الصبر واليقين في حياة المسلم

0 1106

تمر بالمؤمن وبالأمة فترات من التحديات البالغة والصعاب الجمة لا يمكن مواجهتها ولا تجاوزها إلا برصيد وافر من الصبر العملي واليقين المبدئي ، وهذا الرصيد يرشح أهله لنيل درجة الأستاذية الاجتماعية ، وهو ما تؤكده السنة الربانية التي رسمتها الآية الكريمة { وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون } (سورة السجدة 24)، فصاغ العلماء هذه السنة صياغة جميلة بقولهم: " بالصبر واليقين تنال الإمامة في الدين " ، وكيف ترنو أبصار المؤمنين إلى قيادة ركب البشرية بشرع الله وتهفو أفئدتهم إلى ذلك إذا لم يثبتوا في واقعهم الدعوي والشخصي والاجتماعي جدارتهم لذلك عبر الصمود الواعي والثقة الكاملة في صحة المرجعية والمنهج وحتمية المآل ؟.

ومواجهة الباطل المنتفخ في ساحة التحدي والظلم شيء آخر غير التناول النظري في قاعات الدرس وحلقات المساجد ، ولم يستحق الأنبياء الكرام وبعدهم صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم منزلة القيادة الروحية والاجتماعية للبشرية إلا بعد أن جسدوا القيم التي يبشرون بها في حركة التدافع الاجتماعي وما تستصحبه من ألوان العنت والتضييق ، فما خارت عزائمهم ولا تسلل الوهن إلى دعوتهم ورؤيتهم ، فلما صدقوا الله صدقهم ، وأجرى سنة النصر والتمكين بعد الابتلاء والتمحيص.

عدة الصبر :
إن الصبر الذي يبدئ فيه القرآن ويعيد يشتمل على معاني امتلاك اللب والعقل ورباطة الجأش في ساعات المحن الشديدة والتحدي البالغ ، فهو ضد الطيش والخور ، ويشير إلى تحمل المؤمنين للعنت النفسي والمادي ، بصوره الإيجابية منها والسلبية ، كالثبات في ساحة المواجهة العسكرية والفكرية والسياسية والحضارية ، وتحمل مرارة حملات التشويه والانتقاص ، والاستمرار في النهج السلمي رغم إغراءات السلاح والتصعيد العنيف أثناء النزاعات الداخلية التي تلم بالمجتمع ، وقد ضرب الرسول صلى الله عليه وسلم أروع الأمثلة في كل هذه المجالات في مكة والمدينة ، ولولا صبره الكبير الطويل ما استطاع امتلاك قلوب القرشيين في نهاية المطاف رغم ما أصابه منهم من أشكال الأذى التي كانت لتستدرجه لحمل السلاح في وجه قومه لولا توفيق الله تعالى الذي أفرغ عليه صبرا وحبب إليه الخيارات السلمية الأكثر جدوى ، وذلك ما يظهر في عرض ملك الجبال عليه أن يطبق الخشبين على مناوئيه فأعرض عن الثأر والانتقام ومال إلى الطريق الطويل المضمون العواقب وقال: " أرجو أن يخرج الله عز وجل من أصلابهم من يعبده ولا يشرك به شيئا "  (رواه البخاري ومسلم).

أما في المدينة المنورة فكان على الرسول – صلى الله عليه وسلم – أن يواجه المشركين المتربصين بالإسلام وأهله من القبائل العربية والدولة الرومانية ويتيقظ في ذات الوقت للمنافقين المتواجدين داخل الصف الاسلامي ، المتظاهرين بالانتماء العقيدي إليه بينما هم يجوسون خلاله بأنواع المكر والكيد ، ومع أن النبي صلى الله عليه وسلم يعرفهم إلا أنه ظل إلى حين وفاته يصبر عليهم ، وكان يمكنه أن يقضي عليهم لكنه خشي قول الناس: إن محمدا يقتل أصحابه ، وإنه لأمر جلل ان يتحمل الصحابة مثل هذا الواقع ، لكن هذا ما أمروا به " فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل " سورة الأحقاف 35
وكان القرآن الكريم يذكرهم برصيد التجربة عند من خاضوا بتوفيق وسداد تجربة حمل الرسالة : { وكأين من نبي قاتل معه ربيون كثير فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا والله يحب الصابرين . وما كان قولهم إلا أن قالوا ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين } (سورة آل عمران 146-147).

تحمل ورثة الأنبياء من حملة الرسالة بصبر جميل كل ما أصابهم في سبيل الله ، فحفظهم الله من كل أنواع الهزات النفسية المهلكة كالوهن والضعف والاستكانة ، أي من الاستسلام للواقع المرير ومن الهزيمة النفسية التي تفضي إلى الانسحاب من ميدان المواجهة والدعوة والتدافع ، ومن الملفت أنهم لم يلقوا باللائمة على العدو الخارجي بل اشتغلوا بالإقبال على الله وتزكية النفوس بالتوبة ليستحقوا تنزل النصر من عند الله.
ولهذا كان شعار العصبة المؤمنة دائما أمام أقوامهم المخالفين لهم { ولنصبرن على ما آذيتمونا } ( سورة ابراهيم 12).
يؤثرون تحمل الأذى على الفتنة الداخلية التي لا تفيد الأمة والدعوة في شيء ، بهذا انتصروا..وباليقين كللوا نصرهم.

ذخيرة اليقين:
إذا كان الصبر يشير إلى الناحية العملية السلوكية عند الفرد والأمة فإن اليقين هو معيار القلوب و العقول ، يتناول الجانب الفكري المبدئي ، وهو الثقة الكاملة في أحقية الرسالة وسلامة المنهج وحتمية النصر والتمكين ، فالصف الاسلامي لا يساوره ريب في أنه على الحق طالما أنه مستمسك بوحي السماء وأن الله ناصره لا محالة ، لا يبرح مربع اليقين مهما انتفخ الباطل وانتفش ، ومهما بدت علامات الضعف على الجماعة المؤمنة في حالات الضراء ، لأن الحق حق دائما ، ولو اغتر المغترون في وقت من الأوقات بهذا الباطل وقوته وسطوته وتبرجه ، وإنما يحز في نفوس المؤمنين ما يكون عليه بعضهم من التباس بين حق أبلج وبين الباطل وهو سافر ، عندما تعمل الشائعات والتلاعب النفسي والمصالح القريبة فعلها فتصيب بعض الرموز فيكونون فتنة لبعض المخلصين وأصحاب التدين العاطفي ، يظهر يقين المؤمنين عند غلبة الشبهات أحيانا وغلبة الشهوات أحيانا أخرى ، أما المتسلحون باليقين فلا يزيدهم التحدي الكبير إلا عزيمة وإصرارا وثباتا : {الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم ايمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل } (سورة آل عمران 173).

ليس هذا كلاما من الماضي، بل هو معالم إيمانية تهدي السالكين لطريق نصرة الدين وخدمة الأمة في كل زمان ، يبقى غضا طريا مهما تباعدت الأحقاب واختلفت الأمصار ، أكدت الأحداث جدواه مرة بعد مرة كلما واجه المسلمون حالات العدوان والتحدي ، وجربه الدعاة والمصلحون والدعاة وقادة الفكر والرأي واستيقنوه ، فكم ذلل اليقين من صعاب وكم مكن الصبر المؤمنين من تحقيق النصر والفوز في ظروف اليأس والقنوط .
 

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة