- اسم الكاتب:إسلام ويب ( أ. د عبدالسلام مقبل المجيدي )
- التصنيف:في ظلال آية
عندما صرحت المرأة التي يوسف -عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام- في بيتها برغبتها الآثمة، وسعارها المحموم، اعتصم يوسف -عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام- بالله تعالى، ولجأ إلى التصريح والإعلان أمامها وأمام العالم، وأصدر كلاما مكونا من ثلاث جمل، بل قل أصدر ثلاث بيانات مدوية، ينوب كل واحد منها عن كتاب، ويفترض أن يكون مادة دراسية في مناهج الفكر والأخلاق للشباب.
فالبيان الأول قال فيه: {معاذ الله} [يوسف:23]، وكان ركنا عظيما، وحصنا شديدا، وجد فيه المعاذ والملاذ والحماية والأمن.
والبيان الثاني قال فيه: {إنه ربي أحسن مثواي} [يوسف:23] فكأنه يقول لها: كيف تريدينني أن أعصي الله تعالى، وهو {ربي} الذي أحسن إلي، فصرف عني كيد الكائدين من إخوتي، ثم نقلني من ظلمات الجب وتيه الخوف والحزن والظلمات إلى عز الرعاية ودفء الحماية والنعم السابغات؟ وكيف تريدين مني أن أخون (ربي) أي سيدي الذي رباني في كنفه، وأحسن مثواي، وائتمنني على عرضه، وبيته، وغيبته؟
والبيان الثالث قال فيه: {إنه لا يفلح الظالمون} [يوسف:23] والظلم وضع الشيء في غير موضعه، ومن أعظم الظلم وضع النعمة العظيمة كالقوة التي أودعها الله الإنسان في مكان حرمه الرحمن، ومن أعظم الظلم خيانة الأمانة، وغش الديانة، فأي فلاح يمكن أن يحققه المرء بظلمه، وأي نجاح أو إنجاز يمكن أن يجده الظالم في حياته؟
وهذه البيانات الثلاثة مؤكدة تأكيدا عظيما بمؤكدات لفظية مثل (إن) التي تزيد التوكيد رسوخا، والاستعصام قوة. كما أن ترتيب البيانات الثلاثة العظام، والإعلانات الفخيمة الجسام جاء في غاية الحسن، فقوله: {معاذ الله} إشارة إلى أن حق الله تعالى يمنع من هذا العمل، ولا يمتنع الجسد الإنساني إلا بمعاذ الله العظيم، وركنه الشديد القويم. وكما أن ملجأ الله وحصنه هو الذي يرعاه الإنسان، ويرعى الإنسان تقديما لحق الله، فإن حقوق الخلق واجبة الرعاية والحماية والصيانة، فيقتح مقابلة إنعام سيد البيت المربي وإحسانه بالإساءة {إنه ربي أحسن مثواي}، وهذه اللذة لذة قليلة يتبعها خزي في الدنيا، وعذاب شديد في الآخرة، واللذة القليلة إذا لزمها ضرر شديد، فالعقل يقتضي تركها، وإلا حل الخسار مكان الفلاح، وجاء البوار مكان الفوز والنجاح، وأعظم الخاسرين هم الظالمون {إنه لا يفلح الظالمون}.
ضراوة الرغبة الآثمة تعمي البصر والبصيرة
ها هنا يصور القرآن الكريم "المشهد العاصف الخطير المثير كما يرسمه التعبير":
جمعت بيانات الجواب اليوسفي على العرض المشين المجرم من امرأة العزيز من الاعتصام والاعتزاز بالإيمان بالله، والأمانة للسيد صاحب الدار، والتعريض بخيانة امرأته له المتضمن لاحتقارها، ما أضرم في صدرها نار الغيظ والانتقام، مضاعفة لنار الغرام. وعلى الرغم من هذه البيانات الثلاثة وقوتها إلا أن ذلك لم يكسر من نزوتها، ولم يقلل من حدة شهوتها، شأن العشق الذي يغلق عقل صاحبه، وسبب ذلك أنها أطلقت لنفسها العنان خلف خطرات الشيطان في البداية، ولذا كانت حماية الإسلام للفروج والأعراض تبدأ من (غض البصر)، والتحفظ اللائق في اللباس والمدخل والمخرج والمنظر في قول ذي القوى والقدر: {قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم ذلك أزكى لهم إن الله خبير بما يصنعون * وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها} [النور: 30-31]، وإذا اتبع المرء خطوات الشيطان، انتقل من ناظر متفكه بالمنظر والعيان إلى عاشق تغشاه سكرة الهذيان، فيصعب عليه إلا أن يفكر بشيء واحد فقط، هو قضاء شهوته، وإكمال رغبته، وإفناء طاقته، ولذا حرر ابن القيم المسألة في "روضة المحبين ونزهة المشتاقين" وبين أن مبادىء العشق وأسبابه اختيارية، إلا أن نهاياته أشبه بالاضطرارية؛ لشدة سطوتها على النفس، كما قيل:
تولــع بـالعشــق حتى عشــق فلمـا اســـتقل بـه لـم يـطـــق
رأى لجــــــة ظنــها موجـــة فلمـــــا تمــــكن منـها غــرق
تمنى الإقــــــالـــة مــــن ذنبه فلــم يستطعــها ولـم يستطــق
وفي بيان عظمة البيانات اليوسفية أمام كل الشهوات المالية والجسدية والعقلية، يصور ابن الجوزي ذلك الجمال، الذي كسا كلام الكبير المتعال في قصة يوسف -عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام- كما في "صيد الخاطر": "نازعتني نفسي إلى أمر مكروه في الشرع، وجعلت تنصب لي التأويلات، وتدفع الكراهة، وكانت تأويلاتها فاسدة، والحجة ظاهرة على الكراهة، فلجأت إلى الله تعالى في دفع ذلك عن قلبي، وأقبلت على قراءة القرآن، وكان درسي قد بلغ سورة يوسف، فاتحتها، وذلك الخاطر قد شغل قلبي، حتى لا أدري ما أقرأ. فلما بلغت إلى قوله تعالى: {قال معاذ الله إنه ربي أحسن مثواي} [يوسف:23] انتبهت لها، وكأني خوطبت بها، فأفقت من تلك السكرة، فقلت: يا نفس! أفهمت؟ هذا حر بيع ظلما، فراعي حق من أحسن إليه، وسماه مالكا، وإن لم يكن له عليه ملك، فقال: {إنه ربي}، ثم زاد في بيان موجب كف كفه عما يؤذيه، فقال: {أحسن مثواي}. فكيف بك، وأنت عبد على الحقيقة لمولى ما زال يحسن إليك من ساعة وجودك، وإن ستره عليك الزلل أكثر من عدد الحصى؟! (أيتها النفس) أفما تذكرين كيف رباك، وعلمك، ورزقك، ودافع عنك، وساق الخير إليك، وهداك أقوم طريق، ونجاك من كل كيد، وضم إلى حسن الصورة الظاهرة جودة الذهن الباطن، وسهل لك مدارك العلوم، حتى نلت في قصير الزمان رزقك بلا كلفة تكلف؟!
فوالله، ما أدري أي نعمة عليك أشرح لك، حسن الصورة، وصحة الآلات؟ أم سلامة المزاج، واعتدال التركيب؟ أم لطف الطبع الخالي عن خساسة؟ أم إلهام الرشاد منذ الصغر؟ أم الحفظ بحسن الوقاية عن الفواحش والزلل؟ أم تحبيب طريق النقل، واتباع الأثر، من غير جمود على تقليد لمعظم، ولا انخراط في سلك مبتدع؟ {وإن تعدوا نعمت الله لا تحصوها} [ابراهيم:34]. كم كائد نصب لك المكائد، فوقاك؟ كم عدو حط منك بالذم، فرقاك؟ كم أعطش من شراب الأماني خلقا، وسقاك؟ كم أمات من لم يبلغ بعض مرادك، وأبقاك؟ فأنت تصبحين وتمسين سليمة البدن، محروسة الدين، في تزيد من العلم، وبلوغ الأمل. فإن منعت مرادا، فرزقت الصبر عنه بعد أن تبين لك وجه الحكمة في المنع، فسلمي حتى يقع اليقين بأن المنع أصلح. ولو ذهبت أعد من هذه النعم ما سنح ذكره، امتلأت الصحف، ولم تنقطع الكتابة، وأنت تعلمين أن ما لم أذكره أكثر، وأن ما أومأت إلى ذكره لم يشرح، فكيف يحسن بك التعرض لما يكرهه؟! {معاذ الله إنه ربي أحسن مثواي إنه لا يفلح الظالمون} [يوسف:23]".