عندما تطيّر أعداء الرسل بالأنبياء

0 1861

(الطيرة شرك) قالها النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثا، كما في الحديث الذي رواه الترمذي وابن ماجه، في عبارة خرجت مخرج المبالغة والتغليظ لهذا الانحراف العقدي؛ إذ تعد خروجا عن إطار العقيدة السوية والفطرة النقية.

وهذا (التطير) الذي قد خرج من تحت عباءة التشاؤم، فيه التوقع لحصول الشر، وحلول المصائب بأنواعها، وذلك يتنافى مع ما تنادي به قيم التفاؤل من إحسان الظن بالله عز وجل، ورجاء الخير منه، وصدق التوكل عليه.

وما يهمنا في هذا السياق أن نبحث عن الجذور الأولية للتطير حتى نفهم منافاته لمقتضيات التوحيد الصحيح، وكيف تخلق به أعداء الملة. وتوثيق ذلك جاء في النصوص الشرعية، التي بينت لنا بوضوح تام أن الطيرة والتشاؤم كانت جذورهما في العصور السابقة والأمم الغابرة، وأن هذه الممارسات وتلك المعتقدات الدالة على الوهن الاعتقادي الحاصل فيهم، قد عمت وطمت، وشاعت بين الناس.

قوم صالح

ينبئنا القرآن الكريم عن قوم صالح، ويحكي حالهم مع نبيهم فيقول: {ولقد أرسلنا إلى ثمود أخاهم صالحا أن اعبدوا الله فإذا هم فريقان يختصمون* قال يا قوم لم تستعجلون بالسيئة قبل الحسنة لولا تستغفرون الله لعلكم ترحمون* قالوا اطيرنا بك وبمن معك قال طائركم عند الله بل أنتم قوم تفتنون} (النمل:45-47).

من المعروف أن الله تعالى قد أرسل نبيه صالحا عليه السلام إلى قومه داعيا إلى عبادة الخالق وحده، وترك الأنداد والأوثان، فإذا بهم يسوقون تسويغاتهم الساذجة وحججهم الباطلة في دفع دعوة الحق، وذكروا تطيرهم بدعوة صالح عليه السلام، زاعمين -قبحهم الله- أنهم لم يروا على وجه صالح خيرا، وأنه هو ومن معه من المؤمنين صاروا سببا لمنع بعض مطالبهم الدنيوية؛ إذ تتابعت عليهم الشدائد، فأرجعوا سببها إلى دعوته، وادعوا أنها كانت مؤثرة في وقوع الاختلاف وافتراق الكلمة، فنسبوا كل شقاء أصابهم إلى نبي الله وأصحابه.

فما كان من صالح عليه السلام إلا أن قال وبكل وضوح: {طائركم عند الله} فمرد السعة والضيق، والخصب والقحط، ليس إلى أحد من البشر، وإنما هو قضاء الله وقدره، إن شاء: رزقهم وعافاهم، وإن شاء: حرمهم وابتلاهم، وما أصابهم من مصيبة أو ابتلاء فبما كسبت أيديهم من الذنوب والمعاصي.

قوم موسى

سار فرعون وقومه السيرة ذاتها أمام دعوة موسى عليه السلام محاولة منهم للمغالطة ولبس الحق بالباطل، وإلى ذلك يشير القرآن فيقول:{ولقد أخذنا آل فرعون بالسنين ونقص من الثمرات لعلهم يذكرون* فإذا جاءتهم الحسنة قالوا لنا هذه وإن تصبهم سيئة يطيروا بموسى ومن معه ألا إنما طائرهم عند الله ولكن أكثرهم لا يعلمون } (الأعراف:131-132).

تعامل آل فرعون وحاشيته بازدواجية مقيتة، فكانوا إذا جاءهم ما يحبونه من العافية والرخاء، والغيث والخصب، وسعة الرزق وسلامة الأحوال، أرجعوا ذلك إلى أنفسهم، ولسان حالهم يقول: لنا هذه دون غيرنا، ونحن المستحقون لها دون العالمين. أما إذا كان الأمر على غير ما يشتهون، فأصابهم الجدب والقحط أو مصيبة أخرى في الأبدان أو الأرزاق، لم يرجعوا أسباب ذلك إلى ذنوبهم وأعمالهم، ولكن نسبوها إلى شؤم موسى عليه السلام وأتباعه، فقالوا: إنما أصابنا هذا الشر بشؤم موسى وقومه. فكان حالهم بين كفر النعمة وظلم الأنبياء عليهم السلام وأتباعهم.

أمام هذا الادعاء الباطل، والقول الظالم، جاء البيان العقدي تصحيحا للمفاهيم، ودفعا للالتباس الذي قد ينطلي على الضعفاء من بني إسرائيل: {ألا إنما طائرهم عند الله}، بيانا أن الله يبتلي بالشر والخير على حد سواء، وأنهما من عند الله وحده وبتقديره، فلا الشر بسبب موسى وقومه، ولا الخير باستحقاقهم، بل هما القضاء والقدر.

وهنا يأتي سؤال: لماذا عبر الله جل وعلا عن ارتباط ما يصيبهم من الخير والشر بالقضاء والقدر بلفظ (الطائر)؟ نجد الإجابة اللطيفة على هذا التساؤل في كلام الشوكاني، حيث استنبط الفائدة من ذلك، ونص عليها في "تفسيره" فقال: "وكان هذا الجواب على نمط ما يعتقدونه وبما يفهمونه؛ ولهذا عبر بــ (الطائر) عن الخير والشر الذي يجري بقدر الله وحكمته ومشيئته".

قصة الرسل في سورة يس

ولا يختلف النموذج الإنساني المتطير، والذي ذكرت فصوله في سورة يس، فقد ذكر فيها نموذج من تشاؤم المشركين بالرسل الكرام، عليهم السلام.

والحديث هنا عن قرية من القرى، انتشر فيها الشرك، وتغلغل بين أهلها، حتى ضلوا عن سبيل الله، وتخبطوا في فوضى الممارسات الشركية، وغرقوا في أوحال المظاهر الخرافية، وتاهوا في سراديب الضلالة، ووقعوا أسارى معبودات باطلة، لا تضر ولا تنفع، وحين ذاك: أرسل الله جل وعلا إليهم ثلاثة من الرسل الكرام ليستبين سبيل الحق، ولترفع راية التوحيد، وتخمد نار الفتنة، وتنقى الفطرة مما شابها.

ونشاهد هنا صراع المبادئ الذي قام بين دعوة الحق والباطل في جنبات هذه القرية، وسجل القرآن طرفا من الحوارات التي خاضها رسل الله؛ رغبة في إقناع القوم ببطلان ما هم عليه من الوثنية والجاهلية، ومضى سياق الحوار ليبين كيف قاموا بتبليغ الحق وإيصال الحجة كاملة، ومقابلة أهل القرية لذلك بالصدود والعناد، والتكذيب والجحود، والإعراض والاستعصاء.

وبعد أن أعيتهم الحيلة في دفع الحجج القوية والبراهين الساطعة التي قدمها الرسل في سبيل إثبات دعوتهم، ما كان منهم إلا أن قالوا: {إنا تطيرنا بكم لئن لم تنتهوا لنرجمنكم وليمسنكم منا عذاب أليم} (يس:18)، فانتقل الأمر من مجرد التكذيب والإنكار، إلى الشتم والتهديد، والإرهاب والوعيد، محاولة منهم لتشويه صور الأنبياء الأطهار، وادعاء منهم بأنهم سبب كل مصيبة وبلية تنزل بهم.

وهذا والله من أعجب العجب، وأسفه السفه! كيف يتشاءم ويتطير أهل الفساد والطغيان ومن سودت ذنوبهم صحائف أعمالهم، من أهل الصلاح والاستقامة؟! أم كيف يجعلون من قدم عليهم بأجل نعمة ينعم الله بها على العباد، وأجل كرامة يكرمهم بها، وضرورتهم إليها فوق كل ضرورة، أنه قد قدم بحالة شر، زادت على الشر الذي هم عليه، حتى استشأموا بها، ولكن الخذلان وعدم التوفيق، يصنع بصاحبه أعظم مما يصنع به عدوه.

عند ذلك قالت رسل الله: {قالوا طائركم معكم أئن ذكرتم بل أنتم قوم مسرفون} (يس:19)، وكأنهم وصلوا في نهاية المطاف إلى طريق مسدود، لا تجدي معه الحجة والبرهان، فما كان منهم إلا أن قدموا الأيمان، وحلفوا بالله تعالى أنهم مرسلون من عنده، وأن مهمتهم مقصورة على بيان الحق وتوضيح الحجة، وليس لهم ما وراء ذلك: {طائركم معكم} عزة وثقة تنضح بها كلماتهم؛ ولذلك رفع الله قدرهم، وخلد ذكرهم، حتى صار جوابهم آيات تتلى إلى يوم الدين.

يقول ابن كثير: "أجابتهم رسلهم الثلاثة قائلين: الله يعلم أنا رسله إليكم، ولو كنا كذبة عليه لانتقم منا أشد الانتقام، ولكنه سيعزنا وينصرنا عليكم، وستعلمون لمن تكون عاقبة الدار، كقوله تعالى: {قل كفى بالله بيني وبينكم شهيدا يعلم ما في السموات والأرض والذين آمنوا بالباطل وكفروا بالله أولئك هم الخاسرون} (العنكبوت:52) ، وإنما علينا أن نبلغكم ما أرسلنا به إليكم، فإذا أطعتم كانت لكم السعادة في الدنيا والآخرة، وإن لم تجيبوا فستعلمون عاقبة ذلك".

ونلحظ هنا نسبة (الطائر) إلى العباد، بينما نسبت آيات أخر (الطائر) إلى الله، فما وجه التفريق؟ يجيب ابن القيم: "..فـ (الطائر) يراد به العمل وجزاؤه، فالمضاف إلى العبد العمل، والمضاف إلى الرب الجزاء، فطائركم معكم: طائر العمل، وطائركم عند الله: الجزاء".

أعداء رسول الله صلى الله عليه وسلم

تبنى المشركون في زمن النبي -صلى الله عليه وسلم- المنهج ذاته في دفع دعوة الحق خصوصا اليهود والمنافقون في المدينة، تشابهت قلوبهم، فتوافقت أفعالهم، واقتدى اللاحق منهم بالسابق، فمنذ قدوم النبي عليه الصلاة والسلام إلى المدينة وهو يعاني الأمرين من مكائد اليهود والمنافقين ومؤامراتهم ومفترياتهم، والتي يهدفون منها إلى تشويه صورته وتزييف سيرته وتثبيط عزيمة أصحابه، توصلا إلى هدفهم الأكبر: صد الناس عن الدخول في دين الله.

وفي ضوء ذلك، أراد اليهود والمنافقون أن يلقوا باللائمة على النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه فيما يحل بهم من المصائب والكوارث، وحاولوا أن يظهروا الأمر كأنهم كانوا قبل قدومه عليه الصلاة والسلام في سعادة وهناء، ورفاهية ورخاء!، حتى هبت رياح الإسلام من مكة محملة بالأقدار المؤلمة والأحداث الموجعة، في منطق مستهجن لا يخلو من الغرابة، يفصلون من خلاله الأحداث على حسب أهوائهم، ويوجهونها وفق رغباتهم.

فإذا رأوا الخصب وكثرة الأموال، ووفرة الأولاد، والتنعم بالصحة، والظفر والغنيمة في القتال، وغير ذلك من الأمور الدالة على حسن الأحوال، قالوا: نحن أحق بها. وإذا جاء الجدب والفقر، ونزل الموت، وقلت الثمار، وحلت الهزيمة، تطيروا بالنبي -صلى الله عليه وسلم- كما تطير أمثالهم بالرسل من قبل، وجعلوا ما جاء به من الدين والعمل به سببا لما أصابهم ويصيبهم من مصائب.

ويأتينا الجواب الإلهي عن هذه الفرية إبطالا لها، حتى لا تكون ثغرة يدخل منها الشيطان بكيده ووسوسته على أصحاب النفوس الضعيفة، وإرجاعا للقضية إلى موازينها الدقيقة وتصورها الصحيح: {قل كل من عند الله فمال هؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا} (النساء:78) ، فكل ما يصيب الخلائق من الأمور وأضدادها هو من عند الله، قد كتبه عليهم قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة كما صح بذلك الحديث، يستوي في ذلك الخير والشر، والضر والنفع، والشدة والرخاء، فكل شيء بقضاء الله وقدره، وحكمته ومشيئته.

وهكذا نرى كيف رصدت النصوص الشرعية أحوال المشركين مع أنبيائهم عبر الأزمان، وبينت طريقتهم في التعامل مع الصالحين من منطلق التشاؤم منهم ومن دعوتهم، فالعجب من أهل الفساد والطغيان: كيف يتشاءمون ويتطيرون بأهل الصلاح والاستقامة معدن الخير والبركة!

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة