- اسم الكاتب:إسلام ويب
- التصنيف:الإيمان بالله
العبادات في جوهرها تجمع بين غاية الحب والذل والتوحيد، وبين إثبات صفات الكمال لله سبحانه وتعالى والإخلاص له، مصداقا لقول الحق تبارك وتعالى: {وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء} (البينة: 5)، ومن بين تلك العبادات التي يصدق عليها ذلك: عبادة التوسل؛ فإنك ترى باعثها محبة الله، وتنطوي في ألفاظها على الحب لله تعالى والاستشفاع بكماله، والتوحيد لذاته.
وإذا كانت حقيقة التوسل: الإتيان بالسبب الموصل إلى المطلوب، واتخاذ الوسيلة التي توصل العبد إلى مقصوده ومراده، فإن الإتيان بالتوسل على الوجه الصحيح يقتضي أن يكون منضبطا بضوابط الشرع كغيره من العبادات، وآيات القرآن الكريم بمختلف أساليبها ومضامينها، وسنة المصطفى –صلى الله عليه وسلم- قد اشتركا في رسم الأوجه الصحيحة التي يكون بها التوسل موافقا للشرع، وبالتالي يكون أرجى للقبول وأدعى للإجابة.
ولكل إنسان مسألته من الله تعالى، يرجو أن يجاب طلبه فيها، فمن الأهمية بمكان أن نتعلم كيف نحقق عبادة التوسل على أكمل وجه وأتم صورة، عسى أن يقبل منا الدعاء والرجاء، ويتحقق لنا المقصود.
ويمكن القول: إن أنواع التوسل الصحيح ستة، نتناولها فيما يلي:
التوسل بأسماء الله تعالى
لله سبحانه وتعالى أسماء هي الغاية في الحسن والجمال، وهي تليق بجلاله وعظمته، وليست مجرد أسماء لا ارتباط بينها وبين من تسمى بها، كما هو الحال في أسماء المخلوقات. ومن حسنها أنه أمر العباد أن يدعوه بها لأنها وسيلة مقربة إليه، ودالة عليه، قال تعالى: {ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها} (الأعراف:180).
والظاهر من استقراء النصوص الشرعية أن التوسل بأسماء الله سبحانه وتعالى يكون على وجهين:
الأول: التوسل بأسمائه سبحانه على سبيل العموم؛ فإذا أراد الداعي الدعاء فإنه يتوسل بأسمائه تعالى دون تحديد واحد منها، وشاهد ذلك ما جاء في حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، في دعاء النبي صلى الله عليه وسلم الشهير بدعاء الهم والغم، حيث قال: (أسألك اللهم بكل اسم هو لك سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحدا من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك أن تجعل القرآن ربيع قلبي، ونور صدري، وجلاء حزني، وذهاب همي) رواه أحمد، فألفاظ الدعاء هنا لم تحدد اسما له سبحانه معينا، وإنما كان توسلا عاما غير مخصص، ولا شك أن هذا التوسل من أعظم أنواع التوسل، ليس لتعلقه بالأسماء الحسنى فحسب، ولكن عمومه يشمل جميع الأسماء التي نعرفها أو نجهلها، كما قال ابن القيم: "فجعل أسماءه ثلاثة أقسام: قسم سمى به نفسه، فأظهره لمن شاء من ملائكته أو غيرهم، ولم ينزل به كتابه، وقسم أنزل به كتابه، وتعرف به إلى عباده، وقسم استأثر به في علم غيبه، فلم يطلع عليه أحدا من خلقه". ولعظم هذا النوع من التوسل كان حقيقا على من أتى به تحقق مراده، ولننظر إلى خاتمة الحديث السابق: (إلا أذهب الله همه وحزنه، وأبدله مكانه فرحا) بل دعا النبي عليه الصلاة والسلام إلى تعلم التوسل المذكور على نحو يدل على أهميته، فقال: (ينبغى لمن سمعهن أن يتعلمهن).
الثاني: أن يتخير الداعي من أسماء الله تعالى ما يتناسب مع مراده فيتوسل به، وهذا الاتساق والمناسبة أدعى لإجابة الدعاء، فمن كان يشكو قلة المال وضيق الحال ناسب أن يتوسل باسم "الرزاق" و"الغني"، ومن أذنب وأسرف على نفسه بالمعاصي كان الأجدى به أن يتوسل بأسماء: "الرحمن، والرحيم، والتواب، والعفو الغفور"، ولننظر إلى الدعاء النبوي التالي: (اللهم إني ظلمت نفسي ظلما كثيرا، ولا يغفر الذنوب إلا أنت، فاغفر لي مغفرة من عندك، وارحمني، إنك أنت الغفور الرحيم) متفق عليه، فالشاهد هنا هو اختيار اسمي: "الغفور الرحيم" للوصول إلى غفران الذنوب وتكفير السيئات.
وعلاوة على دلالة الشرع، فإن ذلك من مقتضى العقل؛ لأن من يريد حاجة ممن هو فوقه، ذكر له من الألفاظ التي تتناسب مع مطلوبه، وكذلك ينبغي للمتوسل بالله تعالى أن يتخير الاسم المناسب لمطلوبه.
التوسل إلى الله تعالى بصفاته
وهذا القسم مثل سابقه، فإن التوسل بصفات الله كالتوسل بأسمائه، لتساويهما في الفضل والمكانة، ومن صفات الله أفعاله سبحانه وتعالى، فإن الأفعال صفات كما يقرر علماء التوحيد.
وكما قيل في الأسماء، فإن التوسل بالصفات على وجهين:
الأول: أن يكون توسلا عاما بالصفات، كقول القائل: "اللهم إني أسألك بأسمائك الحسنى وصفاتك العليا"، أو قوله: "يا من اتصف بجميل الصفات، وتكلل بعظيم السجايا والنعوت.." فهذا كله توسل مجمل بالصفات دون تعيين لها.
الثاني: أن يكون توسلا خاصا بالصفات، وذلك بتحديد صفات إلهية أو أفعال ربانية، تناسب مطلوب العبد ومسألته من خالقه ومولاه، كقول القائل: أسألك بجاهك العظيم، وبعلمك الذي أحاط بكل شيء، أو: برحمتك وإحسانك، أو: بجبروتك وعزتك، ثم يذكر مطلوبه الذي يتناسب مع معاني هذه الصفات، فإن ذلك يكون أرجى في الإجابة.
ومن أدلة ذلك وأمثلته، دعاء إبراهيم عليه السلام وقوله: {الذي خلقني فهو يهدين * والذي يطعمني ويسقين * وإذا مرضت فهو يشفين * والذي يميتني ثم يحيين * والذي أطمع أن يغفر لي خطيئتي يوم الدين * رب هب لي حكما وألحقني بالصالحين * واجعل لي لسان صدق في الأخرين * واجعلني من ورثة جنة النعيم} (الشعراء:78-85) الآيات.
ومن دعاء النبي صلى الله عليه وسلم قوله: (اللهم فالق الحب والنوى، ومنزل التوراة والإنجيل والفرقان، أعوذ بك من شر كل شيء أنت آخذ بناصيته، اللهم أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء، وأنت الباطن فليس دونك شيء، اقض عنا الدين، وأغننا من الفقر) رواه مسلم.
ومن جميل المناسبة بين الصفات المذكورة، والمطلب المراد من الله، قوله صلى الله عليه وسلم: (اللهم بعلمك الغيب، وقدرتك على الخلق، أحيني ما علمت الحياة خيرا لي، وتوفني إذا كانت الوفاة خيرا لي) رواه أحمد والنسائي، فكان التوسل بصفة العلم وسيلة إلى طلب اختيار الله تعالى وتحديد عمره، وكان التوسل بصفة الخلق مرتبطا بالإحياء والإماتة.
ومن التوسل بأفعال الله، الأبيات المشهورة المنسوبة لابن القاسم السهيلي، حيث قال:
يـا من يرى ما في الضمـير ويسمع أنت المعد لكل ما يتوقع
يـا من يرجى للشدائد كلها يا من اليه المشتكى و المفزع
يـا من خزائن رزقه في قول كن امنن فان الخير عندك أجمع
التوسل بالعمل الصالح
من التوسل المشروع: التوسل إلى الله بالعمل الصالح؛ فإن الأعمال الصالحة التي أمر بها الرسول صلى الله عليه وسلم هي الوسيلة التامة إلى سعادة الدنيا والآخرة، وتحقيق المراد وإجابة المطلوب، فيتخير العبد من الأعمال ما يرى فيها تحقق الإخلاص لوجهه تعالى، وما يرى تقيدها بالهدي النبوي، بعيدة عن الأعمال المبتدعة المخترعة.
وتشتمل سنة النبي صلى الله عليه وسلم على هذا النوع من التوسل، ومن أمثلة ذلك، دعاؤه عليه الصلاة والسلام في استفتاح صلاة الليل: (اللهم عليك توكلت، وإليك أنبت، وبك خاصمت، وإليك حاكمت، فاغفر لي ما قدمت وما أخرت، وما أسررت وما أعلنت) متفق عليه.
أما أشهر الأدلة المروية في هذا النوع من التوسل، فهو حديث الثلاثة الذين أطبق عليهم الغار، وهم أصحاب الرقيم المذكورون في قوله سبحانه: {أم حسبت أن أصحاب الكهف والرقيم كانوا من آياتنا عجبا} (الكهف:9)، فقد توسل ثلاثتهم بأعمال صالحة قاموا بها، ورأوا في أنفسهم خلوصها من شوائب الرياء، فجعلوها ذخرا لهم ووسيلة لتحقق مطلوبهم من انفراج الصخرة التي سدت عليهم باب الغار، فتوسل الأول بعظيم بره بوالديه. والثاني بعفافه عن مقاربة الفواحش رغم تيسر الوقوع فيها، وتهيؤ الظروف المعينة على ملابستها. والثالث توسل بوفائه لأجيره، وإعطائه كامل مستحقاته رغم ضخامة المبلغ، فانفرجت عنهم الصخرة بعد ذلك، والحديث طويل السياق مذكور بتمامه في "الصحيحين".
التوسل بالإيمان
من التوسل المشروع، أن يتوسل العبد بإيمانه بالله ورسوله، وهذا توسل داخل في العموم السابق، فإن إيمان العبد هو من أعماله الصالحة، إلا أنه أفرد هنا لأهميته، ولكونه أفضل ما يتوسل به من الأعمال الصالحة، والأدلة فيها كثيرة، منها قول الله تعالى: {ربنا إننا سمعنا مناديا ينادي للإيمان أن آمنوا بربكم فآمنا ربنا فاغفر لنا ذنوبنا وكفر عنا سيئاتنا وتوفنا مع الأبرار} (آل عمران:193)، وقوله سبحانه:{ربنا آمنا بما أنزلت واتبعنا الرسول فاكتبنا مع الشاهدين} (آل عمران:53)، وقول الحق سبحانه: {الذين يقولون ربنا إننا آمنا فاغفر لنا ذنوبنا وقنا عذاب النار} (آل عمران:16) فإنهم قدموا ذكر الإيمان قبل الدعاء.
التوسل بحال الداعي
بيان ضعف السائل وذله وافتقاره إلى مولاه، هو من أنواع التوسل المشروع، وهو دال على حسن الأدب في السؤال والدعاء، فإن قول القائل لمن يعظمه ويرغب إليه: أنا جائع، أنا مريض، أولى من تصريحه بمطلوبه وقوله: أطعمني، داوني؛ لأن وصف الحال تستجلب الرحمة واللطف والإحسان، ونحن نرى حدوث ذلك في عالم الناس، إذ يكفي بيان سوء الحال والمعيشة حتى يدفع الآخرين إلى تقديم العون، وبذل المساعدة، وقد قال أمية بن أبي الصلت يمدح ابن جدعان:
أأذكر حاجتي أم قد كفاني حباؤك إن شيمتك الحياء
إذا أثنى عليك المرء يوما كفاه من تعرضه الثناء
فإذا كان ذلك في مخلوق يخاطب مخلوقا مثله، فكيف بالخالق تعالى؟
ولذلك نرى من حسن آداب الدعاء التي تعلمناها من الأنبياء والمرسلين، شكايتهم لربهم ما يمر بهم من الضيق والكربات، فهذا نبي الله أيوب عليه السلام يدعو قائلا: {أني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين} (الأنبياء:83) فوصف نفسه ووصف ربه بوصف يتضمن سؤال رحمته بكشف ضره، فجاء السؤال بصيغة خبرية؛ تأدبا معه سبحانه، كما يقول شيخ الإسلام ابن تيمية، ومن أمثلة ذلك قول موسى عليه السلام {رب إني لما أنزلت إلي من خير فقير} (القصص:24)، وقول زكريا عليه السلام: {رب إني وهن العظم مني واشتعل الرأس شيبا ولم أكن بدعائك رب شقيا * وإني خفت الموالي من ورائي وكانت امرأتي عاقرا فهب لي من لدنك وليا * يرثني ويرث من آل يعقوب واجعله رب رضيا} (مريم:4-6) ولا شك أن ذلك يعد من حسن الأدب في السؤال.
التوسل بدعاء الرجل الصالح
من أنواع التوسل المشروع: التوسل إلى الله تعالى بدعاء الرجل الصالح الذي ترجى إجابته، فهذا مما دل عليه الشرع وبين جوازه، من ذلك حديث أنس بن مالك رضي الله عنه أن رجلا دخل يوم الجمعة والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب، فقال: يا رسول الله هلكت الأموال، وانقطعت السبل، فادع الله يغيثنا، فرفع النبي عليه الصلاة والسلام يديه وقال: (اللهم أغثنا). يقول أنس: فما وضع يديه حتى ثار السحاب أمثال الجبال، فلم ينزل عن منبره حتى رأيت ماء السماء يتحادر على لحيته. وبقي الغيث أسبوعا كاملا، وفي الجمعة الأخرى جاء الأعرابي فقال: يا رسول الله! غرق المال، وتهدم البناء، فادع الله أن يمسكها عنا، فرفع النبي عليه الصلاة والسلام يديه وقال: (اللهم حوالينا ولا علينا) فما يشير إلى ناحية من السماء إلا انفرجت، حتى خرج الناس يمشون في الشمس. متفق عليه.
وقد كان الصحابة رضي الله عنهم يطلبون من بعضهم الدعاء، فقد روى مسلم عن صفوان بن عبد الله رضي الله عنه قال: "قدمت الشام، فأتيت أبا الدرداء في منزله فلم أجده، ووجدت أم الدرداء –وكانت أم زوجته- فقالت: أتريد الحج العام؟ فقلت: نعم، قالت: فادع الله لنا بخير؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: (دعوة المرء المسلم لأخيه بظهر الغيب مستجابة، عند رأسه ملك كلما دعا لأخيه بخير قال الملك الموكل به: آمين ولك بمثل) رواه مسلم، قال: فخرجت إلى السوق، فلقيت أبا الدرداء، فقال لي مثل ذلك، يرويه عن النبي -صلى الله عليه وسلم-.
وعلى الرغم من جواز هذا النوع من الدعاء والتوسل، إلا أن الخشية أن يكون أكثر توسل الإنسان من هذا النوع، في حين أن بقية الطرق المذكورة قبلها أولى وأفضل؛ لارتباطها بعمل المرء نفسه، وإذا كان الصحابة قد توسلوا بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم في حياته، وبدعاء العباس رضي الله عنه من بعده، فإن توسلهم بالله وأسمائه وصفاته وأفعاله، وبحالهم وضعفهم أكثر من ذلك بكثير، حيث يحقق القرب والارتباط المباشر بالخالق واستشعار معيته، فيفوز بكل مرغوب، وينجو من كل مرهوب.