة أحبه يقول ناعته: لم أر قبله ولا بعده مثله ـ صلى الله عليه وسلم ـ )، وعن عبد الله بن عباس ـ رضي الله عنه ـ قال: ( كان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أجود الناس بالخير ) رواه البخاري .
وتبين لنا أم المؤمنين خديجة ـ رضي الله عنها ـ اتصافه وتحليه ـ صلى الله عليه وسلم ـ بهذه الخصلة قبل بعثته بقولها: ( إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف ) رواه البخاري، وكلها صفات تحمل في طياتها معاني الكرم والجود، والعطاء والإيثار .

والسيرة النبوية مليئة بالأمثلة الدالة على كرمه وعطائه، بل وإيثاره ـ صلى الله عليه وسلم ـ ومنها :

عن أنس بن مالك ـ رضي الله عنه ـ : ( أتي النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بمال من البحرين، فقال : انثروه في المسجد، وكان أكثر مال أتي به رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ، فخرج رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى الصلاة ولم يلتفت إليه، فلما قضى الصلاة جاء فجلس إليه، فما كان يرى أحدا إلا أعطاه .. وما قام رسول الله صلى الله عليه وسلم وثم منها درهم ) رواه البخاري .
وعن جبير بن مطعم ـ رضي الله عنه ـ قال: ( أنه بينما يسير مع النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ مقفله (رجوعه) من حنين، فعلقه (تبعه) الأعراب يسألونه، حتى اضطروه إلى سمرة (شجرة)، فخطفت رداءه، فوقف النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال: أعطوني ردائي، فلو كان لي عدد هذه العضاه (شجر له شوك) نعما، لقسمته بينكم، ثم لا تجدوني بخيلا ولا كذابا ولا جبانا ) رواه البخاري .
قال ابن حجر: " في هذه الأحاديث وفي معناها: ذم الخصال السيئة، وهي البخل والكذب والجبن، وأن إمام المسلمين لا يصلح أن يكون فيه خصلة منها، وفيه ما كان في النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ من الحلم وحسن الخلق وسعة الجود، والصبر على جفاة الأعراب " .
وعن أبي سعيد الخدري ـ رضي الله عنه ـ: ( أن ناسا من الأنصار سألوا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فأعطاهم، ثم سألوه فأعطاهم، حتى إذا نفد ما عنده قال: ما يكون عندي من خير فلن أدخره عنكم، ومن يستعفف يعفه الله ـ عز وجل ـ، ومن يصبر يصبره الله، وما أعطى أحد عطاء هو خير وأوسع من الصبر ) رواه النسائي .

لقد بلغ النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ مرتبة الكمال الإنساني في العطاء والإيثار، إذ كان يعطي عطاء من لا يحسب حسابا للفقر ولا يخشاه، ثقة بعظيم فضل الله ـ عز وجل ـ، فعن أنس ـ رضي الله عنه ـ قال: ( ما سئل رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ على الإسلام شيئا إلا أعطاه، قال: فجاءه رجل فأعطاه غنما بين جبلين، فرجع إلى قومه فقال: ياقوم أسلموا، فإن محمدا يعطي عطاء لايخشى الفاقة (الفقر) ) رواه مسلم .
وعن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ: قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: ( لو كان لي مثل أحد ذهبا ما يسرني أن لا يمر علي ثلاث، وعندي منه شيء إلا شيء أرصده لدين ) رواه البخاري .
وعن جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - قال: (ما سئل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن شيء قط فقال: لا ) رواه البخاري .

            ما قال لا قط إلا في تشهده       لولا التشهد كانت لاؤه نعم

وربما علم النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بحاجة أحد من أصحابه، أو أحس به وعرف ذلك في وجهه، فيوصل إليه العطاء بطريقة لا تجرح مشاعره، ولا توقعه في الحرج، كما فعل مع جابر بن عبد الله ـ رضي الله عنه ـ حينما كانا عائدين من غزوة ذات الرقاع، فقد علم ـ صلى الله عليه وسلم ـ بزواج جابر ـ رضي الله عنه ـ وحاجته إلى المال، فعرض عليه أن يشتري منه بعيره بأربعة دنانير، ولما قدم المدينة أمر ـ صلى الله عليه وسلم ـ بلالا ـ رضي الله عنه ـ أن يعيد الدنانير إلى جابر ـ رضي الله عنه ـ ويزيده، وأن يرد عليه بعيره .

وقد تعدى عطاؤه وكرمه ـ صلى الله عليه وسلم ـ حتى وصل إلى الإيثار، ومن ذلك أنه لما رأى ـ صلى الله عليه وسلم ـ في وجه أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ الجوع، تبسم ودعاه إلى إناء فيه لبن، ثم أمره أن يشرب منه، فشرب حتى ارتوى، وظل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ رغم جوعه هو أيضا يعيد له الإناء ليشرب منه، حتى قال أبو هريرة ـ رضي الله عنه ـ: ( والذي بعثك بالحق ما أجد له مسلكا، فقال ـ صلى الله عليه وسلم ـ: فأرني الإناء فأعطيته الإناء فشرب البقية، وحمد ربه ـ صلى الله عليه وسلم ـ ) رواه البخاري .
وعن سهل بن سعد ـ رضي الله عنه ـ قال: ( جاءت امرأة إلى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ببردة، فقال: سهل للقوم أتدرون ما البردة؟، فقال القوم: هي الشملة، فقال سهل: هي شملة منسوجة فيها حاشيتها، فقالت: يا رسول الله أكسوك هذه؟، فأخذها النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ محتاجا إليها فلبسها، فرآها عليه رجل من الصحابة فقال: يا رسول الله ما أحسن هذه فاكسنيها، فقال: نعم، فلما قام النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لامه أصحابه، قالوا: ما أحسنت حين رأيت النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أخذها محتاجا إليها ثم سألته إياها !!، وقد عرفت أنه لا يسأل شيئا فيمنعه، فقال: رجوت بركتها حين لبسها النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لعلي أكفن فيها ) رواه البخاري، وفي رواية أخرى قال الصحابي: ( والله إني ما سألته لألبسها، إنما سألته لتكون كفني، قال سهل: فكانت كفنه ) .
وفي هذا الموقف النبوي الكريم مع سهل بن سعد ـ رضي الله عنه ـ فوائد كثيرة، منها :

ـ زهده ـ صلى الله عليه وسلم ـ مع ما فتح الله ـ عز وجل ـ عليه من بلاد، ومع ما كان يأتيه من غنائم وأموال كثيرة منها، حتى إنه يحتاج إلى بردة، تهديها له امرأة، تكون له إزارا، حتى يقول سهل بن سعد ـ رضي الله عنه ـ واصفا حاله ـ صلى الله عليه وسلم: ( فأخذها النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ محتاجا إليها )، ومما يوضح شدة احتياجه إليها، قول سهل بن سعد:( فخرج إلينا وإنها إزاره )، أي أنه لبسها في نفس المجلس .
ـ عطاؤه ـ صلى الله عليه وسلم ـ الذي لا يرد فيه سائلا، وإيثاره لأصحابه على نفسه، وأن تلك كانت عادته وأخلاقه، لقول الأعرابي: ( وقد عرفت أنه لا يسأل شيئا فيمنعه )، وفي رواية أخرى: ( ثم سألته وعلمت أنه لا يرد )، أي أن عدم رد السائل كان مسلكه وطبعه وخلقه دائما ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ، حتى أنه قد خلعها للسائل بعد أن لبسها، رغم حاجته إليها .
ـ تعظيم الصحابة لكل ما لامس جسد النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ، حيث إن السائل رغم حسن البردة وجمالها، ما طلبها ليلبسها، بل طلبها ليكفن بها، فقال: ( رجوت بركتها حين لبسها النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لعلي أكفن فيها )، وعند البخاري: ( قال سهل: فكانت كفنه ) .. ولولا علم الصحابة بجواز ذلك لأنكروا عليه، ولو أنهم كانوا يجهلون المسألة أصلا، لسألوا عنها النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ، وقد ثبتت بركة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بأدلة كثيرة قطعية اتفق عليها المسلمون سلفا وخلفا، وقد رأى الصحابة ـ رضوان الله عليهم ـ هذه البركة بأعينهم، فكانوا يقتتلون على وضوئه، ويأخذوا من ريقه وعرقه، ويمسحوا أبدانهم بيده، ويحرصوا على ملامسته، وكل ذلك بمرأى منه وإقرار ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ .
ـ جواز التصرف في الهدية بإهداء أو بيع أو هبة، أو غير ذلك من التصرفات الجائزة شرعا، وذلك أن الرجل بمجرد قبوله للهدية فقد امتلكها، ولا يشترط في تصرفه فيها الرجوع إلى من أهداها إليه، وعلى المهدي ألا يجد في نفسه حرجا من تصرف المهدى إليه إن أهداها لأحد، ويتفرع عليه خطأ القول الشائع: الهدية لا تهدى، فإن الهدية إذا أهديت لشخص وتم قبولها جاز له التصرف فيها تصرف المالك في ملكه بالصدقة والهدية والبيع، وهذا القول: " الهدية لا تهدى " إن كان منسوبا للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فهو غير صحيح، ومخالف لفعله وفعل أصحابه ـ رضوان الله عليهم ـ، فقد كانت الهدايا تأتيه ـ صلى الله عليه وسلم ـ فيقبلها ويحتفظ بما شاء منها ويهدي ما شاء، لكن لو علم المهدى إليه هدية أنه إن أهدى هذه الهدية لغيره سيحزن من أهداها إليه ـ ولم تكن هناك حاجة لبيعها أو إهدائها ـ فالأفضل في هذه الحالة أن لا يفعل مراعاة لشعور المهدي، وحفاظا على الروابط الاجتماعية التي جاءت قواعد الشريعة وآدابها العامة بها .

لقد ربى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أصحابه ـ بقوله وفعله ـ على العطاء والإيثار، وقدم لهم القدوة الحسنة في ذلك، فكان في عطاءاته الفعلية، مطـبــقا للصورة القولية التي قالها، وما العطاء والكرم والإيثار إلا جزء يسير من صفاته الطيبة التي اتصف بها، وأخلاقه العظيمة التي تخلق بها، ولا أبلغ مما وصفه الله ـ عز وجل ـ في القرآن الكريم بقوله: { وإنك لعلى خلق عظيم }(القلم الآية: 4 ) .
 

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة