الجمعة السوداء!!

0 1773

قد يبدو هذا العنوان غريبا بعض الشيء عندما يطرق أسماعنا، خصوصا وأن المسلم في أدبياته الدينية ينظر إلى هذا اليوم بقداسة واحترام صادر من المزايا الكثيرة التي تعلقت به، وعلى الرغم من ذلك، فهذا المصطلح "الجمعة السوداء" Black Friday هو مصطلح متداول على ألسنة الملايين من البشر في وقتنا المعاصر، وله ارتباطات اقتصادية وجذور سياسية ودينية، لا تخفى على الباحثين في تاريخ هذا المصطلح، فما المقصود منه؟ ومتى تم تداوله؟ ومن أين نشأ وصف "السواد"؟ وهل يستحق يوم كهذا أن يوصف بذلك؟.

منشأ التسمية

للإجابة على الأسئلة التالية، علينا أن نعود إلى قبل نحو قرن من الزمن، ولنتجه صوب الأمريكتين، لنجد أن القرن التاسع عشر هو الذي شهد ولادة هذا المصطلح، تزامنا مع الأزمة المالية بسوق نيويورك للأوراق المالية عام 1896 وتداعيتها الكارثية على الاقتصاد، وتسببها في حالات الإفلاس، وتراكم الديون وغيرها من الآثار التي امتلأت بها الكتب التي رصدت تلك الحقبة الزمنية.

وفي مثل هذا النوع من الأزمات، وخاصة في الأنظمة الرأسمالية، عادة ما تتأثر المشاريع الصغرى، وتنسحق تحت وطأة الأزمة، وتتهاوى بسرعة أكبر مما هي عليه بالنسبة لغيرها، وكان ممن تأثر في تلك الأزمة: تجار التجزئة، فإن الطلب على بضائعهم قل بشكل ملحوظ بسبب الأزمة التي عصفت بالمنطقة، وكان الحل الذي شكل إنقاذا لهم اختيار يوم من الأيام يقومون فيه بعمل تخفيضات هائلة في سبيل تعويض الخسائر التي أصابتهم جراء الأزمة، وهو يوم الجمعة في السابع والعشرين من نوفمبر.

علاقة التسمية بعيد الشكر

وقد ارتبط اختيار هذا اليوم بعيد آخر يسمى عند أهل تلك البلاد: بعيد الشكر Thanksgiving، والذي يعود إلى القرن السابع عشر، عندما بدأت هجرة الأوروبيين إلى القارة الأمريكية هروبا من اضطهاد الكنيسة الإنجليزية لهم، وكانت هجرة مليئة بالصعاب والمخاطر، ابتلع فيها البحر كثيرا من قوارب المهاجرين المتهالكة، فكان العيد شكرا لله على نجاة بعضهم، وقدرتهم على العيش في هذه البيئة الجديدة، فكانت "الجمعة السوداء" تأتي بعد عيد الشكر تماما.

ومع مرور الزمن، أصبح هذا اليوم من كل عام حدثا اقتصاديا مهما له مظاهره وطقوسه وترتيباته الخاصة الناجمة عن الاختناقات المرورية الخاصة بالأفواج البشرية التي تترقب هذا اليوم لتقتنص مشترياتها بقيمة مخفضة، ناهيك عن الطوابير الطويلة والأرصفة المزدحمة، والتجمهر حول المخازن والمحال التجارية الشهيرة انتظارا للحظة الافتتاح، فبذلك كان هذا اليوم مهما للمشتري: حيث يجد مراده من البضائع المخفضة، وللبائع: فيجري عددا هائلا من المبيعات ذلك اليوم، وللشرطة: ضمانا لسلامة المشترين، وفضا للاشتباكات الحاصلة بين جموع المنتظرين، ومراقبة لأمن الطرق، وتنظيما للسير.

أسباب هذه التسمية

أما تسمية هذه الجمعة بالسوداء، فيرجعه الباحثون إلى أحد سببين:

الأول: النظر إلى تزامنه مع الأزمة المالية الخانقة التي أشرنا إليها، وما سببته من إعادة تشكيل الخارطة الاقتصادية العالمية، وبالنظر كذلك إلى جانب "التنازل" الذي يقوم به أصحاب المحال التجارية، والذي قد يصل إلى (70%) من قيمة البضاعة أو ربما أكثر!، ونتيجة لصعوبة ممارسة العمل بشكل طبيعي بالنسبة لسائقي الحافلات وسائقي سيارات الأجرة، وهم أكثر من يتمسكون بهذا المصطلح، وبالنسبة لرجال المرور في محاولة للسيطرة على الحشود الغفيرة. وإلى هذا الرأي يميل أكثر الباحثين.

الثاني: أن تسجيل الممارسات المالية والمحاسبية تقتضي استخدام نوعين من الحبر لتقييم الممارسات التجارية، فكان اللون الأسود يشير إلى الممارسات الإيجابية وإلى الأرباح، واللون الأحمر إلى الخسائر المالية، وهو بهذا الاعتبار ذي منظور إيجابي.

وقد جرت محاولات عديدة لإعادة تسمية يوم "الجمعة الأسود" بأسماء أخر، توحي بمعان أفضل، إلا أنها لم يكتب لها النجاح، واستمر الناس في استخدام هذا المصطلح، وأنشئت مواقع الكترونية، واستحدثت تطبيقات حاسوبية تحمل هذا الاسم.

موقف الشرع من هذه التسمية

لنا مع هذه القضية عدة وقفات:

الأولى: نحن معاشر المسلمين، ننظر إلى يوم الجمعة بأنه يوم ذي دلالة خاصة مليئة بالتفاؤل، فقد فضل الله هذا اليوم على ما سواه من بقية الأيام، كما قال-صلى الله عليه وسلم-: (أضل الله عن الجمعة من كان قبلنا، فكان لليهود يوم السبت، وكان للنصارى يوم الأحد، فجاء الله بنا، فهدانا الله ليوم الجمعة) رواه مسلم، وفي حديث آخر: (إن من أفضل أيامكم يوم الجمعة، فيه خلق آدم، وفيه النفخة، وفيه الصعقة، فأكثروا علي من الصلاة فيه، فإن صلاتكم معروضة علي) رواه أبو داود وابن ماجه، وقال عليه الصلاة والسلام: (خير يوم طلعت عليه الشمس يوم الجمعة، فيه خلق آدم، وفيه أدخل الجنة، وفيه أخرج منها) رواه مسلم.

ونعتقد بأن من مات في هذا اليوم أو ليلته وقاه الله فتنة القبر، مصداقا لقوله عليه الصلاة والسلام: (ما من مسلم يموت يوم الجمعة أو ليلة الجمعة إلا وقاه الله فتنة القبر) رواه الترمذي، وأفضل صلاة يصليها المسلم طيلة أسبوعه، هي صلاة فجر يوم الجمعة، كما قال عليه الصلاة والسلام: (إن أفضل الصلوات عند الله صلاة الصبح يوم الجمعة في جماعة) رواه البيهقي في شعب الإيمان.

ثانيا: ديننا يحرم التشاؤم بكل أنواعه جملة وتفصيلا؛ لما تضمنه من توقع لحصول الشر وحلول المصائب بأنواعها، وذلك يتنافى مع ما تنادي به قيم التفاؤل من إحسان الظن بالله عز وجل ورجاء الخير منه، وغفلة عن مغفرة الخالق ورحمته، وعفوه وجوده، وإرادته النافذة ومشيئته العامة المرتبطة بصفات العدل وتمام الملك، والرحمة والإحسان، وقدرته التامة، وعلمه المحيط، والحكمة البالغة في كل ما أعطى وما أخذ، وما منح وما سلب، وقد ذم الله أقواما فقال: {فإذا جاءتهم الحسنة قالوا لنا هذه وإن تصبهم سيئة يطيروا بموسى ومن معه ألا إنما طائرهم عند الله ولكن أكثرهم لا يعلمون} (الأعراف:131)، وجاء تحريم التشاؤم في الكثير من الأحاديث الصحيحة الصريحة، منها حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله -صلى الله وعليه وسلم- قال: (الطيرة شرك) قالها ثلاثا. رواه أصحاب السنن إلا النسائي، وحديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي -صلى الله وعليه وسلم- قال: (لا عدوى، ولا طيرة) متفق عليه.

ثالثا: إذا لم تكن جذور هذه التسمية من باب التشاؤم -كما مر معنا في رأي بعض الباحثين-، فإن إبقاء تسمية موهمة مثل هذه، وتداولها أمر لا ينبغي؛ إذ قد تفتح بابا من أبواب التشاؤم من حيث لا يدري الإنسان، وقد كان من منهج النبي -صلى الله عليه وسلم- الإعجاب بالأسماء الحسنة، وفي الحديث أنه صلى الله وعليه وسلم كان (يعجبه الفأل الحسن، ويكره الطيرة) رواه ابن ماجه. بل ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يغير الأسماء القبيحة، ويستبدلها بأخرى أجمل دلالة.

يقول الإمام ابن القيم: "وهذا الذي جعله الله سبحانه في طباع الناس وغرائزهم من الإعجاب بالأسماء الحسنة والألفاظ المحبوبة، وهو نظير ما جعل في غرائزهم من الإعجاب بالمناظر الأنيقة، والرياض المنورة، والمياه الصافية، والألوان الحسنة، والروائح الطيبة، والمطاعم المستلذة، وذلك أمر لا يمكن دفعه، ولا يجد القلب عنه انصرافا، فهو ينفع المؤمن، ويسر نفسه وينشطها، ولا يضرها في إيمانها وتوحيدها".

وتغيير الأسماء القبيحة إلى أسماء حسنة باب واسع، نجد مظانه في الكتب التي عنيت بتراجم الصحابة رضي الله عنهم، ففيها العديد من الأسماء التي غيرها النبي -صلى الله عليه وسلم- وبدلها من أسماء قبيحة المعنى، أو رديئة المبنى، أو مخالفة للشرع ومقتضيات العقيدة، وغيرها من الأسماء المنفرة والمستهجنة، إلى أسماء حسنة الدلالة، جميلة الصياغة، تؤول إلى محاسن الفضائل، وجميل الشمائل، وكانت تلك سنة نبوية جارية، يدل عليها أن عائشة رضي الله عنها قالت: "كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يغير الاسم القبيح" أي إلى اسم حسن، رواه الترمذي.

أخيرا: فليس المقصود من هذا الموضوع تحريم أساليب التخفيض التجاري، أو ذمه طالما كان مضبوطا بضوابط المعاملات الشرعية، إنما المراد بيان جذور هذه التسمية، وموقفنا الرافض لها، ودعوتنا إلى استبدالها بما يعبر عن جماليتها وقيمتها الحقيقية عند الله تعالى.

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة