لم يرد الله أن يهدي قلوبهم (1 )

0 990

كل من يبتعث إلى الجامعات الكبرى يمتلك حصيلة كبيرة من الذكريات والأحداث التي لا ينساها عبر الزمن، وهنا نلتقط حكاية رواها أحد الطلبة الذين درسوا في الخارج حول حادثة غريبة، وتجربة فريدة، وموقف لا ينسى.

يذكر ذلك الطالب كيف دارت به عجلة الأيام حتى اضطر إلى مفارقة وطنه العربي ليتجه صوب إحدى الدول الأوروبية، ويلتحق بإحدى جامعاتها العريقة، بغرض الدراسة تحت إشراف عدد من الأكاديميين المخضرمين، وقدر الله أن يشرف عليه بروفيسور آسيوي مشهور، قامة علمية هائلة لا تكاد تخلو الدوريات العلمية والمؤتمرات العالمية من اسمه، وتنويعا للأنشطة قررت إدارة الجامعة إقامة رحلة ترفيهية تشمل الطلاب والمشرفين جميعا؛ تحقيقا للتقارب بين الجميع.

ويذكر ذلك الطالب أن البروفيسور قد تغيب عنهم، ولم يشاركهم أنشطتهم، فبحثوا عنه، حتى أدركوه وهو راكع عند أصل شجرة وأمامه علبة مغلقة، وأمام المفاجأة اضطرب واعتذر عن غيابه، ليكتشفوا أنه كان يتلو الصلوات لروث بقرة!

أين ذهب علم ذلك البروفيسور؟ وكيف لم يكتشف بعقله الذي استطاع أن يحل به أعقد المسائل وأصعب المعادلات، ويترقى في السلم الأكاديمي، أن من السذاجة عبادة ما لا يضر ولا ينفع؟ بل كيف طاقت نفسه أن يعبد ما اتفق جميع العقلاء على تفاهته واستقذاره؟ أم كيف قال حين سئل عن فعله: ولماذا لا أعبد البقرة التي تمدنا بالحليب؟

إننا لنستمد من هذه الأسئلة حقيقة شرعية واضحة وضوح الشمس، وهي أن الدخول في الإسلام والقدرة على القناعة به لا تتناسب طرديا مع منسوب الذكاء والمستوى الإدراكي، فلرب عبقري ألمعي عجز عن إدراك الحقائق الشرعية الأولية، فعاش جاحدا، ومات ملحدا، ولرب مزارع بسيط ليس له من حظوظ العلم شيء يذكر، يرى في زرقة السماء وهبوب الرياح وجريان المياه أعظم دليل على اللطيف الخبير.

ومرد الأمر كله إلى أن الهداية التي هي بمعنى قبول الحق، إنما هي لأمر الله تعالى وحده، فهو مالكها والمتصرف فيها، يختص بها من يشاء من عباده، ويمنعها ممن يشاء منهم، كما قال عز وجل: {ليس عليك هداهم ولكن الله يهدي من يشاء} (البقرة:272)، وقال سبحانه: { قل إن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم * يختص برحمته من يشاء والله ذو الفضل العظيم} (آل عمران:73-74)، وكما قال نوح عليه السلام: {ولا ينفعكم نصحي إن أردت أن أنصح لكم إن كان الله يريد أن يغويكم} (هود:34)، وفي ذلك بيان واضح أن الهداية إلى الحق إنما هي بيد الله سبحانه، يهدي من يشاء، وهو أعلم بمن يصلح للهداية فيهديه، ممن لا يصلح لها فيبقيه على ضلاله.

فإذا فهم ذلك، أمكننا أن نربط هذه الهداية الربانية بعلم الله تعالى المحيط بكل شيء، وبالرحمة الإلهية، وبالعدل الإلهي، فلا يمكن بعدها أن ينظر إلى هذه القضية نظرة قاصرة، تتناسى مجموع هذه الصفات، فلا هداية إلا لمن يستحق الهداية، وما ضل من ضل إلا لكونه غير مستحق لنعمة الهداية، فكان العطاء والسلب كلاهما من مقتضيات الحكمة الإلهية، ويوضح ذلك ابن القيم فيقول: "والرب تعالى حكيم إنما يضع الأشياء في محالها اللائقة بها..والعلم هو الكاشف المبين لحقائق الأمور، ووضع الشيء في مواضعه، وإعطاء الخير من يستحقه، ومنعه من لا يستحقه، فإن هذا لا يحصل بدون العلم، فهو سبحانه أضله على علمه بأحواله التي تناسب ضلاله وتقتضيه وتستدعيه".

والحاصل أن أمر الهداية إلى الله أولا وأخيرا، فلا حصول لها ابتداء، ولا استدامة لها إلا بالله، الذي يصطفي من عباده من يشاء. وهذه هي المنة التي يتذكرها أهل الجنة في الجنة، يوم يرون الخاسرين يتساقطون في جهنم: {وقالوا الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله} (الأعراف:43).

وحينما ندرك هذه الحقيقة، نستطيع أن نقوم بفك التلازم الموهوم بين فهم الإسلام والإقرار بالدليل وقيام الحجة، وبين الدخول في الإسلام والإذعان له، وأن رفض الدخول في الإسلام لا يعني بالضرورة عدم قيام الحجة العقلية، أو البرهان الكافي لصاحبه، بل هناك ما هو فوق ذلك كله: { إنه عليم بذات الصدور} (تبارك:13).

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة