شاهد العيان عند الإمام البخاري في صحيحه

0 1805

يعتمد كثير من الرواة والمؤرخين الرواية بنقل الخبر عن شاهد العيان أو صاحب القصة لمشاركته لها، وهو منهج سليم مهم في الدراسات التاريخية، وقد كان هذا المنهج متبعا في الدراسات الحديثية منذ القرون الهجرية الأولى، وهذا ظاهر عند الإمام البخاري في "صحيحه"، فكثيرا ما يختار الرواية من طريق الصحابي المشارك بالحادثة، ويقدمها على غيرها، كما سيأتي بيان ذلك في الأمثلة اللاحقة.

ولا شك أن الرواية عن شاهد العيان أدعى إلى قبول روايته والركون إليها، وهذا منهج معتمد عند كافة المحدثين، بل جعلوا ذلك من وجوه الترجيح إذا تعارضت الروايات، فعندما يكون أحد الراويين مباشرا لما روى، والثاني حاكيا فالمباشر أعرف بالحال، وذلك لأن الشاهد أدق رواية من غيره؛ إذ تشترك الحواس العديدة من البصر والسمع واللمس في ضبط الخبر، وهذا أقوى من النقل بواسطة السمع وحده.

وقد وجه المحدثون نقدهم إلى الإسناد أولا، ثم إلى المتن، وبذلك اختصروا الجهد، وذلك لأن نقد المتن وفق المعايير العقلية لا يعد (لوحده) سبيلا قويما لنقد الأحاديث التي لا يستحيل عادة صدورها عن النبي صلى الله عليه وسلم، كما أن صحة السند وحدها لا يعدها النقاد كافية لتصحيح الحديث.

إن العناية بالإسناد تهدف إلى الوصول إلى شاهد عيان صادق، بواسطة سلسلة من الرواة الضابطين العادلين. ومن هنا كان تعريف الحديث الصحيح: هو ما وصل إلينا بنقل العدل الضابط، عن مثله، من أول السند إلى منتهاه، من غير شذوذ ولا علة، فالخبر إذا سقط منه الصحابي يعد مرسلا؛ لأن الصحابي هو (شاهد العيان) وبهذا تكون الرواية ضعيفة، تحتاج إلى تقويتها من طرق أخرى، وهو ما يعرف بتعدد مخارجه، إذا أريد الأخذ به، وهنا يصفه العلماء بأنه صحيح لغيره، أو حسن لغيره، أي بتقوية غيره من الروايات أو الطرق، وليس لذاته.

إن موضوع تعدد طرق الحديث ومخارجه ينبغي أن يتسم بالدقة، وليس معنى هذا أن ينتهي إلى سلسلة واحدة، بل لابد أن يستقل بعضها عن بعض، حتى نهاية السند أو إلى أعلاه (الصحابي أو التابعي أو تابع التابعي)، وإن تعدد الطرق هو وحده الذي يمنع من سقوط الخبر، أو إهماله وعدم الاعتداد به، خاصة إذا سقط اسم شاهد العيان منه.

من أجل ذلك، فإن الأخبار التي ترد في الكتب المتأخرة لا تعد بعيدة عن مصدر الخبر أو عن الحادثة، إذا تأكدنا أن الأسانيد التي فيها توصلنا فعلا إلى شاهد العيان، وذلك لأن شاهد العيان هو صاحب القصة الذي يبني شهادته على ملاحظته المباشرة، والتي ليس بينها وبين الوقائع أية وسائط، ولكن مهمة الباحث تزداد صعوبة كلما ابتعدنا عن مصدر الرواية، من حيث كيفية التأكد من صدق شاهد العيان وصدق المخبرين عنه، ومن هنا تظهر أهمية الإسناد والاعتماد عليه من أجل الوصول إلى مثل هذا الأمر، وهو أمر غاية في الصعوبة، خاصة في المؤلفات المتأخرة، التي اعتمدت على مصادر أقدم منها، ثم فقدت أو أتلفت هذه المصادر، ولم تعد موجودة، وفي هذه الحالة تصبح المؤلفات المتأخرة هي المصادر البديلة عن المتقدمة، وتصبح بهذا المعنى قريبة من الأحداث، في حالة التأكد من صحة ودقة النقل من تلك المؤلفات المفقودة.

وتكمن أهمية اشتراط علماء الحديث وغيرهم نقل الواقعة عن شاهد العيان بسبب أنهم قرنوا الخبر بالشهادة، والشهادة لا تثبت إلا عن رؤية أو سماع، والرؤية هنا ليست رؤية سطحية عابرة، بقدر ما هي رؤية حسية مباشرة، وهذا يفسر لنا اشتراطهم أن يكون الراوي قريبا من مصدر الخبر، حتى يستطيع أن ينقل ما سمعه ورآه نقلا أمينا بلا زيادة ولا نقصان.

والإمام البخاري -وهو إمام المحدثين- أكثر من اعتماد شاهد العيان، في رواياته، والنقل عن صاحب القصة في "صحيحه"، بل لعل معظم روايات "صحيح البخاري" تدخل تحت مثل هذا النوع، لأن الإمام البخاري كغيره من المحدثين يرجح رواية صاحب القصة على غيره عند التعارض، والأمثلة على اهتمام الإمام البخاري بالرواية عن شاهد العيان في "صحيحه" أكثر من أن تحصى، ونكتفي هنا بذكر بعض النماذج من كتاب المغازي من "صحيحه":

أولا: جاء في غزوة العشيرة أو العسيرة، عن زيد بن أرقم، قيل له: كم غزا النبي صلى الله عليه وسلم من غزوة قال: تسع عشرة‏.‏ قيل: كم غزوت أنت معه؟ قال: سبع عشرة‏... ففي هذا الحديث اعتمد الإمام البخاري على رواية زيد بن أرقم، وهو من شاهد واشترك مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سبع عشرة غزوة من الغزوات التي غزاها نبي الله صلى الله عليه وسلم، وعددها تسع عشرة حسب روايته.

ثانيا: في قصة قتل أمية بن خلف، جاء بحديث عن سعد بن معاذ، لأنه كان صديقا لأمية بن خلف ، وكان أمية إذا مر بالمدينة نزل على سعد، وكان سعد إذا مر بمكة نزل على أمية، فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة انطلق سعد معتمرا، فنزل على أمية بمكة...ففي هذا الحديث اعتمد البخاري على رواية سعد بن معاذ، حيث كان أقرب الناس إلى صاحب القصة وهو أمية بن خلف في مكة، الذي أخبره بأنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر أنه سيقتله المسلمون، فسأله عن المكان: هل هو في مكة، أو في خارجها؟ فقال: لا أدري، ففزع لذلك، وقرر أن لا يخرج من مكة، خوفا على نفسه من القتل.

ثالثا: في قصة الثلاثة الذين تخلفوا عن غزوة العسرة روى البخاري حديث كعب بن مالك، وهو أحد الثلاثة الذين خلفوا، حيث يقول: لم أتخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة غزاها إلا في غزوة تبوك...إلخ الحديث، وفي هذه رواية عن كعب بن مالك وهو صاحب القصة، اعتمد البخاري روايته؛ لأنه أدرى بما حصل معه من غيره، وأجدر من يحدث بهذه القصة.

رابعا: في باب عدة أصحاب بدر روى البخاري حديث البراء بن عازب، قال: استصغرت أنا وابن عمر‏ يوم بدر، وكان يقول: حدثني أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ممن شهد بدرا أنهم كانوا عدة أصحاب طالوت، الذين جازوا معه النهر، بضعة عشر وثلاثمائة‏. في هذه الأحاديث اعتمد البخاري رواية البراء؛ لأنه صاحب القصة، وهو شاهد عيان فيها، وهو من أعلم الناس بأعدادهم.

خامسا: في قصة قتل أبي جهل اعتمد البخاري على رواية ابن مسعود، وهو صاحب القصة وشاهد العيان فيها. وجاء كذلك بحديث عبدالرحمن بن عوف، قال: إني لفي الصف يوم بدر إذ التفت، فإذا عن يميني وعن يساري فتيان حديثا السن، فكأني لم آمن بمكانهما، إذ قال لي أحدهما سرا من صاحبه يا عم! أرني أبا جهل‏.‏ فقلت يا ابن أخي، وما تصنع به قال: عاهدت الله إن رأيته أن أقتله، أو أموت دونه‏.‏ فقال لي الآخر سرا من صاحبه مثله، قال: فما سرني أني بين رجلين مكانهما، فأشرت لهما إليه، فشدا عليه مثل الصقرين حتى ضرباه، وهما ابنا عفراء‏.‏ وهي قصة يرويها صاحبها، وهو شاهد عيان فيها.

سادسا: في سبب نزول قوله تعالى: {هذان خصمان اختصموا في ربهم} [الحج:22]‏ قال البخاري: هم الذين تبارزوا يوم بدر حمزة وعلي وعبيدة أو أبو عبيدة بن الحارث وشيبة بن ربيعة وعتبة والوليد بن عتبة‏، قال علي: فينا نزلت هذه الآية، أي أنه هو صاحب القصة.

سابعا: في قصة الإفك جاء بحديث أم المؤمنين عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم، تقول: أقبلت أنا وأم مسطح، فعثرت أم مسطح في مرطها -ثوبها- فقالت: تعس مسطح‏.‏ فقلت: بئس ما قلت: تسبين رجلا شهد بدرا، فذكر حديث الإفك‏، وهي صاحبة القصة، وهي أعرف الناس بتفاصيلها ومجرياتها، فهي أدرى من غيرها بما حصل فيها.

ثامنا: في بيان تفسير قوله تعالى: {إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا والله وليهما وعلى الله فليتوكل المؤمنون} [آل عمران:122] جاء بحديث جابر بن عبدالله قال: نزلت هذه الآية فينا بني سلمة وبني حارثة، وما أحب أنها لم تنزل. فهو صاحب قصة وشاهد عيان فيها. وكذلك جاء بحديث جابر الطويل، وفيه قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم‏: هل نكحت يا جابر؟‏‏ قلت: نعم‏.‏ قال: (ماذا أبكرا أم ثيبا؟)‏ قلت: لا، بل ثيبا‏.‏ قال: (فهلا جارية تلاعبك) وهو حديث طويل حصل أثناء عودتهما من إحدى الغزوات حيث سأله رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبيعه جمله، فهو صاحب القصة، وهو شاهد العيان فيها، وهو أدرى الناس بما حصل.

تاسعا: جاء بحديث جابر، قال: لما قتل أبي جعلت أبكي، وأكشف الثوب عن وجهه، فجعل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ينهوني، والنبي صلى الله عليه وسلم لم ينه، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تبكيه أو ما تبكيه، ما زالت الملائكة تظله بأجنحتها حتى رفع). وهو عن قصة موت أبيه عبد الله، وماذا قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم حين رأه وهو يبكيه، فهو أدرى الناس؛ لأنه صاحب القصة.

بما تقدم من أمثلة -وغيرها كثير- يتبن أن رواية صاحب القصة، أو الشاهد لها مقدمة على رواية غيره، وهو المنهج الذي اعتمده البخاري -إمام أهل الحديث- في "صحيحه"، وسار على دربه من جاء بعده من أهل الحديث.

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة