يا أكرم الأكرمين

0 1849

فإن أعظم ما تستعمل فيه الأوقات، وتنقضي فيه الأعمار والساعات، معرفة رب الأرض والسموات، ومدارسة أسمائه وصفاته، فهو طريق السنة، وسبيل الفوز بالرضا والجنة.. كما قال صلى الله عليه وسلم: [إن لله تعالى تسعة وتسعين اسما، مائة إلا واحدا، من أحصاها دخل الجنة]. وقال تعالى: {ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها وذروا الذين يلحدون في أسمائه}.
ونحن اليوم نعيش مع اسم من هذه الأسماء المباركة، وكل أسماء الله مباركة، ألا وهو اسم الله "الكريم".

"الكريم" في القرآن
ورد اسم الله "الكريم" في القرآن في ثلاثة مواضع:
قول سليمان عليه السلام: {ومن شكر فإنما يشكر لنفسه ومن كفر فإن ربي غني كريم}(النمل:40)
وفي سورة (الانفطار:6): {يأيها الإنسان ما غرك بربك الكريم. الذي خلقك فسواك فعدلك}
وفي سورة المؤمنون: {فتعالى الله الملك الحق لا إله إلا هو رب العرش الكريم}(المؤمنون:116) على قراءة من قرأ بالضم، وأما من قرأ بالكسر فيكون الكريم وصفا للعرش.
وأما اسم الأكرم فقد ورد مرة واحدة في قوله تعالى: {اقرأ وربك الأكرم}(العلق:3)
وفي آخر آية في سورة الرحمن قال سبحانه: {تبارك اسم ربك ذي الجلال والإكرام}(الرحمن: (

"الكريم" في الأحاديث:
ورد اسم الله " الكريم " في عديد من أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم.. منها على سبيل المثال قوله عليه الصلاة والسلام:
[إن الله كريم يحب الكرم ويحب معالي الأمور ويكره سفسافها](صححه الألباني)
وقوله: [إن ربكم تبارك وتعالى حيي كريم يستحيي من عبده إذا رفع يديه إليه أن يردهما صفرا] (رواه أبو داود والترمذي وحسنه ابن حجر)
وكان إذا دخل المسجد قال: [أعوذ بالله العظيم، وبوجهه الكريم، وسلطانه القديم من الشيطان الرجيم]
وقال: [ألظوا بيا ذا الجلال والإكرام](صحيح الترمذي).

معنى "الكريم":
أما معنى "الكريم": فالكريم من كل شيء أحسنه وأفضله.
ولفظ الكرم ليس معناه فقط مجرد العطاء والجود، وإن كان العطاء من بعض معانيه.. وإنما هو لفظ جامع لجميع المحاسن والمحامد ومعاني البر كلها، (فهو الكريم ذاتا وقدرا ومقاما، وهو الكريم جودا وعطاء وإحسانا، وهو الكريم عفوا وصفحا وغفرانا).
فالكريم: عظيم القدر رفيع الشأن.
والكريم: المنزه عن الآفات والنقائص.
والكريم: المكرم المنعم المتفضل.
والكريم: كثير العطاء، دائم الإحسان، واسع الكرم.. يعطي بلا سبب، ويهب بلا عوض.. لا تنفعه طاعات الطائعين، ولا تضره معصية العاصين.. [يا عبادي! إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني، يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئا، يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد ما نقص ذلك من ملكي شيئا](رواه مسلم عن أبي ذر).

والكريم الذي: إذا قدر عفى، وإذا وعد وفى، وإذا سئل أعطى وكفى، وزاد على منتهى الرجا.
والكريم: الذي لا يتبرم من إلحاح الملحين، ولا يعجز عن كثرة الطالبين، ولا تلتبس عليه أسئلة السائلين، بل بلغ من كرمه أنه دعاهم لسؤاله، وأمرهم بالتعرض لنواله، وطمعهم بالفوز بمرادهم فقال: {وإذا سألك عبادي عني فإني قريب}، وقال: {ادعوني أستجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين}   ، فإذا تركوه وسألوا غيره غضب عليهم:
الله يغضب إن تركت سؤاله... وبني آدم حين يسأل يغضب.

والكريم: الذي أظهر الجميل، وستر القبيح، وبدأ بالنعم قبل استحقاقها. لا يضيع من أقبل عليه، ولا يترك من التجا إليه، لا خير إلا خيره ولا إله غيره.. عم الجميع بعطائه وسخائه ، وبكرمه أمهل المكذب له واستمرت عليه نعمته، ووسع على العاصي ولو شاء لأذهب كل ما في جعبته

من مظاهر كرمه:
1ـ شمول العطاء:
للطائع والعاصي، والبر والفاجر، والمؤمن والكافر.. يرزق الإنس والجن، والحيوان والطير {قل من يرزقكم من السموات والأرض قل الله}، {وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها}
وهو الجواد فجوده عم الوجود جميعه بالفضل والإحسان
وهو الجواد فلا يخيب سائلا... ولو أنه من أمة الكفران
 وهو المغيث لكل مخلوقاته... وكذا يجيب إغاثة اللهفان

2 ـ دوام العطاء: من بداية الخلق إلى مالا نهاية، مع سعة جوده، فلا ينقص عطاؤه، ولا ينقضي نواله، ولا يقل إحسانه، ولا تفنى خزائنه، ولا تعجزه مسألة، ولا يذهب شيء ما في يديه، لا يخص بصغير الحوائج دون كبيرها، وإنما يسأله العبد كل شيء، سواء عنده الصغير والكبير والعسير واليسير "ليسأل العبد ربه كل شيء في صلاته" قال: حتى "شسع نعله" ــــ إلى الفردوس الأعلى. وفي صحيح البخاري [يمين الله ملأى لا يغيضها نفقة، سحاء الليل والنهار، أرأيتم ما أنفق منذ خلق السماوات والأرض، فإنه لم ينقص ما في يمينه]، وفي حديث القدسي [يا عبادي ! لو أن أولكم وآخركم . وإنسكم وجنكم . قاموا في صعيد واحد فسألوني . فأعطيت كل إنسان مسألته . ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر}.

3 ـ ستره على العاصين وهم بعينه، وحلمه على المذنبين وهم تحت سمعه وبصره، يستخفون من الناس ولا يستخفون منه وهو معهم، ومع هذا يخفي ذنوبهم، ويستر عيوبهم، ويتغافل عما فعلوا، ولو شاء لدكدك الأرض من تحتهم، أو أتى بنيانهم من القواعد فخر عليهم السقف من فوقهم، أو سلط عليهم بعض جنوده فأتاهم العذاب من حيث لا يشعرون.. ولكنه سبحانه ستر عن الخلق فضائحهم، وزاد كرما فنشر بين العالمين محاسنهم.. كما قيل لبعضهم كيف أصبحت؟ قال: أصبحت بين نعمتين لا أدري أيتهما أشكر: ذنوب سترها الله فلا يستطيع أحد أن يعيرني، ومودة قذفها الله في قلوب العباد لا يبلغها عملي.
وفي بعض الآثار الإلهية: [من أعظم مني جودا وكرما، وأنا الجواد الكريم؟ عبيدي يبيتون يبارزونني بالعظائم، وأنا أكلؤهم في مضاجعهم، وأحرسهم على فرشهم، من أقبل إلي تلقيته من بعيد، ومن ترك لأجلي أعطيته فوق المزيد، ومن تصرف بحولي وقوتي ألنت له الحديد، ومن أراد مرادي أردت ما يريد، أهل ذكري أهل مجالستي، وأهل شكري أهل زيادتي، وأهل طاعتي أهل كرامتي، وأهل معصيتي لا أقنطهم من رحمتي، إن تابوا إلي فأنا حبيبهم، وإن لم يتوبوا فأنا طبيبهم، أبتليهم بالمصائب، لأطهرهم من المعايب](رواه أحمد وهو ضعيف).

4 ـ مضاعفة الحسنات دون السيئات: فالحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف أو يزيد، والسيئة بمثلها أو يغفر.. {من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها وهم لا يظلمون}... {من جاء بالحسنة فله خير منها ومن جاء بالسيئة فلا يجزى الذين عملوا السيئات إلا ما كانوا يعملون}. وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال صلى الله عليه وسلم: [لا يتصدق أحد بتمرة من كسب طيب. إلا أخذها الله بيمينه. فيربيها كما يربي أحدكم فلوه أو قلوصه. حتى تكون مثل الجبل، أو أعظم]، قال تعالى: {وما آتيتم من ربا ليربو في أموال الناس فلا يربو عند الله &1750; وما آتيتم من زكاة تريدون وجه الله فأول&1648;ئك هم المضعفون}(الروم:39)

6 ـ قبوله لتوبة عبده مهما سبق منه من خطية، ومهما أعظم على الله الفرية، ومهما اقترفت يداه من بلية، بل يفرح بتوبته وعودته وأوبته أكثر من فرح الواقع على راحلته بعد أن أضلها بأرض فلاة وعليها طاعمه وشرابه.. وهو القائل سبحانه: {قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم}. والقائل: {إلا من تاب وآمن وعمل عملا صالحا فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات وكان الله غفورا رحيما}. وفي الحديث القدسي يقول الله تبارك وتعالى: [يا ابن آدم إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي، يا ابن آدم! لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك ولا أبالي، يا ابن آدم! إنك لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئا لأتيتك بقرابها مغفرة](رواه الترمذي وصححه الألباني في صحيح الجامع).

7ـ ومن مظاهر كرمه أيضا: أن كل ما اتصل إليه بسبب نال من كرامته فأكرم بكرمه: فكلامه كريم {إنه لقرآن كريم}، ورسوله الملكي كريم {إنه لقول رسول كريم ذي قوة عند ذي العرش مكين}، ورسوله البشري كريم {إنه لقول رسول كريم وما هو بقول شاعر}، ورزقه كريم {لهم مغفرة ورزق كريم}، وأجره كريم، وعرشه كريم {رب العرش الكريم}. فمن أكرمه الله فهو الكريم، ومن أهانه فهو اللئيم المهين {ومن يهن الله فما له من مكرم إن الله يفعل ما يشاء}.

أثر الإيمان بهذا الاسم
إن من مظاهر اسم الله "الكريم" أنه سبحانه كرم الإنسان: خلقه سبحانه بيده، ونفخ فيه من روحه، وأسجد له ملائكته، وأحسن خلقه وصورته، وهب عينين، ولسانا وشفتين، وهداه النجدين، ومنحه العقل والنطق، وأكرمه بالنعم التي لا تحصى ولا تعد، وسخر له ما في السموات وما في الأرض، وعلمه ما لم يكن يعلم، وحمله أمانة التكليف وعمارة الكون، وأعطاه الحرية الكاملة.. فكان عليه أن يقوم بحق هذه الاسم الكريم..

وإن من حق هذا الاسم:
أن يقابل كرمه بالشكر والطاعة والتذلل له، وألا يكون ممن تنعم بنعم الله وعمى عن المنعم، وكمن غرق في أفضال الله وجحد ونسي المتفضل.. {إن الله لذو فضل على الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون}.

الحذر  من الاغترار بكرم المنان ، فيقابل إحسانه بالعصيان  ، فإن هذا من الخذلان، وقد حذرنا الله من هذا المسلك فقال: {يا أيها الإنسان ما غرك بربك الكريم}(الانفطار:6).

أن يكرم نفسه بالطاعة والتقوى: {إن أكرمكم عند الله أتقاكم}، ولا يهينها بالمعصية؛ قال الحسن في أهل المعاصي: "هانوا عليه فعصوه، ولو عزوا عليه لعصمهم".

أن يحسن الظن بربه الكريم: في أمر دنياه وأمر أخراه، فأما في الدنيا: فلا يخشى فقرا، ولا يلوم قدرا، ولا يذل لمخلوق.. وأما في أمر الآخرة: فيرجو من الله العفو، ويحسن فيه الرجاء.. وقد روي في أثر ضعيف: [أن أعرابيا قال يا رسول الله من يلي حساب الخلق؟ قال: الله تبارك وتعالى. قال: هو بنفسه؟ قال: نعم! فتبسم الأعرابي وقال: نجونا ورب الكعبة. فقيل له: ولم قلت هذا؟ قال: إن الكريم إذا قدر عفا](قال العراقي: لم أجد له أصلا، وقال: السبكي لم أجد له إسنادا).

أن يتحلى بوصف الكرم والسخاء، والجود والعطاء، وكرم الأخلاق وكرم النفس؛ فإن الله كريم يحب من كان كذلك من عباده، كما في الحديث الصحيح عن سعد بن أبي وقاص قال النبي عليه الصلاة والسلام: [إن الله كريم يحب الكرماء، جواد يحب الجودة، يحب معالي الأخلاق، ويكره سفسافها](صححه الألباني في صحيح الجامع)

ومن علامات الكرم: بذل الندى، وكف الأذى، وبشاشة الوجه، ولين القول، وسعة الصدر، وتعجيل المثوبة، وتأخير العقوبة.

أن يدعوه سبحانه بهذا الاسم، كما أمره ربه سبحانه بقوله: {ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها وذروا الذين يلحدون في أسمائه}، فيقول في دعائه مثلا: (  اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت يا ذا الجلال والإكرام ـــ اللهم إنك عفو كريم تحب العفو فاعف عنا.. وأشباه ذلك.

فاللهم أكرمنا بكرمك، واشملنا بواسع جودك، وأسبغ علينا جميل نعمك، واعف عنا فإنك عفو كريم.

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة