من حكم تسمية الفاتحة بـ(الأم)

0 1412

تعددت أسماء سورة الفاتحة المباركة حتى أوصلها السيوطي إلى خمسة وعشرين اسما، ومن أشهر أسمائها: أم القرآن، وأم الكتاب.

تسمية الفاتحة بـ(الأم)

ورد ذلك فيما رواه البخاري عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (أم القرآن هي السبع المثاني والقرآن العظيم). وما رواه أحمد والترمذي عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (الحمد لله أم القرآن، وأم الكتاب، والسبع المثاني)، وهذان الاسمان اسمان متواتران على ألسنة الصحابة رضي الله عنهم وفقهاء الأمة.

من حكم تسميتها بأم القرآن وأم الكتاب والقرآن العظيم

الحكمة الأولى: لأن أصول مقاصد القرآن موجودة فيها

أولا: تجمع أصول مقاصد التنزيل القرآني:

فقد لخصت هذه السورة المباركة على قصرها مقاصد القرآن، ومحاوره الكلية، وأجملت معالمه ومنائره، كما تضمنت أسراره وذخائره؛ ونبهت إلى أصول الدين من الإلهيات، والنبوات، وعمارة الحياة، وقدمت أسس التصورات عن الآخرة والاستعداد لها، وقسمت العالم إلى الأقسام الحقيقية لسكانه، وأسست للتربية، والتخلية، والتصفية، والتزكية، وما جاء بعدها من سور، فهو توسيع لأسسها؛ وتبيين لمجملها وأصول دروسها، وذلك لحاجة النفس الإنسانية للتفصيل، ولزيادة البيان، ولهذا تسمى أم القرآن؛ ولذا قال القرطبي: "وفي الفاتحة من الصفات ما ليس لغيرها؛ حتى قيل: إن جميع القرآن فيها".

ثانيا: تجمع كليات المشاعر التي يبنيها القرآن الكريم في النفس والمجتمع:

حوت الفاتحة أسس العلوم وأصول الأعمال، وكما تضمنت دقائق المعرفة، فقد تضمنت ما يسمو بالبشر عقلا وعاطفة، وقد لمح سيد قطب رحمه الله في أثناء تأمله في سورة الفاتحة هذه الأنوار العظيمة الخاطفة، فقال بصدق يقين مستشعرا ظلالها الوارفة: "إن في هذه السورة من كليات العقيدة الإسلامية، وكليات التصور الإسلامي، وكليات المشاعر والتوجهات ما يشير إلى طرف من حكمة اختيارها للتكرار في كل ركعة، وحكمة بطلان كل صلاة لا تذكر فيها".

وقد اختلفت عبارات أهل العلم في تحديد مقاصد القرآن مع اتفاقهم في المضمون غالبا، فبعضهم قرر بأنها ثلاث مقاصد، وبعضهم جعلها أربعا، وبعضهم زاد على ذلك، ولنأخذ ثلاثة نماذج لذلك:

النموذج الأول: مقاصد القرآن عند الرازي أربعة: الإلهيات، والمعاد، وإثبات القضاء والقدر لله تعالى، والنبوات:

فقوله سبحانه: {الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم} يدل على الإلهيات، وهذا هو المقصد الأول، وقوله: {مالك يوم الدين} يدل على المعاد، وهذا هو المقصد الثاني، وقوله: {إياك نعبد وإياك نستعين} يدل على نفي الجبر والقدر وإثبات الاختيار وعلى إثبات أن الكل بقضاء الله وقدره، وهذا هو المقصد الثالث، وقوله: {اهدنا الصراط المستقيم، صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين} يدل على النبوات، وهذا هو المقصد الرابع.

النموذج الثاني: مقاصد القرآن عند محمد رشيد رضا: جعل الأصول الكلية والمقاصد العامة التي نزل القرآن لأجلها خمسة مقاصد كلية:

المقصد الأول: التوحيد لأن الناس كانوا كلهم وثنيين، وإن كان بعضهم يدعي التوحيد، وهذا المقصد نجده في قوله تعالى: {الحمد لله رب العالمين} [الفاتحة:2]، ولذلك لم يكتف  في الفاتحة بمجرد الإشارة إليه بل استكمله بقوله: {إياك نعبد وإياك نستعين} فاجتث بذلك جذور الشرك والوثنية التي كانت فاشية في جميع الأمم، وهي اتخاذ أولياء من دون الله تعتقد لهم السلطة الغيبية، ويدعون لذلك من دون الله، ويستعان بهم في قضاء الحوائج.

المقصد الثاني: الوعد والوعيد: وعد المستقيم بحسن المثوبة، ووعيد المجرمين بسوء العقوبة. والوعد يشمل ما للأمة وما للأفراد فيعم نعم الدنيا والآخرة وسعادتهما، والوعيد كذلك يشمل نقمهما وشقاءهما، فقد وعد الله المؤمنين بالإستخلاف في الأرض، والعزة والسلطان والسيادة، وأوعد المخالفين بالخزي والشقاء في الدنيا، كما وعد بالنعيم. وأوعد بنار الجحيم في الآخرة، ونجد ذلك في ذكر الرحمة في الفاتحة مرتين وهي التي وسعت كل شيء؛ بيانا بأن الشرع لمصلحتنا ومنفعتنا، وقوله تعالى: {مالك يوم الدين} يتضمن الوعد والوعيد معا.

المقصد الثالث: العبادة التي تحيي التوحيد في القلوب وتثبته في النفوس، ونجد ذلك في قوله تعالى: {إياك نعبد وإياك نستعين} [الفاتحة:5].

المقصد الرابع: بيان سبيل السعادة وكيفية السير فيه الموصل إلى نعم الدنيا والآخرة، ونجد ذلك في قوله تعالى: {اهدنا الصراط المستقيم * صراط الذين أنعمت عليهم} [الفاتحة:6-7].

المقصد الخامس: قصص من وقف عند حدود الله تعالى وأخذ بأحكام دينه، وأخبار الذين تعدوا حدوده، ونبذوا أحكام دينه ظهريا لأجل الاعتبار، واختيار طريق المحسنين، ومعرفة سنن الله في البشر، ونجد ذلك في قوله تعالى: {غير المغضوب عليهم ولا الضالين} [الفاتحة:7].

النموذج الثالث: نموذج الطاهر بن عاشور فقد قرر مقاصد القرآن الكلية بصورة أخرى وجعلها ثلاثة أنواع:

النوع الأول: الثناء على الله ثناء جامعا لوصفه بجميع المحامد، وتنزيهه عن جميع النقائص، ولإثبات تفرده بالإلهية، وإثبات البعث والجزاء، وذلك من قوله: {الحمد لله} إلى قوله: {ملك يوم الدين}.

النوع الثاني: الأوامر والنواهي من قوله: {إياك نعبد}.

النوع الثالث: الوعد والوعيد من قوله: {صراط الذين} إلى آخرها.

فهذه هي أنواع مقاصد القرآن كله، وغيرها تكملات لها؛ لأن الأهداف الغائية الكبرى ترجع إلى صلاح الدارين، وذلك يحصل بالأوامر والنواهي، ولما توقفت الأوامر والنواهي على معرفة الآمر، وأنه الله الواجب الوجود خالق الخلق، لزم تحقيق معنى الصفات، ولما توقف تمام الامتثال على الرجاء في الثواب والخوف من العقاب لزم تحقق الوعد والوعيد.

وقد يؤيد هذا النموذج في تقسيم المقاصد بما ورد في الصحيح في: {قل هو الله أحد} [الإخلاص:1] أنها تعدل ثلث القرآن؛ لأن ألفاظها كلها ثناء على الله تعالى.

الحكمة الثانية: لأنها أساس جميع تفصيلات القرآن ومرجعها:

فمواعظه، ونظمه، وتشريعاته، وقصصه، وأخباره، وأحكامه، وسائر سوره جميعا ترجع إليها؛ فإن أم كل شيء هي أصله، وسميت مكة: (أم القرى)؛ لأنها الأم التي ترجع إليها جميع القرى، وقد قيل: إن الأرض دحيت منها، وعندما نقول: (أما) لا يمكن للشخص أن يكون لديه أكثر من أم، ولذلك لا يمكن أن يوجد في المصحف، ولا في الكتب السابقة سورة مثل الفاتحة، و(الأم) أيضا هي الراية التي يجتمع عليها وحولها الناس، كما قال ذي الرمة يصف الرمح الذي ترفع عليه الراية:

                  وأســمر، قــــوام إذا نـــام صـحــبتــي     خفيف الثياب لا تواري لــــه أزرا

                  عـلى رأســـه أم لــنا نقتــدي بهـــــا     جمــاع أمور لا نعــــــاصي لها أمرا

                  إذا نزلت قيـــل: انزلوا، وإذا غــدت   غـــدت ذات برزيق ننـــال بهـــا فخرا

الحكمة الثالثة: لأنها هي المقدمة التي افتتح بها القرآن الكريم في الترتيب المصحفي لتدل على بقية سوره:

كما قال البخاري: "وسميت (أم الكتاب) لأنه يبدأ بكتابتها في المصاحف، ويبدأ بقراءتها في الصلاة"، وبها وفيها تظهر براعة الاستهلال، وجمال التقدمة لما في القرآن من أخبار وأحكام وأمثال، وهي تؤسس لما حوته سوره من تربية وتحلية للأقوال والأعمال؛ ولذلك فإن كل سورة في القرآن الكريم لا بد أن تجد إشارة لها في الفاتحة، وهذا إعجاز عجيب، وجمال واسع رحيب نتحدى أن يوجد في كتاب آخر بالاختصار والجمال اللفظي والمعنوي الذي يوجد في الفاتحة:

ففي (سورة البقرة): كلام عن خلافة الإنسان في الأرض، وكيفية بناء ذلك وفق التشريعات والنظم الإيمانية والحياتية، وأقسام العالمين في التصور الإيماني لبناء الحياة، وقد مهد الله لذلك في الفاتحة، فذكر الله سبحانه (العالمين) في قوله تعالى: {الحمد لله رب العالمين} [الفاتحة:2]، وذكر أسس الخلافة في الأرض في الفاتحة من خلال التعريف به سبحانه وتعالى، وبصراطه، وبطريق أوليائه، وبسبل أعدائه.

وفي (سورة البقرة)، و(سورة المائدة) حديث تفصيلي عن الأحكام، والشرائع في العبادات، والمعاملات وأمور الحياة، وهذا تفصيل لقوله تعالى: {إياك نعبد} [الفاتحة:5].

وفي (البقرة)، و(آل عمران) و(المائدة) و(براءة) حديث عن العالم، ومنهم: المسلمون، واليهود، والنصارى، فهو تفصيل للمنعم عليهم، والمغضوب عليهم، والضالين ممن ذكرهم الله في الفاتحة في قوله سبحانه وتعالى: {صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين} [الفاتحة:7].

وفي سور الأنبياء، والمؤمنون، والشعراء حديث عن الأنبياء، فهو حديث عن المنعم عليهم.

وفي سور القيامة، والتكوير، والانفطار، والانشقاق حديث عن القيامة، فهو تفصيل لقوله تعالى: {مالك يوم الدين} [الفاتحة:4].

وفي سورة النساء حديث عن حقوق الضعفاء من الأطفال، والرجال، والنساء، وجنس الإنسان كغيره من المخلوقات ضعيف؛ فهو محتاج إلى الاستعانة بالعظيم الكريم اللطيف سبحانه وتعالى ليتقوى ويتحرك، فهو تفصيل لكيفية الاستعانة القلبية والشرعية والحقوقية المشار إليها في قوله -تعالى ذكره- {وإياك نستعين} [الفاتحة:5]؛ فمن عون الله له تشريعه للعبادات والمعاملات، التي يشكل الالتزام بها الخطة الحقيقية للنجاح في هذه الحياة، ومن خلال ذلك بين الله واجبات الأفراد والمجتمعات وحقوقهم، ليجدوا السعادة الحقيقية الماتعة في الدارين: الدنيا والآخرة.

فكل سورة في القرآن الكريم تجد الفاتحة قد قدمت لها، وأشير فيها إلى أساس موضوعاتها. 

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة