- اسم الكاتب:إسلام ويب ( د. عبدالله عطا محمد عمر )
- التصنيف:خواطـر دعوية
أصحاب الهمم العالية في كل زمان ومكان هم الفائزون، تجدهم دائما مشمرين يبحثون عن معالي الأمور، ينطبق عليهم قول الله تعالى: (والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين) [العنكبوت: 69] ولا شك أن أي فوز مهما علا شأنه في الدنيا يبقى ناقصا إن لم يوصل صاحبه إلى الجنة، والجنة كما نعلم جميعا محفوفة بالمكاره، كما قال صلى الله عليه وسلم: (حفت الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات) [صحيح مسلم] وكان يقول: (بادروا بالأعمال فتنا كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل مؤمنا ويمسي كافرا، أو يمسي مؤمنا ويصبح كافرا، يبيع دينه بعرض من الدنيا) [صحيح مسلم].
ولا غرابة أن رسول الله كان يحث أصحابه الكرام على التمسك بمعالي الأمور، ويوجههم إلى التسابق والتنافس في كل خير، وأن يحرصوا على ما ينفعهم، وأن يحسنوا الظن بالله تعالى ويتوكلوا عليه، ويستعينوا به في كل أمر من أمور حياتهم، وكان يخاطب الأمة من خلالهم فيقول: (اغتنم خمسا قبل خمس: حياتك قبل موتك, وصحتك قبل سقمك, وفراغك قبل شغلك, وشبابك قبل هرمك, وغناك قبل فقرك) [سنن النسائي] حتى إذا كان في يد أحدكم فسيلة يريد أن يغرسها، وقامت الساعة: فليغرسها. [مسند أحمد]. إن أمكنه ذلك. (الفسيلة: النخلة الصغيرة).
وقد روي في وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي ذر الغفاري قوله: (يا أبا ذر! أحكم السفينة فإن البحر عميق, واستكثر الزاد فإن السفر طويل, وخفف ظهرك فإن العقبة كؤود, وأخلص العمل فإن الناقد بصير). [الديلمي في الفردوس].
مدار هذه النصيحة هو التخفف من الدنيا، والتمسك بالآخرة، ولا يتم ذلك إلا بالإخلاص والتقوى، قال تعالى: (وتزودوا فإن خير الزاد التقوى واتقون يا أولي الألباب) [البقرة:197]. فالتقوى جماع كل خير، وعندما يترك المسلم شيئا محرما ابتغاء رضوان الله تعالى؛ يبدله الله تعالى خيرا منه في الدنيا فضلا عن ثواب الآخرة، قال صلى الله عليه وسلم: (عليك بتقوى الله فإنه جماع كل خير) [مسند أبي يعلى] وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من قال لا إله إلا الله مخلصا دخل الجنة، قيل: وما إخلاصها؟ قال: أن تحجزه عن محارم الله عز وجل) [معجم الطبراني] ويجب على المتقي أن يجتنب الشبهات، وأن لا يسرف في المباحات، لقوله صلى الله عليه وسلم: (إن الرجل لا يكون من المتقين حتى يدع ما لا بأس به حذرا لما به بأس) [مستدرك الحاكم].
والإنسان كما نعلم جميعا مطبوع على حب الدنيا وما فيها، قال سبحانه: (زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث ذلك متاع الحياة الدنيا والله عنده حسن المآب) [آل عمران:14] فمن الناس من أخذت الدنيا لبه فطمع فيها، وحرص عليها، قال صلى الله عليه وسلم: (لو أن لابن آدم مثل واد مالا لأحب أن له إليه مثله، ولا يملأ عين ابن آدم إلا التراب، ويتوب الله على من تاب) [صحيح البخاري]. ومن الناس من عمل لدنياه وآخرته، واستمتع من الدنيا بما رزقه الله تعالى ورضي وقنع، وهذا عيش المؤمن، والقناعة المحمودة.
وهناك نموذج آخر من الناس، وهم الذين عرفوا أن متاع الحياة الدنيا وزخرفها عرض زائل، ولذة مؤقتة، فأخذوا منها ما لا بد منه، وعاشوا عيش الكفاف من الكسب الحلال، وصرفوا معظم أوقاتهم في طاعة الله تعالى طمعا في محبته ورضوانه، وامتثلوا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال: (ازهد في الدنيا يحبك الله، وازهد فيما في أيدي الناس يحبوك) [سنن ابن ماجه].
فأصحاب الهمم العالية منذ ذلك العهد كانوا ولا زالوا لا ينقطعون عن ذكر الله تعالى وعبادته، قال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكرا كثيرا * وسبحوه بكرة وأصيلا) [الأحزاب:41-42] ولا توجد عبادة بدون ذكر، وهو على أنواع: ذكر باللسان، وذكر بالقلب، وذكر في العمل، والمؤمن الصالح يذكر الله تعالى بكل هذه الأنواع، حتى يصبح الذكر عنده عادة وديدنا له؛ وذلك لما فيه من الفوائد، فهو يمنع من المعاصي، وهو سبب في ذكر الله تعالى لنا، حيث قال سبحانه: (فاذكروني أذكركم واشكروا لي ولا تكفرون) [البقرة:152].
والصادقون المخلصون لا ينقطعون عن تدبر آيات الله تعالى بشقيها، المقروءة في القرآن الكريم، والمنظورة في هذا الكون العظيم، وهم دائما في اتباع لسنة المصطفى صلى الله عليه وسلم، لا يحيدون عنها، ويتمسكون بوصاياه صلى الله عليه وسلم، ويحرصون عليها، ما يمكنهم من الوقوف على حقيقة الدنيا والآخرة، (والآخرة خير وأبقى) [الأعلى:17] فهم دائما يتقللون من الدنيا وتوابعها، وتبقى قلوبهم معلقة بالآخرة، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (من كانت الدنيا همه فرق الله عليه أمره، وجعل فقره بين عينيه، ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب له، ومن كانت الآخرة نيته جمع الله له أمره، وجعل غناه في قلبه، وأتته الدنيا وهي راغمة) رواه ابن ماجه. قال الشيخ شعيب الأرنؤوط: إسناده صحيح.
وتختلف عبادة الله تعالى حسب استعداد الإنسان وحالته، فمن الناس من يتعلم أصول العبادة وكيفيتها فتكون عبادته أصولية مقبولة، ومنهم من يتعبد الله تعالى تقليدا فتكون عبادته شكلية قد لا تقبل، ومنهم من يعبد الله تعالى طمعا في دنيا يصيبها، أو ثوابا يدخره عند ربه ليوم القيامة، وهي عبادة أشبه ما تكون بعبادة التجار، ولكن الله تعالى الكريم يتقبلها كرما منه وفضلا، ومن الناس من يعبد الله تعالى خوفا من غضبه سبحانه وعقابه، والله تعالى يقبلها ويثيب عليها، ولكن هناك من الناس من عرف الله حق المعرفة فأحبه، وملأت محبته قلبه وجوارحه، فعبد الله حبا، وتقربا إليه، وإرضاء له، وهي عبادة النبيين والصديقين والعارفين والعلماء المخلصين، فكان همهم إرضاء الله سبحانه، وهؤلاء هم الطبقة العليا من أهل التقوى والورع؛ لأن الورع مرتبة عالية، لا ينالها إلا القليل من الناس، وهو على درجات: الأولى: اجتناب الشبهات خوفا من الوقوع في المحرمات، والإقلال من الحلال حتى لا تشغلهم عن العبادات، والثانية: الورع عما يجيش في النفس من الفكر والخواطر، والثالثة: وهي درجة العارفين الذين يبتعدون عن كل ما يشغلهم عن الله تعالى.
ولا شك أن التمسك بالأخلاق الكريمة هو عنوان هؤلاء الناس، ذلك أنهم عرفوا الطريق وسلكوه، فالأخلاق هي أثقل ما يوضع في الميزان يوم القيامة، وأصحاب الأخلاق هم أقرب الناس مجلسا للمصطفى صلى الله عليه وسلم، وإنما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم ليتمم مكارم الأخلاق، وقد وصفه ربه فقال: (وإنك لعلى خلق عظيم) [القلم:4]. ومكارم الأخلاق كثيرة جدا، ومنها: الصدق، والحياء، والحلم، والتواضع، والرحمة، والمغفرة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وغيرها الكثير.
وأصحاب الهمم العالية تراهم دائما يبحثون عن الخير، يتمسكون به، ويؤدونه، ويأمرون الناس به ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا، وجماع الخير أن تنفع غيرك، والمعروف أن تسدي المعونة إلى من يطلبها، دون أن تطلب على ذلك أجرا، قال تعالى: (وافعلوا الخير لعلكم تفلحون) [الحج:77].
وهم أخيرا دائما يمتثلون أمر الله تعالى لهم، حيث قال سبحانه: (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون) [آل عمران:102].