أفياء {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا} [يوسف: 22]

0 1496

بلوغ السن الشابة القوية وتكون الشخصية الصالحة السوية:

بلغ يوسف -عليه وعلى نبينا وأنبياء الله الصلاة والسلام- أشده، إلا أنه لم يجعل بلوغ أشده في اللهو والعبث واللعب، ولا في المجون والرفث وأحلام الأوهام والكذب، بل أحسن إلى نفسه ترقيا في مدارج السالكين إلى مولاه، وصار حقا شابا نشأ في عبادة الله، والتمس السعادة بطلب محبته ورضاه، فكافأه الله على ذلك بأن آتاه الحكمة والعلم واصطفاه، وجعله في مقدمة الشباب الصالحين، قال سبحانه: {ولما بلغ أشده آتيناه حكما وعلما وكذلك نجزي المحسنين} [يوسف:22].

وبلوغ (الأشد) يدل على وصول هذا الشاب إلى منتهى شبابه وقوته ونموه العضلي والجسمي قبل أن يأخذ في النقصان، وهذا لا يقتضي أن يكون قد وصل إلى الغاية التي يكون بعدها النقصان والنهاية، بل إن بلوغ (الأشد) معناه الوصول إلى الغاية التي بها تظهر فيها زهرة الشباب، ويبدو فيها عطره ونسيمه ونشاطه يملأ الجبال والهضاب، ومنها تبدأ تلك الفترة بعد اكتمال النضج الجسدي بالاتجاه نحو اكتمال النضج العقلي، وهذا يكون منذ ما بعد بلوغ الحلم من السنين، خلافا لقول من ذكر أن ذلك كان عند سن ثلاث وثلاثين؛ ولذا ذكر الطبري أقوالا في (الأشد) فقيل: يبدأ من الحلم، وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه من عشرين سنة، وهو السن الذي نرجح أن وقوع هذه الحادثة كانت فيه أو قبله بيسير، وأنت إذا أردت الواقع فانظر إلى هذه المرأة -امرأة العزيز- التي قد أخذها سعار الشهوة، ولم تعد تفرق في سبيل ذلك بين الصحوة والغفوة:

أتظن مثلها ينتظر مجاوزة العشرين لشاب أمامها بلغ من الحسن منتهاه، وهو يزداد مع تنقل مراحل أشده حسنا في أجمل منظر وأبهاه؟، وأما عمرها هي فإن المعتاد أن يكون عزيز مصر الذي يمثل رئيس وزرائها متزوجا من فتاة تصغره بنحو عشر سنوات تزيد أو تنقص قليلا في مثل تلك القرون، فلو فرضنا أنه كان في حدود الأربعين عندما اشترى يوسف –عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام- فزوجته تكون بين الخامسة والعشرين والثلاثين، وقد يئس كلاهما من الولد؛ لأنه لما اشترى يوسف قال: {أكرمي مثواه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا} [يوسف:21]، وإذا كان يوسف قد فارق أباه غلاما يضعف أن يدفع عن نفسه فمعنى ذلك أن سنه كانت حول العشر السنوات، والمرأة وهي تراه يكبر فلا تجد في طهره ودينه وعبادته وحكمه وعلمه ما يلفت نظرها، وإنما تركز نظرها على أمر واحد هو أن يكون مستعدا ليكون خادما لشيء واحد هو جسده وشهوته، ومثلها لا تصبر عن مثله حتى يجاوز العشرين، فكيف يكون عظم حرصها على أن تستدرجه ليكون من عصابة الغاوين أو زمر المفسدين، ولكن الله كان لهذا العبد الأواب المحسن من الحافظين.

ابتلاء يوسف ليس في موقف واحد مليء بالإغراء بل مرت عليه الفتن تتلاحق وتترى:

عندما نحاول معرفة السن التقريبي ليوسف -عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام- وتفاصيل الواقع الأسري الذي عاش فيه مع عزيز مصر وأهله فإننا نصل إلى نتيجة واضحة:

إن التجربة التي مر بها يوسف -أو المحنة- لم تكن فقط في مواجهة المراودة في هذا المشهد الذي يصوره السياق، إنما كانت في حياة يوسف فترة مراهقته كلها -كما يقول سيد قطب- في جو هذا القصر، مع هذه المرأة بين سن الثلاثين وسن الأربعين، مع جو القصور، وجو البيئة التي يصورها قول الزوج أمام الحالة التي وجد فيها امرأته مع يوسف{يوسف أعرض عن هذا واستغفري لذنبك إنك كنت من الخاطئين} [يوسف:29] وكفى..! وهي حالة الميوعة للمفاهيم السوية التي يتحدث فيها النسوة عن امرأة العزيز، فيكون جوابها عليهن، مأدبة يخرج عليهن يوسف فيها، فيفتتن به، ويصرحن، فتصرح المرأة:
{ولقد راودته عن نفسه فاستعصم ولئن لم يفعل ما آمره ليسجنن وليكونا من الصاغرين} [يوسف:32].

فهذه البيئة التي تسمح بهذا وذلك بيئة خاصة..إنها بيئة الطبقة المترفة دائما.. بل بيئة المجتمعات التي صارت رغبات النفوس وشهوات الأجساد هي المغامرات المثيرة التي تتناقلها المجتمعات، ويتكلم عنها سادته مع السيدات، ويوسف -عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام- كان فيها مولى وتربى فيها في سن الفتنة.. فهذه هي المحنة الطويلة التي مر بها يوسف، وصمد لها، ونجا منها ومن تأثيراتها ومغرياتها وميوعتها ووسائلها الخبيثة. ولسنه وسن المرأة التي يعيش معها تحت سقف واحد كل هذه المدة قيمة في تقدير مدى الفتنة وخطورة المحنة والصمود لها هذا الأمد الطويل. أما هذه المرة التي غلقت فيها الأبواب، فلو كانت وحدها وكانت مفاجأة بلا تمهيد من إغراء طويل، لما كان عسيرا أن يصمد لها يوسف، وبخاصة أنه هو مطلوب فيها لا طالب.

بناء الحكم والعلم في الشباب هو درع الحماية من أخطار الشهوات والارتياب:

إلا أن هذا الشاب الرائع كان في شغل عن رغبتها وسعار شهوتها فهو يزداد من الله قربا وعن الآثام بعدا فيكافئه الله بإيتائه الحكم والعلم، و(الحكم) والحكمة أصلهما حبس النفس عن هواها، ومنعها مما يشينها، فالمراد من (الحكم) الحكمة العملية، والمراد من (العلم) الحكمة النظرية، أو كما يروي الطبري عن مجاهد: (حكما وعلما) قال: العقل والعلم قبل النبوة، ويظهر أن (الحكم) هنا غير الحكمة، فهو أخص منها؛ إذ (الحكم) هو القدرة الفذة على اتخاذ القرارات الصحيحة، وعدم التردد في إيقاع الأمر في وقته المناسب، كما قال تعالى عن يحيى -عليه وعلى نبينا وأنبياء الله أجمعين الصلاة والسلام-: {وآتيناه الحكم صبيا} [مريم:12]، وليس (الحكم) هو النبوة بدليل عطفه عليها في قوله تعالى: {ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة} [آل عمران:79]، وقوله: {أولئك الذين آتيناهم الكتاب والحكم والنبوة} [الأنعام:89]، وقوله: {ولقد آتينا بني إسرائيل الكتاب والحكم والنبوة} [الجاثية:16].

فهذا الشاب الرائع أوتي (الحكم) الذي يدل على شخصيته القيادية المبكرة، وقدرته على اتخاذ القرارات الصائبة في وقتها المناسب دون تررد، وأوتي العلم الذي يشمل العلم الوهبي كتأويل الرؤى، والعلم الكسبي مما يحتاج الناس أن يرجعوا إليه فيه في أمور حياتهم، كما صنع في وضع الخطط الاقتصادية لمواجهة سنوات الجفاف.

ويوسف الكريم ابن الكرام -عليهم السلام- ابتعد عن مواطن الشبه والشهوات، واقترب من الأفعال التي ترضي رب الأرض والسموات -وهذا من الحكم والتحكم بنفسه وأهوائها- فكافأه الله وآتاه العلم ليأنس بربه، ويطمئن بخالقه، ولسان حاله يقول:

                                         هات ما عندك هات يـــــــــا زمــــــان الأزمات 

                                         أنا لا أخشـــــــــاك فـــانثر كـــل ما في الجعبات 

                                        وارم من نبلــك ما شئـــــت فلــــــن تثـــني قنــاتي 

                                        هـــل ترى الإعصار يومــا هـــز شم الراسيـــات 

                                        أنــــا محمي بــــــــــــدرع مـــــن يقين وثبــــات 

                                       معي الإيمــــــــان يهـــــــديني ببــــــحر الظلمات 

                                      معــــي الإخلاص ينجـــي مركبي والموج عــــات 

                                      أنـــا بــــالله عــــــزيـــــز عــــــزتي في سجـــدات 

                                      أنــــــا لــــله ولــــــــي لا لعـــــــزى أو منـــــــــاة 

                                     أنـــا عبــــد الله لا عبـــــد الهــــــوى والشهـــــوات

بشرى رب العالمين بهبة الحكم والعلم لكل المحسنين:

ختم الله تعالى هذا البيان للفضل الذي آتاه الله يوسف -عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام- بما يرفع الهمم، ويفتح أبواب التنافس نحو القمم، فقال مبشرا الناس: {وكذلك نجزي المحسنين} [يوسف:22]، فالأمر -كما قال الطبري-: "كذلك نجزي من أحسن في عمله، فأطاعني في أمري، وانتهى عما نهيته عنه من معاصي" يؤتيه الله (الحكم) بالحق والعدل، و(العلم) الذي يزينه، ويظهره القول الفصل، فيكون لكل محسن حظه من الحكم الصحيح والعلم النافع بقدر إحسانه، وبما يكون له من حسن التأثير في صفاء عقله، وجودة فهمه وفقهه، غير ما يستفيده بالكسب من غيره، لا يؤتى مثله المسيئون باتباع أهوائهم وطاعة شهواتهم، ووصف الحكماء المحسنين فقالوا: "هم الذين قطرت عليهم سحائب الأشجان، ونصبوا ركبهم والأبدان، وتسربلوا بالخوف والأحزان، وشربوا بكأس اليقين، وراضوا أنفسهم رياضة المتقين؛ كحلوا أبصارهم بالسهر، وغضوها عن النظر، فقاموا ليلهم أرقا، وتبادرت دموعهم فرقا، حتى ضنيت منهم الأبدان، وتغيرت منهم الألوان، صحبوا القرآن بأبدان ناحلة، وشفاه ذابلة، ودموع وابلة، وزفرات قاتلة، فحال بينهم وبين نعيم المتنعمين، وشغلهم عن مطامع الراغبين، فاضت عبراتهم من وعيده، وشابت ذوائبهم من تحذيره وتشديده..سمعوا إعلان {وسارعوا}..فكسلهم مانعوا، وشهواتهم دافعوا..ورحمة ربهم طالعوا، فسارعوا، وسارعوا، وسارعوا.. يبتغون رضا الملك الوهاب.. {الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولو الألباب} [الزمر:18]".

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة