- اسم الكاتب:إسلام ويب
- التصنيف:من بدر إلى الحديبية
من الأحداث الهامة التي وقعت بعد غزوة بدر غزوة ذي أمر (موضع من ديار غطفان)، وسميت أيضا غزوة غطفان أو غزوة أنمار، وهي أكبر غزوة قادها النبي صلى الله عليه وسلم قبل معركة أحد، وكانت في السنة الثالثة من الهجرة، وسببها أن الأخبار وصلت إلى المدينة المنورة أن جمعا كبيرا من بني ثعلبة ومحارب تجمعوا يريدون الإغارة على أطراف المدينة، فسار إليهم النبي صلى الله عليه وسلم في أربعمائة وخمسين مقاتلا ما بين راكب وراجل، ليشعرهم ويشعر الأعراب بقوة المسلمين، واستخلف على المدينة عثمان بن عفان رضي الله عنه. وفي أثناء السير في الطريق أمسكوا برجل يقال له: جبار من بني ثعلبة، فأدخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعاه إلى الإسلام فأسلم، فضمه إلى بلال رضي الله عنه ليعلمه الإسلام، وصار دليلا لجيش المسلمين إلى أرض العدو، وقد علم المشركون من بني ثعلبة ومحارب بمسير المسلمين إليهم، فتفرقوا وفروا إلى رؤوس الجبال، أما النبي صلى الله عليه وسلم فقد وصل بجيشه إلى مكان تجمعهم، وهو الماء المسمي بذي أمر، وبقي في نجد مدة تقارب الشهر دون أن يلقى كيدا من أحد، وعاد بعدها إلى المدينة المنورة.
في هذه الغزوة أسلم دعثور بن الحارث الذي كان سيدا مطاعا في قومه بعد أن حدثت معه معجزة على يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد روى ابن كثير والبيهقي، وغيرهما أنه "لما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن جمعا من غطفان من بنى ثعلبة بن محارب تجمعوا بذي أمر يريدون حربه، خرج إليهم من المدينة يوم الخميس لثنتي عشرة خلت من ربيع الأول سنة ثلاث، واستعمل على المدينة عثمان بن عفان، فغاب أحد عشر يوما، وكان معه أربعمائة وخمسون رجلا، وهربت منه الأعراب في رؤوس الجبال، حتى بلغ ماء يقال له: ذو أمر، فعسكر به، وأصابهم مطر كثير، فابتلت ثياب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنزل تحت شجرة هناك، ونشر ثيابه لتجف، وذلك بمرأى من المشركين، واشتغل المشركون في شؤونهم، فبعث المشركون رجلا شجاعا منهم، يقال له غورث بن الحارث أو دعثور بن الحارث، فقالوا: قد أمكنك الله من قتل محمد، فذهب ذلك الرجل ومعه سيف صقيل، حتى قام على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسيف مشهورا، فقال: يا محمد! من يمنعك مني اليوم؟ قال: الله، ودفع جبريل في صدره، فوقع السيف من يده، فأخذه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: من يمنعك مني؟ قال: لا أحد، وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، والله لا أكثر عليك جمعا أبدا، فأعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم سيفه، فلما رجع إلى أصحابه، فقالوا: ويلك! مالك؟ فقال: نظرت إلى رجل طويل، فدفع في صدري، فوقعت لظهري، فعرفت أنه ملك، وشهدت أن محمدا رسول الله، والله لا أكثر عليه جمعا، وجعل يدعو قومه إلى الإسلام، قال: ونزل في ذلك قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ هم قوم أن يبسطوا إليكم أيديهم فكف أيديهم عنكم} (المائدة:11)".
وفي موقف النبي صلى الله عليه وسلم مع دعثور بن الحارث في غزوة ذي أمر تجلى حب النبي صلى الله عليه وسلم للعفو والصفح عمن أساء إليه، قال ابن حجر: "فمن عليه (عفا عنه)، لشدة رغبته صلى الله عليه وسلم في استئلاف الكفار؛ ليدخلوا في الإسلام". وقد ترك هذا الموقف النبوي الكريم أثرا كبيرا في أعراب هذه المنطقة من غطفان، وبين لهم أن النبي صلى الله عليه وسلم ليس رجلا شجاعا وكريما وعفوا فحسب، وإنما هو أيضا نبي مرسل؛ لأنه ليس من عادة الملوك والقادة أن يتركوا من وقف على رؤوسهم بالسيف مهددا بقتلهم دون أن يقتلوه، وليس من عادتهم الرحمة والتسامح إلى هذا الحد، مما كان لذلك أبلغ الأثر في تفكير هؤلاء الأعراب جديا في الدخول في الإسلام.
وقد ظهر في غزوة ذي أمر وغيرها من غزوات وأحداث من السيرة النبوية خصوصية من خصوصيات النبي صلى الله عليه وسلم، وهي عصمة وحفظ بدنه الشريف من القتل، فالسيرة النبوية مليئة بالأمثلة الدالة على ذلك، منها: عصمته وحفظه صلى الله عليه وسلم من محاولة أبي جهل وأبي لهب قتله. وحفظه يوم هجرته ممن حاصروا بيته بقصد قتله. وحفظه من محاولة سراقة بن مالك قتله أثناء الهجرة. وكذلك فشل محاولة قتله صلوات الله وسلامه عليه من دعثور بن الحارث في غزوة ذي أمر وغورث بن الحارث في غزوة ذات الرقاع.
قال الماوردي في "أعلام النبوة": "فمن معجزاته صلى الله عليه وسلم: عصمته من أعدائه، وهم الجم الغفير، والعدد الكثير، وهم على أتم حنق عليه، وأشد طلب لنفيه، وهو بينهم مسترسل قاهر، ولهم مخالط ومكاثر، ترمقه أبصارهم شزرا، وترتد عنه أيديهم ذعرا، وقد هاجر عنه أصحابه حذرا، حتى استكمل مدته فيهم ثلاث عشرة سنة، ثم خرج عنهم سليما، لم يكلم في نفس ولا جسد، وما كان ذاك إلا بعصمة إلهية، وعده الله تعالى بها فحققها، حيث قال: {والله يعصمك من الناس} (المائدة:67) فعصمه منهم".
فائدة
روى البخاري ومسلم في "صحيحيهما" قصة مشابهة لما حدث مع النبي صلى الله عليه وسلم مع دعثور بن الحارث في غزوة ذي أمر، فعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه، قال: (أقبلنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا كنا بذات الرقاع، قال: كنا إذا أتينا على شجرة ظليلة تركناها لرسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فجاء رجل من المشركين، وسيف رسول الله صلى الله عليه وسلم معلق بشجرة، فأخذ سيف نبي الله صلى الله عليه وسلم فاخترطه، فقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أتخافني؟ قال: لا، قال: فمن يمنعك مني؟ قال: الله يمنعني منك). قال ابن حجر في "الفتح": "ووقع عند الواقدي في سبب هذه القصة أن اسم الأعرابي دعثور، وأنه أسلم، لكن ظاهر كلامه أنهما قصتان في غزوتين، والله أعلم". وقال ابن كثير عند حديثه عن غزوة ذي أمر: "قال البيهقي: وسيأتي في غزوة ذات الرقاع قصة تشبه هذه، فلعلهما قصتان، قلت -القائل ابن كثير-: إن كانت هذه محفوظة فهي غيرها قطعا؛ لأن ذلك الرجل اسمه غورث بن الحارث أيضا لم يسلم، بل استمر على دينه، ولم يكن عاهد النبي صلى الله عليه وسلم ألا يقاتله، والله أعلم". وقال ابن حجر في "الإصابة" عند ترجمة دعثور بن الحارث: "دعثور بن الحارث الغطفاني...وقصته هذه شبيهة بقصة غورث بن الحارث المخرجة في "الصحيح" من حديث جابر، فيحتمل التعدد أو أحد الاسمين لقب إن ثبت الاتحاد".
والملاحظ في غزوة ذي أمر وما شابهها من غزوات أنها كانت تربية عسكرية عملية، تربى من خلالها الصحابة الكرام على السمع والطاعة، واكتسبوا منها خبرات عسكرية جديدة، أعانتهم على الوقوف أمام أعداء الله في المعارك الكبيرة بعدها، كما نرى من خلالها قدرة النبي صلى الله عليه وسلم في رصد تحركات العدو، وحكمته في مبادرته بالخروج لغزو أعدائه، الذين يكيدون له قبل أن يشتد ويستفحل أمرهم، ويصبحوا خطرا على الدولة المسلمة. وفيها أيضا إظهار لقوة المسلمين، وأنهم ليسوا قادرين على هزيمة من تحدثه نفسه بالاقتراب من المدينة المنورة فحسب، بل نقل المعركة إلى أرضه ومحاربته في عقر داره.