جناية الفرق الكلاميّة على مصطلح التأويل

0 1517

الجناية على المصطلحات الشرعية كما يعرفها الباحثون: "التعدي على المصطلحات الشرعية باستبدالها بمصطلح آخر، أو تحريف معناها وتحميلها بمفاهيم مغلوطة، لخدمة مذهب أو لاتباع هوى، أو لتشويه الإسلام وأهله أو غيرها من الأغراض".

وهذه الجناية الحاصلة على المصطلحات الإسلامية كثيرة ومشتهرة، يجدها المشتغلون في العلم حاضرة في عدد من الأبواب والفصول العلمية الشرعية بمختلف متعلقاتها، وما يهمنا هنا هو تسليط الضوء على الجناية الحاصلة من الفرق الكلامية على مصطلح شرعي له معان سامية ومدلولات ظاهرة حقة لا باطل فيها، وهي جناية متعمدة، أريد بها تزويق الباطل وإلباسه لباسا حسنا، يتقبله العامة والبسطاء، ويسهل تمريره عليهم، خصوصا وأن الشارع الحكيم ومن خلاله كتابه المبين، ورسوله الأمين، قد استخدام هذه المصطلحات، ما يجعلها ذا قدسية عند السامع، وبالتالي تحصل الكارثة من تقبل المصطلح الصحيح بمعناه الباطل. 

ومن تلك الألفاظ الشرعية التي حملت معنى خرج بها عن حقيقة المراد منها مصطلح "التأويل"، وهو مصطلح عقدي معروف، فلننظر مدى الجناية الحاصلة عليه.

التأويل بمعنى التفسير

أول المعاني الصحيحة للفظ "التأويل" هو التفسير؛ لأن التأويل في اللغة مصدر للفعل: أول يؤول تأويلا، وهو بمعنى التفسير، يقول ابن منظور: "..وأول الكلام وتأوله: دبره وقدره، وفسره ورجع به إلى مراد المتكلم".

والتأويل والتفسير: لفظان مترادفان لمعنى واحد، كما يقول أبو العباس أحمد بن يحيى: " التأويل والمعنى والتفسير واحد"، وقد ورد استخدام مصطلح التأويل بهذا المعنى في قوله تعالى: {ودخل معه السجن فتيان قال أحدهما إني أراني أعصر خمرا وقال الآخر إني أراني أحمل فوق رأسي خبزا تأكل الطير منه نبئنا بتأويله إنا نراك من المحسنين} (يوسف:36) والمقصود به تفسير الرؤيا، وكذلك في الدعاء الشهير الذي دعا به النبي -صلى الله عليه وسلم- لعبد الله بن عباس رضي الله عنهما إذ قال: (اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل) رواه أحمد في مسنده، وهو أحد المعنيين المذكورين في تفسير الآية الكريمة: {وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم} (آل عمران:7).

وقد دأب كثير من المفسرين على استخدام مصطلح التأويل بمعنى التفسير، ومن أشهر وأول من فعل ذلك: إمام المفسرين ابن جرير الطبري، فقد أكثر من استخدام مصطلح (التأويل) بمعنى (التفسير)؛ إذ إننا كثيرا ما نجده يقول: "القول في تأويل قوله تعالى كذا وكذا " أو تعبيره: "اختلف أهل التأويل في هذه الآية على عدة أقوال". فابن جرير وغيره من المفسرين قد اعتادوا استخدام مصطلح (التأويل) بمعنى (التفسير).

التأويل بمعنى حقيقة الشيء

وهذا مأخوذ من الفعل "أول" بمعنى "عاد"، يقال: آل الأمر إلى زيد، أي: عاد الأمر ورجع إليه، ومنه نفهم معنى قولهم: "مآل المؤمنين إلى الجنة" أي: مرجعهم إلى الجنة، ومنه كذلك: "آل فلان" وهم الذين ينتسب إليهم ويرجع إليهم، والصلاة الإبراهيمية على محمد وعلى آل محمد وإبراهيم وآل إبراهيم باعتبار أنهم يرجعون إليهما، ومنه قوله تعالى: {وإذ نجيناكم من آل فرعون} (البقرة:49) وهم المنتسبون إلى فرعون.

والتأويل هنا بمعنى الحقيقة التي يؤول إليها الكلام، والكلام كما هو معروف، إما أن يكون خبرا، فتأويل الخبر يكون بوقوع ما أخبر به، أو طلبا -طلب الفعل وطلب الترك، الأمر والنهي-، فيكون تأويل الكلام بامتثال الطلب الوارد فعلا أو تركا.

ومن التأويل للأخبار: قول الله تعالى: {بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله} (يونس:39)، يقول الواحدي في تفسيرها: "{بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه} أي: بما في القرآن من الجنة والنار والبعث والقيامة {ولما يأتهم تأويله} ولم يأتهم بعد حقيقة ما وعدوا في الكتاب" ونحوا من ذلك قول الحق تبارك وتعالى: {هل ينظرون إلا تأويله يوم يأتي تأويله يقول الذين نسوه من قبل قد جاءت رسل ربنا بالحق فهل لنا من شفعاء فيشفعوا لنا أو نرد فنعمل غير الذي كنا نعمل} (الأعراف:53) والمقصود به معرفة حقيقة ما أخبروا به من أمر المعاد.

ومن التأويل للطلب، ما جاء في "الصحيحين"عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يكثر أن يقول في ركوعه وسجوده: (سبحانك اللهم وبحمدك، اللهم اغفر لي)، يتأول القرآن. بمعنى: يمتثل بما أمر به في قول الباري سبحانه: {فسبح بحمد ربك واستغفره} (النصر:3).

الـتأويل بصرف اللفظ عن ظاهره

المعنى الثالث للتأويل: صرف اللفظ عن ظاهره إلى ما يحتمله اللفظ لدليل يقترن بذلك، وهذا وإن كان مصطلحا حادثا عند المتأخرين، إلا أنه يعتبر محمودا حينما يدل عليه دليل في السياق أو غيره، ليعود بذلك إلى المعنى الأول للتأويل وهو التفسير، ومن أمثلته قول الله تعالى: {أتى أمر الله فلا تستعجلوه} (النحل:1) المعنى: سيأتي أمر الله، ومخالفة ظاهر اللفظ جاءت لأجل سياق الآية، وهو قوله سبحانه: {فلا تستعجلوه}. ومن أمثلته كذلك، قول الله تعالى: {واسأل القرية} والمسؤول بالحقيقة أهل القرية، فصار تأويلها: واسأل أهل القرية؛ لأن القرية نفسها لا يمكن توجيه السؤال إليها.

التأويل بمعنى التحريف

ثمة معنى آخر للتأويل، لكنه تحريف بين لمعاني النصوص الشرعية، وهو مذموم من كل وجه، وهو صرف اللفظ عن ظاهره إلى معنى مرجوح، لم يدل عليه دليل معتبر، وهذا هو التأويل المذموم الذي جر الويلات على الأمة الإسلامية وكان سببا في نشوء الفتن العقدية بمختلف أنواعها وحدوث الافتراق بين أبنائها.

ومن أمثلته الشهيرة: تحريف اليد في قوله تعالى {بل يداه مبسوطتان} (المائدة:64) إلى معنى القوة، وتحريف الاستواء في قوله تعالى {الرحمن على العرش استوى} (طه:5) إلى الاستيلاء والمغالبة، وكذا عدد كبير من معاني الصفات الإلهية والأفعال الربانية.

الجناية الحقيقية على لفظ التأويل

إن حقيقة ما يقوم به أهل البدع هو التحريف الواضح للمعاني الصحيحة للنصوص العقدية، ولا سيما في باب الأسماء والصفات، فحتى يصلوا إلى قلوب الناس ويقنعوهم بمسلكهم العقدي المنحرف، عدلوا عن لفظ التحريف إلى لفظ التأويل ذي المعاني الصحيحة التي أشرنا إليها من قبل، ليسهل على الناس أن يتقبلوا هذه الانحرافات الخطيرة دونما نكير، لذلك فالواجب على الغيورين من أهل الإسلام أن ينتبهوا لهذا المسلك المنحرف، وأن يصروا على تسمية الأمور بمسمياتها الحقيقية، فيعبروا عن هذه الفعلة بالتحريف؛ لأن التحريف باطل من كل وجه، وهو موافق للفظ القرآني المذكور في قوله تعالى: {من الذين هادوا يحرفون الكلم عن مواضعه} (المائدة:41)، ولأنه أشد تنفيرا عن هذه الطريقة المخالفة للطريق الشرعي الصحيح.  

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة