- اسم الكاتب:إسلام ويب
- التصنيف:الإيمان باليوم الآخر
رحمة الله الواسعة التي شملت كل شيء كان لها حضور خاص في أمة الحبيب محمد -صلى الله عليه وسلم-، وهي رحمة لها ارتباط محكم بالحكمة الإلهية والمشيئة الربانية، فكان من رحمة الله بها أن لا تكون هذه الأمة معذبة! فكيف يكون ذلك؟
تأتي الإجابة من النبي صلى الله عليه وسلم؛ لتزيل اللبس عن هذه القضية، فقد تكون من مقتضيات الرحمة أن تأتي بلباس الشدة، فكان من رحمة الله بهذه الأمة أن يعجل البلاء على هذه الأمة في الدنيا تمحيصا للذنوب، وتحقيقا للصبر والإيمان، وزيادة في الحسنات، ورفعة في الدرجات، وتكفيرا للسيئات، فها هو النبي صلى الله عليه وسلم، يقول: (أمتي هذه أمة مرحومة، ليس عليها عذاب في الآخرة، عذابها في الدنيا الفتن والزلازل والقتل) رواه أبو داود، قال الألباني: صحيح.
وهنا يأتي السؤال الأهم في هذا الموضوع: كيف يمكن أن نربط بين مفهوم: "الرحمة بالأمة المحمدية" وبين "أشراط الساعة" كقضيتين مستقلتين قد لا يكون الرابط بينهما واضحا، فإن مجرد التقدير الإلهي بتعجيل الكفارات والابتلاءات على أمة أمر مستقل عن العلامات التي جعلت من قبل الخالق لتدل على قرب قيام الساعة.
للإجابة عن هذا السؤال ينبغي أن نورد حديثا آخر في غاية الأهمية له علاقة مباشرة بالموضوع، وهو حديث طويل رواه الصحابي الجليل عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه، يحدث عن جلسة من الجلسات النبوية التي كان يجلسها النبي صلى الله عليه وسلم مع أصحابه في أسفاره، ويذكر عبد الله كيف نودي للصلاة، فإذا بالنبي عليه الصلاة والسلام قائم والناس حوله، يقول: (إنه لم يكن نبي قبلي إلا كان حقا عليه أن يدل أمته على خير ما يعلمه لهم، وينذرهم شر ما يعلمه لهم، وإن أمتكم هذه جعل عافيتها في أولها، وسيصيب آخرها بلاء، وأمور تنكرونها..) رواه مسلم.
نحن نعلم من خلال دراسة السيرة أن الأمة في صدرها الأول كانت تعاني شيئا من البلاءات في الدين، وقد سمعنا الكثير من المواقف التي تدل على الاضطهاد الحاصل بالرعيل الأول لأجل فتنتهم عن دينهم، لكن هذا البلاء وعلى الرغم من وجوده هو أقل مما كان يبتلى به أتباع الأنبياء ممن كانوا قبل هذه الأمة، بدلالة حديث خباب بن الأرت رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: (كان الرجل فيمن قبلكم يحفر له في الأرض، فيجعل فيه، فيجاء بالمنشار فيوضع على رأسه فيشق باثنتين، وما يصده ذلك عن دينه، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه من عظم أو عصب، وما يصده ذلك عن دينه) رواه البخاري.
إذن، يمكننا القول: إن حال الأمة عندما أشرق شمسها كان المعافاة والرحمة إجمالا، وهذه المعافاة أخذت أشكالا متنوعة، فالمعافاة في الدين التي حصلت بعد الهجرة النبوية، والالتفاف حول النبي صلى الله عليه وسلم، ووحدة الصف والنصر على الأعداء، ثم انتشار الإسلام وقوة المسلمين، والحكم بالشريعة، وغير ذلك من مظاهر المعافاة هي صور تشهد بالرحمة التي حدثت للأمة في أيامها الأولى.
أما بعد ذلك، فقد دب الوهن في الأمة في شتى الميادين، وظهرت فيهم دلائل التغيير والتبديل في الحال، وأصبحنا نسمع عن الفتن والابتلاءات على جميع المستويات، وأخذت دائرة الفتن الحاصلة بين أفراد الأمة تتسع شيئا فشيئا، وتزيد ولا تتناقص، مصداقا لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (وتجىء فتنة فيرقق بعضها بعضا) رواه مسلم، بل حتى الكوارث البيئية كالزلازل ونحوها في تزايد مطرد –بالنسبة لأعمار الأمم-، ناهيك عن الاقتتال الداخلي بين المؤمنين، وهي أمور تدل وبوضوح أن البلاء حاصل في هذه الأمة بما لم يكن موجودا أو معروفا في أولها، ولذلك عبر النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث السابق بقوله: (وأمور تنكرونها) فهي أمور تخالف هدي النبي عليه الصلاة والسلام، وتتعارض مع مسلمات الشرع ومحكماته.
ومن بين تلك الفتن، ما حدث من الافتراق في مسائل الخلافة والإمامة، وتسابق الناس على الكرسي، وما يترتب على ذلك من إراقة الدماء وإزهاق الأرواح، إلا أن سياق الحديث عام، والعبرة بعموم اللفظ كما يقول العلماء.
وقد لخص لنا القاضي عياض تصوره عن هذه الفتن ومبدئها فقال: ".. بين فى حالة الصدر الأول من زمن الخليفة بعد النبى صلى الله عليه وسلم، وعلو كلمة الإسلام وظهوره، واجتماع كلمتهم، وسلامة حالهم، واستقامة طريقتهم، ثم جاء من البلاء والفتنة وتغير الحال ما كانوا عليه قبل، والاختلاف من زمن عثمان رضي الله عنه إلى وقتنا هذا".
ولئن كانت هذه الفتن تزعج المؤمن وتصيبه بالدهشة والحيرة، إلا أنه لا ينسى أبدا أنها بالرغم من قسوتها وشدتها، أهون من عذاب الآخرة، الذي غمسة في نار جهنم تكفي أن تنسي المرء كل ما ناله من ملذات الدنيا ونعيمها، فالحمد لله على هذه "الرحمة" التي تحقق في أمتنا قول الحق تبارك وتعالى: {وليمحص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين} (آل عمران:141).