- اسم الكاتب:إسلام ويب (د. عبد الله عطا عمر)
- التصنيف:ناسخ الحديث ومنسوخه
اهتم العلماء قديما وحديثا بالأحاديث المتعارضة، فمنهم من أفرد لهذا العلم تأليفا خاصا به، ومنهم من أورده أثناء شرحه للأحاديث، ويعتبر الإمام الشافعي من أوائل من ألف فيه، سواء في ذلك ما كتبه في كتابه "اختلاف الحديث"، أو ما تضمنته بقية كتبه الأخرى كـ "الرسالة"، و"الأم" من كلام حول الأحاديث المتعارضة.
وقبل أن نتحدث عن منهج الإمام الشافعي في التعامل مع الأحاديث المتعارضة يحسن بنا أن نقرر أن الأحاديث النبوية الصحيحة لا يمكن أن تتعارض في حقيقة الأمر، إنما يكون التعارض من حيث الظاهر، فالتعارض في اللغة كما يقول الإمام السرخسي هو اعتراض كل واحد من الأمرين الآخر، وهو مأخوذ من أن كل أمر أصبح في عرض الآخر، وقال: هي تقابل الحجتين المتساويتين على وجه يوجب كل واحد منهما ضد ما توجبه الأخرى، كالحل والحرمة، والنفي والإثبات.
وقد ذكر الإمام الشوكاني بعض الشروط الواجب توفرها في الدليلين المتعارضين حتى يكونا في قوة واحدة؛ إذ لا مقابلة للضعيف مع القوي، منها: التساوي في القوة، فلا تعارض بين الحديث المتواتر والآحاد، والتساوي في الثبوت، كأن يكون أحدهما قطعي الثبوت، والآخر ظني، فلا تعارض بين دليل من القرآن وبين خبر الواحد، واتفاقهما في الحكم مع اتحاد الوقت والمحل والجهة، فلا تعارض بين النهي عن البيع وقت النداء مع الإذن به في غيره.
والتعارض هو أمر صوري لا حقيقي، ويمكن أن يجري بين الأدلة القطعية فيما بينها، وبين الأدلة الظنية كذلك. وهناك فرق واضح بين التعارض والتناقض، فالتعارض يكون من حيث الظاهر فقط، ويجري في الأدلة الشرعية الدالة على الأحكام، وهي غالبا ما تكون إنشاء أي (إما أمرا أو نهيا) ويترتب عليه نتائج منها: الجمع والتوفيق بين الأدلة، أو بيان الناسخ منهما وترجيحه، أو ترجيح أحد الدليلين على الآخر بقرينة من قرائن الترجيح. أما التناقض فيكون في واقع الأمر، ومحله القضايا الكبرى، ويكون في القضايا الخبرية.
يتعامل الإمام الشافعي مع النصوص المتعارضة وفق مراحل ثلاث، مرتبة حسب الترتيب التالي: مرحلة الجمع والتوفيق بين الأحاديث، ثم مرحلة البحث عن الناسخ والمنسوخ، ثم مرحلة الترجيح بينهما بوجه من الوجوه.
المرحلة الأولى: هي مرحلة الجمع بين الروايات بوجه مقبول من غير تعسف؛ وذلك لأنه إذا أمكن ذلك كان العمل بهما متعينا، ولا يصار إلى الترجيح في حالة إمكان العمل بهما معا، وذلك لأن إعمال الدليلين أولى من إهمال أحدهما وترجيح الآخر عليه؛ لأن الأصل العمل بالدليل لا إهماله، كما هو مقرر عند العلماء. وفي هذا يقول الإمام الشافعي: "ولزم أهل العلم أن يمضوا الخبرين على وجوههما ما وجدوا لإمضائهما وجها، ولا يعدونهما مختلفين وهما يحتملان أن يمضيا، وذلك إذا أمكن فيهما أن يمضيا معا، أو وجد السبيل إلى إمضائهما، ولم يكن منهما واحد بأوجب من الآخر". ويقول أيضا: "وكلما احتمل حديثان أن يستعملا معا استعمالا، ولم يعطل واحد منهما الآخر. ويقول: ولا ينسب الحديثان إلى الاختلاف ما كان لهما وجه يمضيان معا، إنما الاختلاف ما لم يمضيا إلا بسقوط غيره، مثل أن يكون الحديثان في الشيء الواحد هذا يحله وهذا يحرمه".
والذي يتأمل كتاب "اختلاف الحديث" للإمام الشافعي يجد هذا الأمر جليا واضحا، فهناك الكثير من الأحاديث التي تظهر وكأنها متعارضة، يزيل الإمام الشافعي ما فيها من التعارض بالتوفيق بينها، وجمع رواياتها، دون المصير إلى وجوه الترجيح أو البحث عن الناسخ والمنسوخ فيها، والأمثلة على هذا في كتابه كثيرة جدا، ومنها: قوله في باب القراءة في الصلاة، حيث يورد عدة أحاديث متعارضة، ثم يقول: "وليس نعد شيئا من هذا اختلافا؛ لأنه صلى الله عليه وسلم قد صلى الصلوات مرات عديدة، فيحفظ الرجل قراءته يوما، والرجل قراءته يوما غيره، وقد أباح الله في القرآن بقراءة ما تيسر منه، وسن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقرأ بأم القرآن وما تيسر، فدل على أن اللازم في كل ركعة قراءة أم القرآن وفي الركعتين الأوليين ما تيسر معها".
وهناك عدة حالات يمكن فيها العمل بالحديثين المتعارضين، منها: أن يكون حكم الدليلين المتعارضين قابلا للتبعيض، وأن يكون حكم كل واحد من الدليلين متعددا، أي يحتمل أحكاما كثيرة، كأن يقتضي أحدهما الصحة والآخر نفي الكمال، أو أن يكون حكم كل من الدليلين عاما، أي متعلقا بأفراد كثيرة، فيمكن العمل بالدليلين بتوزيعها على الأفراد، فيتعلق حكم أحدهما بالبعض، ويتعلق حكم الآخر بالبعض الآخر.
المرحلة الثانية: مرحلة البحث عن الناسخ والمنسوخ، والعمل بالناسخ منهما، ويلجأ الإمام الشافعي إليه عند تعذر العمل بالدليلين معا، ولقد كان رحمه الله تعالى من أعلم الناس بعلم الناسخ والمنسوخ، ويدل على هذا قول الإمام أحمد: "ما عرفنا ناسخ سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم من منسوخها ولا خاصها ولا عامها ولا مجملها ولا مفسرها حتى جالسنا الشافعي". وعن هذه المرحلة يقول الإمام الشافعي: "وفي الحديث ناسخ ومنسوخ، فإذا لم يحتمل الحديثان إلا الاختلاف، كان أحدهما ناسخا والآخر منسوخا، ولا يستدل على الناسخ والمنسوخ إلا بخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو بقول، أو بوقت يدل على أن أحدهما بعد الآخر، فيعلم أن الآخر الناسخ، أو بقول من سمع الحديث".
ولا شك أن معرفة الناسخ والمنسوخ من أحاديث المصطفى صلى الله عليه وسلم من أهم العلوم وأوجبها، لمن يريد التعامل مع الأحاديث المتعارضة، فالأحاديث المتعارضة على قسمين، كما يقول ابن الصلاح: "قسم يمكن فيه الجمع بين الحديثين، ولا يتعذر إبداء وجه ينفي تنافيهما، فيتعين حينئذ المصير إلى ذلك والقول بهما معا، والقسم الثاني أن يتعارضا بحيث لا يمكن الجمع بينهما، وذلك على ضربين أن يظهر كون أحدهما ناسخا والآخر منسوخا، فيعمل بالناسخ منهما ويترك المنسوخ، والثاني أن لا تقوم دلالة على الناسخ منهما، فيفزع إلى الترجيح، ويعمل بالأرجح منها".
المرحلة الثالثة: وهي الترجيح بين الدليلين، بأحد المرجحات، ويلجأ إليها الإمام الشافعي ومن بعده من علماء الشافعية إذا كان الدليلان مما لا يمكن وقوع النسخ فيهما، أو كانا مما يمكن ولكن لم يوقف على المتأخر منهما، فحينئذ يفزع إلى الترجيح، وفي هذا يقول الإمام الشافعي: "ولم نجد عنه شيئا مختلفا فكشفناه، إلا وجدنا له وجها يحتمل ألا يكون مختلفا، وأن يكون داخلا في الوجوه التي وصفت، ولم نجد عنه حديثين مختلفين إلا ولهما مخرج، أو على أحدهما دلالة بأحد ما وصفت إما بموافقة كتاب أو غيره من سنته أو بعض الدلائل".
هذه هي المراحل التي يعتمدها الإمام الشافعي ويسير عليها أثناء تعامله مع الأحاديث المتعارضة. أما وجوه الترجيح التي يرجح بها بين الأحاديث فهي كثيرة جدا. وحول هذا المعنى نجد أن الإمام الشافعي يلخص منهجه في الترجيح في هذا الحوار اللطيف، حيث يقول فيه: "إن الأحاديث إذا اختلفت لم نذهب إلى واحد من وجوه الترجيح، دون غيره، إلا بسبب يدل على أن الذي ذهبنا إليه أقوى من الذي تركنا، قال: وما ذلك السبب؟ قلت: أن يكون أحد الحديثين أشبه بكتاب الله تعالى، فإذا أشبه كتاب الله كانت فيه الحجة، قال: هكذا نقول، قلنا: فإن لم يكن فيه نص كتاب الله كان أولاهما بنا الأثبت منهما، وذلك أن يكون من رواه أعرف إسنادا، وأشهر بالعلم وأحفظ له، أو يكون الراوي الذي ذهبنا إليه من وجهين أو أكثر، والذي تركنا من وجه، فيكون الأكثر أولى بالحفظ من الأقل، أو يكون الذي ذهبنا إليه أشبه بمعنى كتاب الله، أو أشبه بما سواهما من سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو أولى بما يعرف أهل العلم أو أصح في القياس، والذي ذهبنا إليه هو ما عليه الأكثر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم".
ويبين الإمام الشافعي أهمية الإسناد في الترجيح بين الأحاديث، ويظهر حرصه على هذا الأمر حيث يقول: "وكل حديث كتبته منقطعا، فقد سمعته متصلا أو مشهورا عمن روي عنه بنقل عامة عن عامة من أهل العلم، ولكني كرهت وضع حديث لا أتقنه حفظا، وغاب عني بعض كتبي، وتحققت بما يعرفه أهل العلم مما حفظت، فاختصرت خوف طول الكتاب، فأتيت ما فيه الكفاية دون تقصي العلم في كل أمره". ويقول عن أهمية العدل والضبط: "وليس للعدل علامة تفرق بينه وبين غير العدل، في بدنه ولا لفظه، وإنما علامة صدقه بما يختبر من حاله في نفسه، فإذا كان الأغلب من أمره ظاهر الخير قبل، وإن كان فيه تقصير عن بعض أمره؛ لأنه لا يعري أحد رأيناه من الذنوب، وإذا خلط الذنوب والعمل الصالح، فليس فيه إلا الاجتهاد على الأغلب من أمره بالتمييز بين حسنه وقبيحه، وإذا كان هكذا فلا بد أن يختلف المجتهدون فيه، وإن ظهر حسنه، فقبلنا شهادته، فجاء حاكم غيرنا، فعلم منه ظهور السيء كان عليه رده".
المرحلة الرابعة: وهناك مرحلة رابعة لم يستعملها الإمام الشافعي إنما استعملها بعض علماء الشافعية من بعده، عند تعارض الأحاديث، وهي مرحلة تساقط الدليلين، وذلك حالة تعذر الوجوه السابقة أو أي منها، فيترك العمل بهما، ويعمل بغيرها من الأدلة، كأن الواقعة حينئذ لا نص فيها، وهذه صورة فرضية لا وجود لها في الحقيقة، وقد كان الإمام ابن خزيمة من أعلم الناس في هذا العلم، وكان يقول: "ليس ثم حديثان متعارضان من كل وجه، ومن وجد شيئا من ذلك فليأتني به، لأولف له بينهما".
مما تقدم يتبين لنا أن منهج الإمام الشافعي في تعامله مع الأحاديث المتعارضة، لا يختلف كثيرا عن منهج غيره من علماء الحديث. وأختم بقول الإمام الشافعي: "إذا كان الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا مخالف له عنه، وكان يروى عمن دون رسول الله صلى الله عليه وسلم، حديث يوافقه لم يزده قوة، وحديث النبي صلى الله عليه وسلم مستغن بنفسه، وإن كان يروى عمن دون رسول الله صلى الله عليه وسلم حديث يخالفه لم يثبت إلى ما خالفه فحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم أولى أن يؤخذ به".