يوسف عليه السلام بين تجار البشر وحفظ المليك المقتدر

0 1623
  • اسم الكاتب:إسلام ويب ( أ. د عبدالسلام مقبل المجيدي )

  • التصنيف:القصص القرآني

حبال النجاة الإلهية عند انقطاع الأسباب البشرية: 

عندما تقرأ قصة يوسف –عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام- فإنك تشعر بمدى العظمة التي كست الكريم ابن الكرام يوسف -عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام- وكيف استطاع النجاح في كل مرحلة من مراحل الحياة، ووفى العهد في كل قصة من قصص الابتلاء التي تعرض لها، ومن أخطرها على الإطلاق فتنة الإغواء والإغراء، التي تبرز مفاتنها للشباب ذكورا وإناثا، وترى هذه الأيام معظم وسائل الإعلام تقوم عليها بصورة صارخة مدعومة بكثير من مؤسسات الزيف الثقافي وشركات السعار الشهواني ممن حذر الله منهم تحذير عليم حكيم، مبينا محبته لخير عباده فقال قولا كريما: {والله يريد أن يتوب عليكم ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلا عظيما} [النساء:27].

وليظهر لنا ذلك كله، نتتبع قصة هذه المرحلة الثانية من حياة هذا الشاب العظيم:

إذ لم يتصور يوسف -عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام- وهو الطفل البريء أن يصل حسد إخوته وحقدهم هذا الحد من الظلم، فقد ألقوه وحيدا في بئر عميق مهجور، ينتظر الموت فيه بطرق مختلفة، ولما انقطعت عنه أسباب البشر، جاءه عون صاحب القوى والقدر، فأغاثه الله تعالى من حيث لا يحتسب، ومد له حبال النجاة في تلك الكرب، فقال مسبلا على محنته الطمأنينة والسلام: {وجاءت سيارة فأرسلوا واردهم فأدلى دلوه قال يا بشرى هذا غلام} [يوسف:19]، فانظر إلى التفاصيل في كلام الملك الحكيم الجليل: {وجاءت سيارة} و(السيارة) هنا صيغة مبالغة من السير، كجوالة، وكشافة، وقناصة، أي: جاءت جماعة أو قافلة مسافرة تسير في تلك الطريق، وفي سفر التكوين أنهم كانوا من الإسماعيليين، أي من العرب.

فانظر إليهم حسب الوصف القرآني: هاهي قافلة مارة بطريق ذلك البئر من المسافرين جاءت، فأحوجهم الله تعالى إلى الماء، فلاحظوا البئر الـمتنحي جانبا على بعد منهم {فأرسلوا} إليه {واردهم} وهو الرجل الذي يرد المنهل والمنزل، والـمتوقع أن يكون هذا الرسول أكثر من واحد؛ ليتمكنوا من حمل أكبر كمية من الماء يمكن حملها في هذه القافلة السيارة، وإنما عبر بالواحد لاتحاد المهمة، وجريان مثل ذلك في العربية العامة، وعادة الواردين أن يمدوا خطاهم، ويسرعوا سيرهم في الطريق إلى الماء؛ لأنه ضرورة مبتغاهم، ولذا يوصف الواحد منهم بأنه (جري) لأنه يجري في الحوائج الضرورية في قوافل ذلك الزمان، فوصل الوارد الأول إلى البئر {فأدلى دلوه} أي: أرسل دلوه في البئر، وأنزله، وكثيرا ما يكون في الكلام محذوف، يستغنى بدلالة الموجود على المفقود، أي {فأدلى دلوه} فلاحظ يوسف الحبل، وبالذكاء الفطري الذي وهبه الله إياه رأى أن في ذلك نجاته فتعلق بالحبل، فلما شعر وارد الماء بثقل الدلو ظنه امتلأ ماء، فسحبه، فارتفع بذلك الطفل البريء، فلما رآه وارد الماء في الدلو اندهش للوهلة الأولى وتحير، لكنه سرعان ما انتبه وتغير، وسر بما رأى، واستبشر، فقال قولين عجيبين تبينهما كلا القراءتين في هذه الآية، ليصبحا مشهدين متتابعين: 

فأما المشهد الأول فقال: {يا بشراي هذا غلام} على إضافة (البشرى) لنفسه، وعلى النداء لها، كأنه يقول: أيتها البشرى! احضري احضري، فهذا وقتك، وهو بهذه العبارة يبشر نفسه، فتأمل مشهده تصوره قراءة الجمهور. ثم يأتي مشهد ثان تال لهذا المشهد، ترسمه قراءة الكوفيين؛ إذ شعر بخطأ تبشير نفسه مع وجود وارد آخر، أو واردين آخرين معه، وهم يسمعون كلامه المفاجئ فقال: {يا بشرى هذا غلام} فجعل (البشرى) هنا عامة له ولمن معه من الواردين للماء، فصورت القراءتان بصورة عجيبة رائعة، وإعجاز بياني مذهل حالة هذا الذي استخرج الماء من البئر، فهو مع صحبه إنما جاؤوا للماء فخرج لهم أمر أعظم فرحوا به، فشعروا هم بالاستفادة، كما شعر يوسف بأنه قد نجا بهذه الوفادة، وهنا ينطق الحكماء الذين يأخذون من القرآن النور والضياء.. فيقولون: ليس كل من طلب شيئا يعطى مراده فقط، بل ربما يعطى فوق مأموله، كـ (السيارة) كانوا يقنعون بوجود الماء الذي يروي العطش والأوام، فوجدوا يوسف -عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام-، ويقولون: ليس كل من وجد شيئا كان كما وجده، فـ (السيارة) توهموا أنهم وجدوا عبدا مملوكا وكان يوسف -فى الحقيقة- حرا.

 يا للعجب والفرحة والقصة الرائعة:

لقد خرج الفتى يوسف من ذلك الجب الموحش.. فيا ترى كيف كان ابتهاج يوسف -عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام- عندما شعر بالنجاة بعد أن أخرجه الوارد؟ كيف كان فرحه بعد أن فقد حنان العائلة ورفق الوالد؟ كيف كان شعوره بلطف الله به، وهو اللطيف الخبير الماجد، يغيث من تمسك بحباله، وينقذ من هو له قاصد؟ ثم كيف كان سروره أيضا وهو يسمع كلمات عذبة مثل: {يا بشرى هذا غلام} [يوسف:19]؟، ولكن هذه الفرحة لم تدم كثيرا بالمستوى ذاته، فماذا حدث بعد؟

مؤامرات الطمع التجارية تعكس الجانب المظلم للبشرية:

لقد استبشر به تجار البشر، لا لأنهم أنقذوا حياة مكرمة طاهرة بريئة، كما يظهر من عبارات البشرى المغرية، بل لأنهم فكروا في بيعه كدأبهم في التلاعب بالعواطف البشرية، والتجارة بالبشر تجارة ظالمة، لكنها رائجة على مر العصور، وفي العصور الحديثة اتخذت من المؤسسات الدولية منابر لها، وتشيد بأرباحها المباني والقصور، وهي تتخذ أشكالا متعددة، وتحظى بالقوانين الدولية اللازمة، إلا أن أصحابها في عصرنا المتأخر يسمونها بغير اسمها، فهذا الطفل الصغير البريء لما أخرجوه من الماء ابتسموا له، ولكنهم عزموا في أنفسهم على جعله بضاعة مع نفاقهم معه حينما رأوه، فلاطفوه بالكلام، وأسروا في أنفسهم بيعه على ما هو المعتاد من طباع اللئام، وذهبت تلك الابتسامات مع نفاق الأنفس المظلمات، فحملوه معهم {وأسروه بضاعة} [يوسف:19] والبضاعة القطعة من المال تجعل للتجارة من بضعت اللحم إذا قطعته، فاتفق (الوارد) مع من جاء معه إلى الماء أن يقولوا: "اشتريناه من أهل الماء خوفا من بقية رفقتهم في القافلة؛ لئلا يسألونهم الشركة فيه، فقالوا: إن سألونا ما هذا؟ قلنا: بضاعة استبضعناه أهل الماء، ويذكر الإمام الطبري عن مجاهد أن هذا إسرار يوسف -عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام- بضاعة من قبل (الوارد) للماء كان خوفا من جهتين:

الجهة الأولى: من القافلة؛ لئلا يطالب أهل القافلة وارد الماء ومن معه بالشركة فيه.

والجهة الثانية: من أهل الماء؛ لئلا ينتبه له أهل القرية القريبة من الماء فيطالبونهم به، فإذا رآه أحد من أهل الماء معهم، قالوا له: إنما هو بضاعة.

الرقابة الإلهية التي لا تغيب عن الأوضاع البشرية:

هذا الظلم البشري لهذا الشاب البريء كان متعدد الأقطاب، وانبعث من عدد من الجهات:

الجهة الأولى: جهة الأقارب:

إنهم ذوو قربى يوسف -عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام-، وليسوا من قراباته الأبعدين، بل هم إخوته.. إنهم من ينتظر منهم هذا الغلام اليافع التأييد والنصر والمشاركة على مواجهات الحياة، إلا أن الذي حدث هو نقيض ذلك: تخطيط متآمر، وقسوة بالغة في التفكير والتخطيط والتنفيذ، كما قال محمد ابن إسحاق: فلما انتهوا به إلى المكان الذي أرادوا به ما أرادوا، جردوه من قميصه، وهو يناشدهم الله ورحمه وقلة ذنبه فيما بينه وبينهم، فلم تعطفهم عليه عاطفة، وقذفوه في الجب بغلظة وفظاظة، وقلة رأفة.

الجهة الثانية: جهة الأباعد:

إنهم من بني الإنسان جاءوا عابرين، ورأو طفلا بريئا مرميا من بقية العالمين، وبدلا من مساعدته وإكرامه، اتخذوه بضاعة على طريقة قساة الظالمين، وأسروا ذلك عن بعضهم على الأسلوب المعتاد لطمع الغادرين، ولعبوا به على طريقة المجرمين، وخدعوا العالم من حوله بعبارات التودد والتبشير، وهم يحملون فؤاد الذئب المسعور المغير.. كذلك تمضي طباع تجار البشر في سائر العصور، فهل معنى كل هذا الظلم أن الله غير مطلع على كيد الكائدين، ومكر الماكرين، وإجرام المجرمين.. هنا يأتي الجواب: {والله عليم بما يعملون} [يوسف:19] أي بما يعمله هؤلاء (السيارة) وما يعمله إخوة يوسف، فلكل منهم أرب في يوسف.

أهل قافلة السيارة يدعون بالباطل أنه عبد لهم، فيتجرون به، والله ذو علم بما يعمله هؤلاء التجار من ظلم وإهانة للإنسانية. وإخوة يوسف أمرهم مع أبيهم في إخفائه وتغريبه ودعوى أكل الذئب إياه معلوم، وأنه كيد باطل، وحكمة الله -تعالى- فيه فوق كل ذلك، لا يخفى عليه من ذلك شيء، ولكنه ترك تغيير ذلك ليمضي فيه وفيهم حكمه السابق في علمه، وليري إخوة يوسف ويوسف وأباه والعالمين قدرته فيه. قال الطبري: وهذا، وإن كان خبرا من الله -تعالى ذكره- عن يوسف نبيه -صلى الله عليه وسلم-، فإنه تذكير من الله نبيه محمدا -صلى الله عليه وآله وسلم-، وتسلية منه له عما كان يلقى من أقربائه وأنسبائه المشركين من الأذى فيه، يقول: فاصبر، يا محمد! على ما نالك في الله، فإني قادر على تغيير ما ينالك به هؤلاء المشركون، كما كنت قادرا على تغيير ما لقي يوسف من إخوته في حال ما كانوا يفعلون به ما فعلوا، ولم يكن تركي ذلك لهوان يوسف علي، ولكن لماضي علمي فيه وفي إخوته، فكذلك تركي تغيير ما ينالك به هؤلاء المشركون لغير هوان بك علي، ولكن لسابق علمي فيك وفيهم، ثم يصير أمرك وأمرهم إلى علوك عليهم، وإذعانهم لك، كما صار أمر إخوة يوسف إلى الإذعان ليوسف بالسؤدد عليهم.

وهنا نتذكر قول الناصح الزكي النفس، وهو يتأمل أقدار الله تعالى، التي جعلت الأنبياء المختارين أكثر عظمة، وأعظم مكانة عنده: "ربما أعطاك فمنعك ..وربما منعك فأعطاك"، وقيل:

   فهـو العـليـم أحـاط عـلـمـا بالـذي ***فـي الـكــون مـن سـر ومـن إعـــلان

وهـو العـلـيـم بـمـا يـوسـوس عبـده *** فـي نـفـسـه مـن غـيـر نـطـق لســـان

بــل يـسـتـوي فـي علـمــه الـدانــي *** مع القاصي وذو الإسرار والإعلان

فهـو العـلـيـم بمـا يـكـون غــدا ومـا *** قــد كـان والـمـعـلـــــوم فـي ذا الآن

وبكـل شـي لـم يكـن لـو كـان كيـف *** يـكــون مــوجـــودا لــذي الأعـيـــان

يري دبيب النمل في غسق الدجى *** ويــرى كــذاك تـقـلــب الأجــفـــــان

يرى مجاري القـوت في أعضائها *** ويـــرى نـيــاط عـروقــــها بـعـيــان

يـرى خيـانـات العـيـون بلـحـظـها *** إي والــذي بــرأ الــورى وبــرانــي

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة