(بعض) التديُّن حِجَاب!

0 982

يروي علماء السير أن إبراهيم بن جعفر زار الإمام أحمد وسأله فقال: يبلغني عن الرجل صلاح فأذهب فأصلي خلفه، فما ترى في ذلك؟

قال أحمد: انظر ما هو أصلح لقلبك فافعله!

وقد ذكر هذه القصة بعض من نقلوا مسائل الإمام أحمد، وأشار إليها ابن تيمية؛ كما في الفتاوى الكبرى (باب صلاة التطوع).

هنا خرج الإمام أحمد من التفضيل بين خيارات عدة في المسألة بإرجاع ذلك إلى الأثر الناتج عن الفعل، والذي يجده المكلف والعابد في قلبه.

وبمثل هذا الجواب يغدو المؤمن قادرا على التفضيل بين الأعمال المشروعة بأسباب من أهمها ملاحظة الفرق الخفي القلبي بين الأفعال..

وكأن الإمام أحمد بهذا يتجنب جدلا واسعا في المفاضلة بين أعمال ينشغل السالك بالجدل فيها وحولها عن فعلها، فيتحول إلى قوال يشعب ويشغب ولكنه لا يفعل، بينما الأمر متوقف على حال الإنسان وما يناسب قلبه ويخاطب لبه، وربما تحول العلم إلى منافسة وبغي وتسابق بين أهله على الدنيا!

الدين هو النص، هو الوحي، هو القرآن وصحيح السنن، هو الرباني المحض غير المشوب غير المتأثر بتعرجات الواقع ومنحنياته..

أما التدين فيقصد به التعبد والفعل والممارسة التي يقوم بها فرد أو مجموعة.. فهو التنزيل البشري على الأرض لذلك الأمر الإلهي السامي.

وهو في أحسن أحواله وأصدقها: تفاعل المؤمن مع النص الثابت؛ بحثا عن الصحيح في تفسيره ومعناه، والصحيح في تطبيقه وتحقيقه، وسعيا لتحسين الأداء طلبا للكمال.. وأنى بأرضنا الكمال!

وهذا الشرط يعبر عنه السلف بـ(الصواب).

وهو لا يعني الثناء على العمل حتى يضاف إليه شرط آخر هو مواطأة الباطن للظاهر بصدق النية والتوجه إلى الله وإرادته وحده.

وحين قرأ الفضيل قوله تعالى: {ليبلوكم أيكم أحسن عملا} (2:الملك)، فسرها بالأخلص والأصوب، وقال: (إن العمل إذا كان خالصا، ولم يكن صوابا، لم يقبل، وإذا كان صوابا ولم يكن خالصا لم يقبل، حتى يكون خالصا صوابا).

المرة الوحيدة التي نقل فيها عن موسى -عليه السلام- قول: (أنا)؛ هي حينما صعد المنبر -في أواخر عمره- وسئل: أي الناس أعلم؟ فقال: أنا، فعتب الله عليه إذ لم يرد العلم إليه، فأوحى الله إليه: أن عبدا من عبادي بمجمع البحرين هو أعلم منك..) (البخاري ومسلم عن أبي بن كعب).

موسى هو صاحب: {رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي} (16:القصص )، {رب اغفر لي ولأخي} (151:الأعراف )، {رب لو شئت أهلكتهم من قبل وإياي} (155:الأعراف )، والذي قال فيه محمد -صلى الله عليه وسلم-: كأني أنظر إلى موسى -صلى الله عليه وسلم- واضعا إصبعيه فى أذنيه له جؤار إلى الله بالتلبية مارا بهذا الوادي (رواه مسلم عن ابن عباس).

هو النبي الذي اختاره ربه لانكساره وتواضعه وإخباته؛ ليعالج طغيان التدين عند بني إسرائيل، ويعالج طغيان الحكم عند الفراعنة!

فكيف إذا اجتمعا عند فريق من الناس، ولو من المسلمين!

وبعد الجهد الطويل الضخم حكى الله عن هؤلاء قولهم: {نحن أبناء الله وأحباؤه} (18:المائدة )، وزعمهم أنه لن يدخل الجنة إلا هم!

وعن أولئك قول قائلهم: {يا أيها الملأ ما علمت لكم من إله غيري فأوقد لي يا هامان على الطين فاجعل لي صرحا لعلي أطلع إلى إله موسى وإني لأظنه من الكاذبين} (38:القصص).

لم تكن حكاية أنانيتهم وغرورهم بما يظنونه عندهم من العلم أو العمل أو السلطة لمجرد (وصم) أمة تعادي المسلمين، ولا لتمنح المسلمين سلاحا لمواجهتهم فحسب، كانت دعوة لهذه الأمة الخاتمة المختارة إلى التصحيح الذاتي، ومراقبة النفس؛ حذرا أن تقع فيما وقعوا فيه.

كانت سلاحا لقمع البغي والعدوان، والاغترار بالتدين الشكلي أو الظاهري؛ الذي لا يقرب إلى الله، بل يحجب عنه بالادعاء الأجوف..

وذلك حين يتحول التظاهر بالتدين إلى سلم للوصول إلى مصالح عاجلة فانية لفرد أو جماعة أو مجتمع..

أو يتحول إلى مكاسب مادية وتجارة دنيوية يتعجلها إنسان.. بينما الذين يتلون كتاب الله حق تلاوته، ويقيمون الصلاة، وينفقون في سبيل الله.. {يرجون تجارة لن تبور} (29:فاطر ).

أو يتحول لـ(فلكلور) شعبي وطقوس غريبة، وعادات مذمومة لا تسمو بالروح، ولا تعالج الأثرة وفساد الضمير.

أو يتحول إلى صفة تأخذ فوق قدرها الشرعي حتى تصبح فيصلا بين (الملتزم) و(غير الملتزم).

أو يتحول إلى غطاء لآفاتنا، وأمراضنا، وإخفاقاتنا، وفشلنا، وحماية لعيوبنا السياسية، والثقافية، والاجتماعية من النقد والمعالجة.

أو يتحول إلى لغة استعلاء وكبرياء على الآخرين، والكبر آفة تحرم المرء من جنة التدين الحق كما تحرمه من جنة الآخرة.

حين يطول الأمد وتقسو القلوب قد يتحول غيور إلى حراسة المركز والوظيفة والمكانة والمظهر والمكاسب الوهمية والوجاهة، ويغفل عن السعي في حصول الربانية والزلفى إلى الله والصفاء الداخلي، ويعجز عن الانفصال عما حوله من الأنماط الزائفة، يعجز عن متابعة الخليل حين قال: {إني ذاهب إلى ربي} (99:الصافات)، يعجز عن الهجرة إلى الله ورسوله بكليته؛ كما أرشد الإمام ابن القيم حين سطر: (طريق الهجرتين).

وهنا يصبح بعض ما يظنه العبد تدينا حجابا عن الله، وأعوذ بالله أن نكون ممن قال الله فيهم: {أفمن زين له سوء عمله فرآه حسنا} (8:فاطر)، وقال فيهم: {وجوه يومئذ خاشعة * عاملة ناصبة * تصلى نارا حامية * تسقى من عين آنية}(2-5:الغاشية)، وقال: {وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون} (47:الزمر).

قبل أن تضع قدمك على الطريق عليك أن تضع قلبك، فـ إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم . (رواه مسلم عن أبي هريرة).
 

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة