نحو رؤية إعلامية نموذجية

0 1620
  • اسم الكاتب:د. خالد سعد النجار

  • التصنيف:الإعلام

الإعلام كلمة قد ترفع أقواما وتضع آخرين، وقد تؤجج صراعا أو تلململ شتاتا، تبني مجدا أو تهدم صرحا، تدفع للأمام أو تقهقر للخلف..
الإعلام صناعة الكلمة التي تبلور الأفكار، وتغير الاتجاهات، وتصنع الآراء، وترسخ القيم، وتعبر عن نبض الأمة وهمومها وقضاياها..
الإعلام (مرئيا ومسموعا ومقروءا) قضية جوهرية تمس الهوية والمواطنة والحرية المسئولة والرسالة والهدف..
الإعلام يستمد قوته من تنوعه (تربية، وتثقيفا، وتحليلا، ومواكبة، وترفيها) وليس قصره على الترفيه وحده أو الانحياز المخل والتطبيل الفج لترويج مصالح أو تأجيج غرائز أو التشهير بالمخالف.

والإعلام كالرفقاء لا يعرفون إلا عند المواقف والخطوب، في لحظات نكون أحوج فيها للصدق وأمانة النقل والتقييم الموضوعي النزيه للحدث دون ضجة إعلامية خاوية لا نتحصل منها إلا على الفرقعات والصخب الذي لا طائل منه إلا الفشل في المعالجة والإخفاق في الخروج من الأزمة.

والإعلام شأنه شأن أي قضية ورسالة يحتاج إلى خشية الله تعالى والصدق، ومجافاة الهوى، وتحمل عبء الأمانة عن قناعة ورضا وإيمان بأهميتها ومسئوليتها للعملية الإعلامية قاطبة.

وإعلام الريادة لا يستغني بحال من الأحوال عن ركائز القيم، فالسبق الصحفي لا يعني هتك الأستار وانتهاك الحرمات، والمهنية لا تعني تناول كل غث وسمين، واختلاط الحابل بالنابل، وتبني الشائعات دون التحقق والتثبت من الأخبار. قال تعالى: {ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا} [الإسراء: 36].
يقول سيد قطب: "وهذه الكلمات القليلة تقيم منهجا كاملا للقلب والعقل، يشمل المنهج العلمي الذي عرفته البشرية حديثا جدا، ويضيف إليها استقامة القلب ومراقبة الله، ميزة الإسلام على المناهج العقلية الجافة! فالتثبت من كل خبر ومن كل ظاهرة ومن كل حركة قبل الحكم عليها هو دعوة القرآن الكريم، ومنهج الإسلام الدقيق. ومتى استقام القلب والعقل على هذا المنهج لم يبق مجال للوهم والخرافة في عالم العقيدة، ولم يبق مجال للظن والشبهة في عالم الحكم والقضاء والتعامل، ولم يبق مجال للأحكام السطحية والفروض الوهمية في عالم البحوث والتجارب والعلوم".

وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: [إنك إن اتبعت عورات الناس؛ أفسدتهم أو كدت أن تفسدهم][صحيح، أبو داود]،  وقال -صلى الله عليه وسلم-: (يا معشر من أسلم بلسانه ولم يفض الإيمان إلى قلبه، لا تؤذوا المؤمنين ولا تعيروهم ولا تتبعوا عوراتهم، فإنه من تتبع عورة أخيه المسلم، تتبع الله عورته، ومن يتبع الله عورته، يفضحه ولو في جوف رحله][حديث حسن، رواه الترمذي]. وقال -صلى الله عليه وسلم-: [بئس مطية الرجل زعموا][حديث صحيح، رواه أحمد].
قال المناوي: "أراد به النهي عن التكلم بكلام يسمعه من غيره ولا يعلم صحته، أو عن اختراع القول بإسناده إلى من لا يعرف فيقول زعموا أنه قد كان كذا وكذا؛ فيتخذ قوله زعموا مطية يقطع بها أودية الإسهاب.. وأكثر ما ورد في القرآن فهو في معرض الذم.. قال الخطابي: وأصل هذا أن الرجل إذا أراد الظفر لحاجة والسير لبلد ركب مطية وسار فشبه المصطفى - صلى الله عليه وسلم- ما يقدم الرجل أمام كلامه ويتوصل به لحاجته من قولهم زعموا بالمطية، وإنما يقال زعموا في حديث لا سند له ولا يثبت، فقدم المصطفى صلى الله عليه وسلم من الحديث ما هذا سبيله وأمر بالتوثق فيما يحكي والتثبت فيه لا يرويه حتى يجده معزوا إلى ثبت". قال -صلى الله عليه وسلم-: [كفى بالمرء إثما أن يحدث بكل ما سمع][صحيح الجامع: 4480]، وفي رواية [كفى بالمرء كذبا أن يحدث بكل ما سمع][صحيح الجامع: 4482].

العوز المادي:
أيضا العوز المادي من أهم معوقات الرسالة الإعلامية الهادفة والنبيلة؛ لأنه يدفعها إلى الخضوع أمام المغريات المادية التي تمتلكها الأحزاب ويمتلكها رجال السلطة ورجال المال والأعمال، وبالتالي تفقد هذه المؤسسات حياديتها ومصداقيتها وتنتهج السبيل الذي تفرضه طغمة الممولين من خدمة أجندات خاصة ومصالح ذاتية.

لكن للأسف الجنوح الإعلامي العربي صار طوفانا جارفا لا يلوي على شيء، حين غلبت عليه العلمنة وقاد مسيرته من رضعوا من ألبان الغرب وتربوا على موائده، فجاء إعلاما مطموس الهوية ينعق بما يردده الغرب دون تميز ولا تمحيص سواء على الصعيد الفكري أو العقدي أو حتى الترفيهي.

لقد حول الإعلام العلماني وجهه عن هموم المجتمع الحقيقية من بطالة وأزمات اقتصادية وانسداد سياسي وضحالة معرفية.. وانشغل بقضايا أبعد ما تكون عن الواقع. فعلى سبيل المثال تقول الدكتورة سارة السويعد: الإعلام جعل المرأة ألعوبة وشهوة، وتسلية ومتعة، فأي تكريم أعطاها الإعلام؟! وأي رفعة وهبها الإعلام؟!.. الإعلام افتعل مشكلة داخل مجتمعنا، ليس لها وجود، ومع كثرة كذبه وخداعه صدقنا هذه الأكذوبة الكبيرة، وهي أن المرأة في مجتمعنا مظلومة، لم تعط حقوقها، لم تعط حريتها، لم تعط كامل تصرفها في مالها، ولما جئنا ننظر إلى هذه الدعوى، فإذا هي سراب لا حقيقة لها، نعم، قد تحدث أخطاء من أفراد، لكن الإعلام صور مجتمعنا بأكمله بهذه الصورة، ليحث المرأة على التمرد على زوجها وعلى مجتمعها، وقبل ذلك على أحكام ربها، جاعلا شعاره: المطالبة بحقوق المرأة؛ لتضيع مطالب المرأة الحقيقية بمطالب وهمية خداعة، وتطورات مزيفة - والله المستعان - بل إن المضامين الإعلامية اليوم تدور حول الاهتمامات التقليدية للمرأة، التي لا تتجاوز المطبخ وأدوات الزينة والموضة وتبعاتها.

أين حديث الإعلام عن المرأة المسنة والعجوز؟! أين هم من المطلقات والأرامل؟! أين المشاريع لإنقاذ المرأة من الابتزاز الجنسي الذي تتعرض له في الأماكن المختلطة، أو الذين يستغلون ضعفها وعوزها وغياب رب الأسرة عنها؟! أين الحديث عن المرأة السجينة، والكلام عن مشاكلها، وإيجاد الحلول لها؟! أين الحديث عن المراهقات، وما يعانيه الآباء والأمهات من مشاكلهن، وكيفية التعامل معهن، وإيجاد الحلول المناسبة؟! أين البحث عن فرص لتوظيف وتدريب الفتيات؟! وإلى الله المشتكى".

أيضا الإعلام الغير منضبط تربويا أفرز معضلة دخول الأطفال عالم الكبار قبل الأوان فيما يسمى بـ اختراق المرحلة العمرية، دون أن تتوفر لديهم الخبرة اللازمة لذلك؛ فقد أثبتت الدراسات أن برامج التلفاز تتيح للأطفال أساليب للتعامل ما كانوا يدركونها أو يمارسونها؛ مثل عمليات الهروب خارج الحدود، وتعاطي المخدرات، والقتل والاعتداء، وأساليب التحايل والكذب، فيعيش الطفل عالما غير عالمه، وعمرا غير عمره، فلا يربى التربية السليمة، ولا ينشأ النشأة الطبيعية التي يجب أن ينشأها ويشب عليها.

تقول الأستاذة لبنى شرف: إعلامنا يا مسلمين ينبغي أن يكون عميق الفكرة، غزير المضمون، قويا في الطرح من غير تعقيد، واضح الأسلوب من غير سطحية أو استخفاف للعقول، يجمل القشرة بالقدر الذي يشد الناظر إلى سبر غور اللب، فيجد له حلاوة، فيستحسنه، وإلا فسيتهم بالخداع والتزوير، لعدم التوافق بين العنوان والمضمون. يعنى بالفعل ولا يقف عند حد القول؛ فهذه الندوات والمناظرات وحلقات النقاش..، ما هي إلا تلاقح للعقول والفهوم والخبرات، فإن لم يكن القصد من ورائها الوصول إلى ثمرات عملية في النفس أو المجتمع، فهي ضرب من النقاش والبحث المذموم، كما قال الإمام الشاطبي: "الاشتغال بالمباحث النظرية التي ليس لها ثمرة عملية مذموم شرعا"؛ لأنها ستكون مضيعة للوقت والجهد، وشغلا للعقل عما هو أجدر أن يشغل به. وقال الشاطبي فيما يتعلق بالعلم: "خذ من العلم لبه، ولا تستكثر من ملحه، وإياك وأغاليطه"، هذه قاعدة تتسع لتشمل قضايا وجوانب عدة في هذا السياق الذي نتحدث عنه.

ويقول عبد الوهاب عزام: "احذر أن يكون همك العنوان، وقصدك الدوي والضوضاء، واجهد أن تعنى بالفعل غير معني بالقول، وأن تطمح إلى الحقائق لا إلى الظواهر، وأن تحرص على أداء الواجب لا على الصيت، وأن تقصد وجه الله لا وجوه الناس. كن كتابا مفيدا وإن لم يكن له عنوان، ولا تكن كتابا كله عنوان وليس وراء العنوان شيء". هذا على المستوى الفردي، فكيف على مستوى إعلام يخاطب أمة بأكملها!!.

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة