كيف نشأ التشكيك في قبول خبر الواحد في العقيدة

0 1616

هل نقبل خبر الواحد في مسائل المعتقد؟ سؤال كبير يدور في المجامع والأوساط العلمية المهتمة بدراسة الفرق الكلامية، حيث نرى موجة عظيمة تتعلق بالتشكيك في كثير من المعتقدات؛ لورودها من طرق غير متواترة، ولا ريب أن رد خبر الواحد المتعلق بالعقيدة هو منهج دخيل، وليس منهجا أصيلا في التعامل مع أحاديث المصطفى صلى الله عليه وسلم، واستلهام جوانب الاعتقاد والإيمان من أحاديثه، فكيف نشأ هذا الخلل؟

يقال أولا: تعرف (العقيدة) بأنها: ما يراد به الاعتقاد دون العمل، كعقيدة وجود الله، وبعثه الرسل، وجمعها: عقائد. وأما (خبر الواحد) فمصطلح حديثي، يقصد به: ما فقد شروط الحديث المتواتر أو أحدها، سواء كان رواته واحدا، أو عددا من الرواة، وهو مصطلح علمي يراد به توصيف نوع من الأحاديث النبوية، وبيان طبيعتها.

وقد مرت في العصور السابقة ألوان من الحراك العلمي، الذي استدعى تقسيم العلوم وكتابتها وفق أقسام منطقية واضحة المعالم، والشواهد في ذلك نجدها ماثلة وحاضرة في جميع أنواع العلوم، بحيث لا تكاد تخطئها العين، ومن كان له اطلاع واسع وقراءة معمقة لحركة التدوين العلمي عبر العصور الإسلامية يدرك أن "منهجة العلوم الشرعية" وبيان المعارف المتعلقة بها كانت هاجسا علميا، استولى على تفكير أهل العلم، وأخذ وقتا كبيرا منهم؛ تحقيقا لطموح كبير، وهو: ضبط العلوم وتقنينها؛ حفاظا عليها من الضياع والاندثار، وذلك ما استدعى قيام علماء الحديث على وجه الخصوص بتقسيم الأحاديث الواردة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى متواترة وآحاد، فكان الحديث المتواتر عندهم: ما يرويه جمع يستحيل في العقل تواطؤهم على الكذب، أو وقوعه منهم اتفاقا من غير قصد، عن مثلهم من أول السند إلى منتهاه. وأما حديث الآحاد فهو ما كان دون المتواتر.

ومع مرور الليالي والأيام، وتنامي حركة تدوين العلوم ومنهجتها، ووضع التعاريف والموضوعات والفروع المتعلقة بالمسائل العلمية بمختلف أنواعها، برز الخلاف في مسألة دلالات خبر الواحد، من جهة كونه يفيد اليقين، أو أنه يفيد الظن، بحيث لم تكد كتابات العلماء تخلو من تحقيق هذه المسألة الأصولية الشهيرة: هل يفيد خبر الواحد العلم أو الظن؟ وتباينت أنظار العلماء في هذه المسألة.

وحينما تناول العلماء هذه المسألة كان النقاش في ساحات العلم من الناحية النظرية فحسب، ولم يكن لذلك الخلاف أثر واضح في العصور الأولى، وحتى قبل عصور التدوين العلمي؛ لأن الجميع كانوا على طريقة واحدة، وهي: أنه يبلغهم الحديث من النبي صلى الله عليه وسلم، فيسمعونه، ويمتثلون له، ويرون أنه لا يسعهم غير ذلك، وبالمثل: كانوا يبلغونه لمن بعدهم؛ عملا بالتوجيه النبوي القائل: (بلغوا عني ولو آية)، رواه البخاري.

ولم يكن في قبولهم للأحاديث وتبليغهم لها أي فرق بين ما كان له علاقة بأصول الدين أو فروعه، طالما ثبتت عندهم أسباب قبوله؛ فشهدت كتب التاريخ حواراتهم ومواقفهم من أحاديث العقائد دون تفريق بين حديث متواتر وحديث آحاد، وبينت التزامهم بمقتضى تلك الأحاديث دون أن يكون لهم موقف متحفظ مسبق مما كان طريقه آحادا، فكان يقينهم بها كيقينهم بأحاديث الأحكام دون تفريق أو تمييز.

والشاهد على ما سبق أن أقدم النصوص العلمية الواردة عن أهل العلم فيما يتعلق بخبر الواحد هو ما ورد عن الإمامين، الشافعي، والبخاري، حيث لم يكن من منهجهما أي تفريق يذكر بين ما كان حديثا موضوع العقيدة، وآخر موضوعه الأحكام، ولعل نظرة في كتاب "الرسالة" للإمام الشافعي يؤكد ذلك بجلاء، فإنه كثيرا ما يكرر قوله: "تثبيت خبر الواحد" و"قبول خبر الواحد" على النحو المطلق دون قيد أو شرط. وكذلك صنع الإمام البخاري حينما أورد الأدلة على قبول خبر الواحد في "صحيحه"، وذكر منها ما يتعلق بباب العقائد، وهو الأمر الذي يجعلنا نقطع بتسوية البخاري بينهما.

يقول ابن القيم: "وقد ناظر الشافعي بعض أهل زمانه في ذلك، فأبطل الشافعي قوله، وأقام عليه الحجة، وعقد في "الرسالة" بابا أطال فيه الكلام في تثبيت خبر الواحد، ولزوم الحجة به، وخروج من رده عن طاعة الله ورسوله، ولم يفرق هو ولا أحد من أهل الحديث البتة بين أحاديث الأحكام، وأحاديث الصفات، ولا يعرف هذا الفرق عن أحد من الصحابة، ولا عن أحد من التابعين، ولا من تابعهم، ولا عن أحد من أئمة الإسلام، وإنما يعرف عن رؤوس أهل البدع ومن تبعهم".

ومع تسلل الفساد العقدي إلى الأمة عبر الزمان والمكان، ونشوء البدع الكلامية، وانتشار العقائد الزائغة، وبدافع -صادق أو كاذب- أريد به تقديس الله سبحانه وتعالى وتنزيهه عما لا يليق به من الصفات –بظن أصحاب تلك البدع العقدية- وزعمهم اقتضاء إثبات تلك الصفات للحوادث والمشابهة للمخلوقات، كانت أمامهم عقبة شاقة تدحض باطلهم، وهي سنة المصطفى -صلى الله عليه وسلم- الشاملة للأخبار المتواترة فما دونها:

- أما الأحاديث المتواترة، فاحتال أهل الباطل عليها بادعاء عدم قطعية دلالاتها، ثم صرفوا همهم في تقديم التأويلات الباطلة لها؛ حتى يفرغوا تلك الأحاديث عن مضامينها العقدية.

-وأما أحاديث الآحاد، وهي الأكثر عددا، والأصرح دلالة، فأعياهم بحث الجواب عنها، وإبطال مدلولاتها، وتأويل معانيها، فكان الطريق الأسهل هو سد بابها بالجملة، فردوا أحاديث الآحاد من أصلها، ومنعوا الاستدلال بها في العقيدة، ولكن كيف؟ وما مستندهم الذي يمكن أن يمرر لهم هذه الحيلة؟

عندها توجهت أنظارهم تجاه الخلاف العلمي القائم حول دلالة خبر الواحد، ومدى إفادته للعلم، فاستغلوا قول من قال: إن أحاديث الآحاد تفيد الظن، وقالوا: كيف يمكن تأسيس الاعتقاد، والذي نعرفه بالاعتقاد الجازم المطابق للواقع، كيف نؤسسه ونبنيه على ما كان ظنيا ومحتملا للخطأ؟ ومن ثم ردوا كل العقائد التي رويت بطريق أخبار الآحاد، فرارا منهم من التجسيم -كما زعموا- وهروبا من التعطيل، بل عمموا المسألة في السنة كلها متواترها وآحادها بناء على قاعدة: "بناء العقائد على الأدلة القطعية فحسب". فإذا كانت نصوص القرآن، والسنة المتواترة التي لا تفيد القطع من جهة الدلالة، ونصوص أخبار الآحاد لا تفيد القطع من الجهتين معا: جهة الدلالة وجهة السند، فماذا بقي من الدين إذن؟

على أنه ينبغي إنصاف هؤلاء القائلين بعدم حجية خبر الواحد في العقائد، فالله سبحانه وتعالى يقول: {وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى} (الأنعام:152)، فلا يمكن التسوية بين من كان يريد إضفاء الشرعية على بدعته الكلامية، ومن كان حريصا على سلامة المنطلقات العقدية، وهو ما حدث للمتأخرين من الأصوليين والفقهاء وأهل العلم، وتشهد لهم كتبهم التي ردوا فيها تلك الأحاديث مع صدق نيتهم في تحرير المسألة، واشتباه مسألة الظن عليهم.

وهكذا تم استثمار الخلاف في هذه المسألة لنشر بدعة التفريق بين الأحاديث في باب المعتقد، وإلا فالسلف كلهم من الصحابة والتابعين ومن بعدهم، كانوا يذهبون إلى حجية خبر الواحد، ويقولون بوجوب العمل به بشروطه، ولم يفرقوا في ذلك بين ما كان متعلقا بالعقيدة، وما كان من جملة الأحكام أو الأخبار، وسيأتي مزيد تفصيل في الأدلة على ذلك في وقفة أخرى بإذن الله سبحانه. 

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة