- اسم الكاتب:إسلام ويب
- التصنيف:مباحث وقواعد حديثية
يمكن تعريف مدار الحديث أو مدار الإسناد بأنه الراوي الذي تلتقي عنده أسانيد ذلك الحديث وطرقه، أو هو الراوي الذي تتفرع من عنده الأسانيد، في كتب الحديث بأنواعها، الصحاح والمسانيد والسنن، وبقية المصنفات التي تعتمد مبدأ الإسناد. فينفرد بذلك الحديث مطلقا، ثم يرويه عنه اثنان فأكثر.
ولا تخفى أهمية معرفة مدار الحديث، في أنه يوقفنا على اللفظ الصحيح للحديث؛ وذلك بتتبع ألفاظه عند الرواة عن الراوي الذي هو (مدار الحديث)، وأنه يرفع الجهالة عن الراوي (مدار الحديث) من خلال تتبع الرواة عنه، والوقوف على القرائن التي تدل على ذلك. ويمكن حصر فائدة البحث عن مدار الحديث من خلال عدة اتجاهات، منها: نقطة أو طبقة تفرد الراوي في الحديث، فيكون الراوي هو مصدر الغرابة أو التفرد، فقد يكون مدار الحديث هو الصحابي، أي أنه لم يروه عن النبي صلى الله عليه وسلم غيره، وقد يكون هذا الحديث قد روي عن أكثر من صحابي، وقد يكون الحديث الذي رواه صحابي واحد انتشر عنه إلى عدد كبير من الرواة، أو لم يروه عنه إلا تابعي واحد، وهكذا إلى آخر الإسناد.
ويمكن عند جمع طرق الحديث أن نجد أن هذا الحديث قد رواه عدد من أصحاب الصحاح أو السنن، فإن كان بعض رواته قد اشترط الصحة، فهنا لسنا بحاجة إلى البحث في المصنفات الأخرى التي روت الحديث، إذا وجد في كتب الصحاح مثلا، ومثاله لو أن حديثا رواه البخاري في "صحيحه"، ورواه أحمد في مسنده، فهنا لسنا مضطرين للبحث في إسناد مسند الإمام أحمد؛ وذلك لأن الإمام البخاري قد اشترط الصحة في كتابه، وبهذا فإن روايته للحديث تكون احتجاجا، وبما أنه أورد الحديث فيكون قد أراحنا من البحث والتدقيق في إسناده أو في تتبع طرقه.
وتعتمد طريقة تحديد المدار على جملة الكتب التي نريد البحث فيها، وهي ما يسمى بنطاق البحث، كأن نقول: مدار الحديث في الكتب الستة على الراوي فلان، أو مدار الحديث في الكتب التسعة على فلان، وقد نقول: مدار هذا الحديث عند الشيخين (البخاري ومسلم) على فلان، وكلما زاد نطاق البحث تعسرت الدقة في الوقوف على المدار الصحيح للحديث، فهناك فرق بين تحديد مدار الحديث بين الكتب الستة مثلا وبين محاولة تقصي طرق الحديث عند كل من رواه أو أورده من المصنفات، ولا شك أن الحالة الثانية قد توقعنا في تيه، لعدم ثبات صحة أو سلامة مثل هذه الأسانيد في المصنفات غير المعتمدة. من هنا يرى كثير من الباحثين أن تحديد المدار ينبغي أن ينحصر في الكتب التسعة أو في الكتب المشهورة، وهي: الموطأ، وصحاح البخاري ومسلم، وابن حبان، وابن خزيمة، وسنن الترمذي وأبي داود، والنسائي، وابن ماجه، ومسند أحمد، والدارمي. ومستدرك الحاكم.
ويتم معرفة مدار الحديث بجمع طرق الحديث، والنظر فيها مجتمعة، ومعرفة مراتب رواتها، من حيث العدالة والضبط، وأقوال العلماء فيها أكثر من أن تحصى، ومن ذلك قول علي بن المديني: الباب إذا لم تجمع طرقه لم يتبين خطؤه، وقال ابن المبارك: إذا أردت أن يصح لك الحديث فاضرب بعضه ببعض. وقال يحيى بن معين: اكتب الحديث خمسين مرة، فإن له آفات كثيرة.
وقال الخطيب البغدادي: والسبيل إلى معرفة علة الحديث أن يجمع بين طرقه، وينظر في اختلاف رواته، ويعتبر بمكانهم من الحفظ ومنزلتهم في الإتقان والضبط. وقال الحافظ ابن حجر: ويحصل معرفة ذلك بكثرة التتبع وجمع الطرق. وقال ابن رجب: معرفة مراتب الثقات، وترجيح بعضهم على بعض عند الاختلاف، إما في الإسناد، وإما في الوصل والإرسال، وإما في الوقف والرفع ونحو ذلك، وهذا هو الذي يحصل من معرفته وإتقانه وكثرة ممارسته الوقوف على دقائق علل الحديث. وقال ابن الصلاح: ويستعان على إدراكها بتفرد الراوي وبمخالفة غيره له مع قرائن تنضم إلى ذلك تنبه العارف بهذا الشأن على إرسال في الموصول، أو وقف في المرفوع، أو دخول حديث في حديث، أو وهم واهم بغير ذلك.
ينبغي أن تبدأ الخطوة الأولى في دراسة الإسناد من تحديد الراوي الذي عليه مدار الحديث، والوقوف على حقيقته من حيث العدالة والضبط، من حيث اسمه ونسبه ومولده ووفاته وموطنه، وأشهر شيوخه، وتلاميذه، وهو أمر ليس بالسهل، وقد اعتنى علماء الحديث وأهل الجرح والتعديل بهذا الأمر كثيرا، واهتموا بإزالة الإبهام عن الرواة، وتعيين أسمائهم، وأسماء آبائهم وألقابهم، وكناهم، وأنسابهم، وميزوا بين الرواة تمييزا دقيقا، واهتموا بتواريخ الرواة من حيث الولادة والوفاة، وتظهر أهمية هذا في تحديد أو إثبات اللقاء بين الرواة أو نفيه، ومن هنا قال سفيان الثوري عبارته المشهورة: لما استعمل الرواة الكذب، استعملنا لهم التاريخ. وقال: حفص بن غياث: إذا اتهمتم الشيخ فحاسبوه بالسنين. وقال حسان بن زيد: لم نستعن على الكذابين بمثل التاريخ، نقول للشيخ: سنة كم ولدت؟ فإذا أقر بمولده عرفنا صدقه من كذبه، وقال السخاوي: تواريخ الرواة والوفيات فن عظيم الوقع من الدين، قديم النفع به للمسلمين، لا يستغنى عنه.
ومن فوائد الوقوف على مدار الحديث نتأكد من سلامة الإسناد إلى الراوي عن المدار، وأنه ثابت عنه؛ فإن لم يكن ثابتا فلا يعتمد عليه، ولا يذكر إلا من باب التنبيه عليه، ونتأكد من عدم وجود اختلاف على أن هذا الراوي هو مدار الحديث، فإن كان هناك اختلاف يدرس للتحقق من الرواية الراجحة، ثم نقوم بدراسة حال هذا الراوي وبيان درجته مـن حيث الرواية؛ لأن تفرده لا يقبل إلا إذا كان ثقة، أو ممن يعتبر تفرده، عند ذلك نقول: اختلف على فلان وهو مدار هذا الحديث، ورواه فلان، وفلان عنه، ويذكر وجوه الاختلافات عنه.
بعد تحديد مدار الحديث، وعمل ما يشبه شجرة لطرق الحديث؛ فالراوي الذي انتشر عنده الحديث، وتعددت الطرق من بعده، نقرر أن ترجمة الرواة الذين هم فوق المدار هو الأهم، لأنهم عمد في هذا الإسناد، وينبغي ترجمتهم بعناية، أما الرواة الذين هم تحته، سواء كانوا ثقات أو غير ثقات ليس لهم شأن في صحة نسبة هذا الحديث إليهم، فينبغي أن تنصب عنايتنا على الراوي (مدار الحديث) وعلى عمد الإسناد الذين هم فوقه.
ومما ينبغي التنبيه إليه في هذا المقام، أن الترجمة المطلوبة والمهمة هي الترجمة المنقبية والترجمة المعرفية العلمية؛ فالترجمة المنقبية تتعلق بالراوي من حيث العدالة والضبط، ونعني بالترجمة المعرفية ما يتعلق بشخصية المترجم له وهويته، ويراد بالترجمة الحديثية الناقدة، ما يميز الراوي عن غيره، ممن يشترك معه في الاسم أو اللقب أو الكنية، ثم شيوخه، وكيفية تلقي عنهم وسماعه منهم، خاصة لهذا الحديث الذي نقوم بدراسته، فالترجمة الحديثية النقدية هي الترجمة التي تنفع في تقويم حال الراوي من جهة عدالته، وضبطه، ولا سيما إذا كان السند يدور عليه، ولا يعرف الحديث إلا من جهته، وهذه الترجمة تختص كذلك بأعمدة الإسناد، وهم مدار الحديث وما علا، الذين يتفرد كل واحد منهم بالحديث عن شيخه إلى الصحابي.
يقسم علماء الجرح والتعديل طبقات رواة الحديث على أربع طبقات أصلية، ثلاث منها تقع ضمن دائرة التعديل، وهي: مرتبة الاحتجاج، ومرتبة الاختبار والنظر، ومرتبة الاعتبار، وهناك المرتبة الرابعة التي تختص بدائرة الجرح، وهي مرتبة الترك، فإن تفرد الراوي وكان من المرتبتين الأوليين مرتبة الاحتجاج، أو الاختبار والنظر فلا حاجة إلى التطويل في نقل أقوال النقاد فيه، ومن كان من المرتبة الثالثة فنحتاج إلى مزيد من أقوال النقاد فيه حتى نرفعه إلى مرتبة الاحتجاج، من خلال محاولة تفسير أسباب الاختلاف فيه، ثم محاولة الجمع بين الأقوال المتقاربة، وهكذا.
كما قلنا بداية: إنه قد تكون الغرابة في جيل الصحابة فقط، بأن يكون الحديث روي عن النبي صلى الله عليه وسلم بواسطة صحابي واحد، ثم رواه عنه تابعيان، ثم رواه عن التابعين راويان أو أكثر، وهكذا في بقية الطبقات، فإذا كان الرواة عن الصحابي ما بين محتج به أو معتبر بحديثه، فهنا نحتاج أن نعمل ترجمة معرفية بالصحابي الجليل، ثم ترجمة لكل راو عنه من هؤلاء الرواة، حتى نصل إلى المصدر الذي أورد الحديث، كالصحاح أو السنن.
أما إذا كانت غرابة الحديث في التابعي، أو من هو دونه، فهنا لا بد من أن نعمل ترجمة لمدار الحديث، فما علا، وهو التابعي نفسه، حيث نترجم له ترجمة نقدية مع ملاحظة دلالات ألفاظ النقاد وتفاوت الرواة الموصوفين بوصف واحد، أما الصحابي فإذا كان من المشهورين فلا حاجة بنا إلى تعريفه؛ لأن معروف مشهور، والصحابة كلهم عدول، وإذا كان من غير المشهورين، فنكتفي بترجمة معرفية؛ لأن من ثبتت صحبته ثبتت عدالته.
وتتم دراسة الإسناد بعد معرفة مدار الحديث، ونقطة تفرده، والتأكد من عدم وجود مخالفة له، فإذا تفرد الراوي بإسناده أو متن معين نظرنا هل هذا الراوي أهل لأن يقبل تفرده، فإذا خولف ننظر في المخالفة هل هي في الإسناد أم في المتن، فإذا كانت في الإسناد وصح الحديث من الطرق الأخرى فيكون قد حصل حفظ المتن، وحصل الوهم في السند، فهذا لا يؤثر في التشريع، ولا تكون المخالفة علة قادحة، يعل بها الحديث، وإن كان الوهم والخلاف قد حصل في المتن، ننظر هنا هل نقبل حديث هذا الذي خالف مدار الحديث، بمعنى هل نقبله، أم نرده، أم نتوقف فيه، فإذا كان الذي خالفه أوثق منه من حيث العدالة والضبط، أو أحفظ منه أو لا يحدث إلا من كتابه، أو كان أفقه منه، أو أكثر منه ملازمة لشيخه إلى غير ذلك من وجوه التعديل، نتبع طرق العلماء حول هذا الأمر، وهو بحث طويل يصعب حصره هنا، وللعلماء فيه أساليب معينة ذكرها الدكتور عداب الحمش في كتابه "تخريج الحديث ونقده، دراسة وتأصيل"، وقد أجاد فيه وأفاد، فجزاه الله خيرا.